قمة "الناتو"... تصحيح المسار العسكري والأمني

هيكل أمني أوروبي جديد

رويترز
رويترز
صورة جماعية لزعماء حلف شمال الأطلسي في قمة (الناتو) في لاهاي بهولندا في 25 يونيو

قمة "الناتو"... تصحيح المسار العسكري والأمني

عقد رؤساء دول وحكومات حلف شمال الأطلسي (الناتو) قمتهم السنوية في لاهاي يومي 24 و25 يونيو/حزيران، في ظل استمرار الحرب بين أوكرانيا وروسيا، والأزمة المتفاقمة في الشرق الأوسط.

وناقش قادة "الناتو"، أقدم تحالف سياسي-عسكري في العالم، سبل التعامل مع التحديات الجيوسياسية الراهنة، مع الحفاظ على وحدة الصف داخل الحلف وضمان فعالية أداء المنظمة بأقصى قدر من الكفاءة.

وقبيل انعقاد قمة لاهاي، حدّد مارك روته، الأمين العام لـ"الناتو"، أولويات الاجتماع، والتي تمثلت في: زيادة الإنفاق الدفاعي، وتعزيز الإنتاج الصناعي العسكري، وتقديم الدعم المستمر لأوكرانيا.

وأشار البيان الختامي للقمة، المؤلف من خمس فقرات فقط، وهو الأقصر في تاريخ بيانات قمم "الناتو"، إلى موقف الحلف الموحد بشأن رفع الإنفاق الدفاعي وتعزيز القدرات العسكرية.

وقد أرغمت الهجمات الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، إلى جانب سياسة القوة التي تنتهجها موسكو وقدرتها على الحفاظ على قوتها القتالية رغم العقوبات الغربية، أرغمت حلف "الناتو" على إعادة النظر في استراتيجياته وهيكليته، ما أدى إلى إطلاق عملية تسلّح شاملة تُعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة.

ويصنّف المفهوم الاستراتيجي لـ"الناتو" روسيا كأحد التهديدين الرئيسين لأمن منطقة أوروبا والمحيط الأطلسي، إلى جانب الإرهاب.

وتركزت قمة لاهاي، إلى حد كبير، على استرضاء الرئيس ترمب، وكانت تلك أول قمة لـ"الناتو" يحضرها منذ بدء ولايته الرئاسية الثانية.

وكما في سائر الملفات، واصل ترمب إصراره العلني على أنه ورث تركة شديدة السوء من سلفه جو بايدن، حتى في ما يخص حلف "الناتو" والأمن الدولي.

ولم يُخفِ دونالد ترمب يوما نظرته السلبية تجاه الحلف، إذ يرى في "الناتو" عبئا على الولايات المتحدة، ويعتبر أن أمواله تُنفق بصورة غير مجدية، فضلا عن تحمّل واشنطن قسطا غير منصف من الأعباء. كما يُعرب عن استيائه من الدعم الموجّه لأوكرانيا، داعيا إلى اعتماد نهج مغاير في التعامل مع روسيا.

وقد فرض ترمب رؤيته على الحلف، فبعد اجتماعه المثير للجدل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي في فبراير 2025، بدأت إدارته التواصل مع روسيا من دون التشاور مع حلفاء "الناتو"، ولا حتى مع أوكرانيا.

وفي خضم هذا المسار، بدا أن ترمب أصيب بخيبة أمل من سلوك موسكو، واعتبر أنها تخدعه. ومع ذلك، لم يُبدّل موقفه. فمن وجهة نظره، يقتضي تحقيق السلام تنازل أوكرانيا عن الأراضي التي احتلتها روسيا وضمتها.

ولا يبدي ترمب أي رغبة في مناقشة مسألة انضمام أوكرانيا إلى "الناتو"، كما أنه لا يدعم تقديم أي ضمانات أمنية لكييف.

وعلى خلاف ما جرى في القمم السابقة، وردت الإشارة إلى أوكرانيا في البيان الختامي بشكل غير مباشر، وفي إطار خطط الحلف الجديدة للإنفاق الدفاعي. كما اتسمت الصياغات المتعلقة بروسيا بقدر كبير من المرونة.

لا يبدي ترمب أي رغبة في مناقشة مسألة انضمام أوكرانيا إلى "الناتو"، كما أنه لا يدعم تقديم أي ضمانات أمنية لكييف

وقد تضمن برنامج الرئيس زيلينسكي في لاهاي لقاء مع رئيس الوزراء الهولندي والملك، وإلقاء خطاب في البرلمان، والمشاركة في العشاء الرسمي، غير أنه، خلافا لما جرى في القمم السابقة، لم يُدعَ إلى حضور الجلسات الرسمية للقمة.

مع ذلك، اجتمع زيلينسكي وترمب على انفراد، وتبادل الطرفان عبارات ودية، من دون أن يُسفر اللقاء عن أي جديد بشأن التعاون في مواجهة العدوان الروسي.

