"إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كاملة. وقد اتخذت قرارًا أرجوكم أن تساعدوني عليه. قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي". هذا ما قاله الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر فيما سُمي خطاب التنحي عقب انتهاء الحرب التي شنتها إسرائيل على مصر وسوريا والأردن في يونيو/حزيران 1967.
لم يحدث، ولا يُتوقع أن يحدث، مثل ذلك في إيران بعد أن أُوقفت الحرب التي شنتها إسرائيل عليها. اعترف عبد الناصر وأركان نظامه بالهزيمة، وإن سموها نكسة. ولكن علي خامنئي وأركان نظامه لم ولن يعترفوا بهزيمة أو بمسؤولية عن جر إيران إلى حرب كان ممكنًا تجنبها، بل على العكس أعلنوا النصر واحتفلوا به.
نهايتان متباينتان لحربين وقعت كلتاهما في يونيو/حزيران، وبدأ كل منهما بهجوم إسرائيلي مباغت أحدث خسائر كبيرة. في 1967 دُمَر معظم الطائرات العسكرية المصرية وهي رابضة في حظائرها. وفي 2025 أُغتيل معظم القادة العسكريين الإيرانيين وهم نائمون في مضاجعهم. ولكن الطريقة التي تصرف بها كل من النظامين في نهاية الحرب ترتبط بالاختلاف في طبيعة كل منهما.
كان في مصر نظام رئاسي تمحور حول الرئيس الذي تمكَّن من تحقيق شعبية واسعة عبر سياسات اجتماعية خلقت طبقة وسطى مؤيدة له، مما أدى إلى ضمور المعارضة التي واجهت نظام حكمه في بدايته عقب ثورة 1952. فقد حُلت الأحزاب القديمة الليبرالية واليسارية وانفض الناس عنها تدريجيًا، وحوصرت جماعة "الإخوان" بعد أن اصطدمت بنظام الحكم، وضُبط آخر تنظيم سعى إلى إحيائها "تنظيم سيد قطب" واعتُقل مؤسسوه ومعظم أعضائه عام 1965. ولم يعد ثمة وسيط سياسي أو اجتماعي بين الرئيس والشعب. وألهبت خطب عبد الناصر الحماسية حماس قطاع واسع من الشعب. ولذا لم يكن للخلاف الذي ازداد منذ مطلع عقد الستينات، بين عبد الناصر وقائد الجيش عبد الحكيم عامر أثر ملموس في نظام الحكم الذي ظل قويًا ومسيطرًا حتى فوجئ بالضربة الإسرائيلية التي لم يُحسب حسابها يوم 5 يونيو 1967. ولذا كان في إمكان عبد الناصر– في خطاب التنحي- تحديد من يخلفه إذ كلف زكريا محيي الدين المؤيد للتقارب مع الغرب بتولي الرئاسة. وظهرت قوة شعبية عبد الناصر فور إلقائه خطاب التنحي. فقد خرجت مظاهرات واسعة ترفض تنحيه وتطالبه بالاستمرار وإزالة آثار العدوان الإسرائيلي. وليس معروفًا حتى الآن، وقد لا يُعرف أبدًا، هل كان لأجهزة النظام دور في توسيع تلك المظاهرات. ولكن القدر المتيقن أن الجماهير الغفيرة التي ملأت شوارع القاهرة أعطت نظام عبد الناصر نفسًا جديدًا قوَّى عزيمته ومكَّنه من التراجع عن التنحي في خطاب وجهَّه إلى مجلس الأمة (البرلمان). لم يكن ذلك الخطاب أقل عاطفية من خطاب التنحي، إذ قال عبد الناصر فيه: "إن الكلمات تضيع وسط زحام من المشاعر... لكن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يُرد. ولذا فقد استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفي الموضع الذي يريد الشعب مني أن أبقى فيه". واستخدم في ذلك الخطاب للمرة الأولى تعبير النكسة بدل الهزيمة، وصار شائعًا بعد ذلك.