لطالما شكّل حجم الإنفاق الدفاعي قضية رئيسة داخل حلف شمال الأطلسي. وكان الحلفاء قد اتفقوا في وقت سابق على تخصيص ما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني للإنفاق الدفاعي. وفي عام 2024، خصصت 23 دولة من أصل 32 نسبة 2 في المئة أو أكثر من ناتجها المحلي للدفاع، فتصدّرت بولندا القائمة بإنفاق تجاوز 4 في المئة، في حين جاءت إسبانيا في ذيل الترتيب بأقل من 1.3 في المئة.

ومع تصاعد ضغوط ترمب لرفع النسب، وافق الحلفاء على استثمار 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المجال الدفاعي، في خطوة اعتُبرت انتصارا للرئيس الأميركي.

رويترز
دونالد ترامب يتحدث خلال مؤتمر صحفي في قمة حلف شمال الأطلسي في لاهاي، هولندا، 25 يونيو

وسيضم هذا الالتزام فئتين أساسيتين، حيث يُخصّص ما لا يقل عن 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتلبية المتطلبات الدفاعية الأساسية، وما يصل إلى 1.5 في المئة لحماية البنية التحتية الحيوية وتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية.

لم تكن جميع الدول مرتاحة لهذا المقترح، وكانت إسبانيا الأوضح في التعبير عن معارضتها، غير أن جميع الأعضاء وافقوا عليه في نهاية المطاف.

وقد أسهمت مراجعة مسار وتوازن الإنفاق المتوقعة بحلول عام 2029، إلى جانب تحديد عام 2035 كموعد مستهدف، في دفع الحلفاء للتوصل إلى حل وسط.

ووجد الأمين العام لـ"الناتو"، مارك روته، نفسه مضطرا إلى المناورة بين مطالب ترمب ومواقف بقية القادة، وتمكّن من بناء علاقة عمل متوازنة وبرغماتية مع الرئيس الأميركي، الذي يعرفه منذ أن كان رئيسا للوزراء.

وقبيل انعقاد القمة، بعث روته برسالة مجاملة إلى ترمب قال فيها: "تنتظرك الليلة في لاهاي نجاحات كبيرة أخرى. لم يكن الأمر سهلا، لكننا حصلنا على توقيع الجميع على نسبة 5 في المئة". كما هنّأه على "تحركه الحاسم في إيران". وسارع ترمب إلى نشر هذه الرسائل عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتسعى إدارة ترمب إلى إعادة رسم علاقاتها مع أوروبا على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، إذ فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على أوروبا وكندا، ودعت الأوروبيين إلى تحمّل مسؤولية أمنهم بأنفسهم.

تسعى إدارة ترمب إلى إعادة رسم علاقاتها مع أوروبا على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية

يدرك الحلفاء الأوروبيون أنهم بحاجة إلى القوة العسكرية الأميركية والردع النووي من أجل حماية أوروبا، لكنهم في المقابل بدأوا في بناء هيكل أمني أوروبي جديد يهدف إلى تقليص اعتمادهم على الولايات المتحدة.

وفي مارس/آذار 2025، أعلن الأوروبيون عن إطلاق خطة "إعادة تسليح أوروبا/الجاهزية 2030"، وهو مشروع طموح يسعى إلى تعزيز القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي من خلال حشد استثمارات تصل إلى 800 مليار يورو. وقد حظيت هذه الخطوة بترحيب من الرئيس ترمب.

وكان من المفترض أن يشارك رؤساء دول ما يُعرف بـ"رباعي الهادئ"– أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان ونيوزيلندا– في قمة لاهاي، كما درجت العادة في القمم السابقة، إلا أنهم ألغوا حضورهم واكتفوا بإيفاد ممثلين عنهم، في خطوة تعكس أبعادا تتجاوز مجرد تضارب المواعيد، وتسلّط الضوء على الحاجة إلى إعادة ضبط العلاقات في هذا السياق.

وكان "الناتو" قد أكد في وقت سابق أن أمن الجوار الجنوبي يرتبط ارتباطا وثيقا بأمن الحلفاء، مشيرا إلى متابعته الدقيقة للتطورات الجارية على حدوده الجنوبية.

وتندرج الشراكة بين "الناتو" ودول الشرق الأوسط ضمن إطار "خطة عمل الجوار الجنوبي"، التي أُقرّت خلال قمة واشنطن في يوليو/تموز 2024. ولا تتضمن هذه الخطة التزامات دفاعية جماعية أو ترتيبات عسكرية، بل تركز أساسا على الحوار السياسي لتعزيز التفاهم المتبادل، فضلا عن التعاون العملي في مجالات مثل التدريب، وبناء القدرات، والأمن البحري.

وقبل أيام قليلة من انعقاد القمة، وقع "الناتو" والأردن اتفاقا لإنشاء مكتب ارتباط للحلف في عمّان، ليُشكّل بذلك أول حضور دبلوماسي لـ"الناتو" في منطقة الشرق الأوسط.

ومن المقرر أن تُعقد القمة المقبلة للحلف في تركيا، في خطوة تعكس الأهمية المتزايدة للجناح الجنوبي ومنطقة الشرق الأوسط.

font change

مقالات ذات صلة