المعادلة الإقليمية الجديدة... الدور السعودي الحيوي في سوريا ولبنان

لاندفاع السعودي في دعم الحكم الجديد في دمشق، أخذ زخمه عند زيارة ترمب الى الرياض

القصر الملكي السعودي
القصر الملكي السعودي
ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الامير محمد بن سلمان مستقبلا الرئيس السوري احمد الشرع في الرياض في الثاني من فبراير

المعادلة الإقليمية الجديدة... الدور السعودي الحيوي في سوريا ولبنان

ترتسم معالم مشهد إقليمي جديد منبثق من المتغيرات المتسارعة والصراعات منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وتأكد تبلور معادلة قوة جديدة في الشرق الأوسط لم تعد محصورة بثلاث قوى إقليمية رئيسة: إسرائيل وتركيا وإيران (الصاعدة على حساب النظام الإقليمي العربي بعد حرب العراق في 2003)، بل أخذت تشمل قطبا عربيا ممثلا بالمملكة العربية السعودية التي أصبحت القوة الجديدة على رقعة الشطرنج الإقليمية والعالمية.

في موازاة المشاريع الأخرى لإعادة تركيب الإقليم وفق مصالح أطراف ونزعات هيمنتها، تبرز المملكة العربية السعودية بمثابة قوة توازن إقليمية وقوة ضامنة لإعادة ترتيب البيت العربي انطلاقا من بلاد الشام. بالإضافة إلى الدور التاريخي المستمر في دعم القضية الفلسطينية.

تواكب الدبلوماسية السعودية التطورات والتغيرات في سوريا ولبنان، وتقوم باحتضان الوضعين الجديدين وحمايتهما من الأخطار المحدقة وفق رؤية 2030 التي لا تقتصر على البعد التنموي الداخلي، بل ترتكز على إقليم مستقر ومزدهر بعيدا عن الصراعات الدائمة وعن "الأيديولوجيات".

حيثيات الصعود السعودي

منذ حوالي عقد من الزمن، اعتمدت المملكة العربية السعودية استراتيجية محورها "رؤية 2020-2030" والخروج من المحاور الإقليمية والمصالحة مع تركيا والتطبيع مع إيران برعاية صينية. أتاح ذلك تعزيز الدور القيادي السعودي الذي يجمع بين قوة الموقع والموارد والتاريخ، استنادا إلى مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وامتدادا للعلاقة الاستراتيجية التاريخية مع الولايات المتحدة، والشراكات مع القوى الأوروبية والآسيوية، والتعاون حول الطاقة مع روسيا وتطوير الصلات مع الصين، والهند وكوريا الجنوبية وباكستان. هكذا أتاح الدور المتوازن والجامع إقليميا والتنوع في العلاقات الدولية هامش مناورة واسعا للرياض.

في مواجهة تسلسل الأحداث منذ التطبيع السعودي-الإيراني في مارس/آذار 2023 وتداعيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتتماته تبين بجلاء أن الدبلوماسية السعودية واقعية وقابلة للتكيف، حيث تبقى الأولوية بالنسبة للرياض استعادة الاستقرار الإقليمي الذي يخدم مصالحها الوطنية، مع تركيزها على تنفيذ خطة التحديث والتنويع الاقتصادي (رؤية 2030). من أجل تحقيق هذا الهدف، لم تغلق الرياض الباب كليا أمام الجهود الأميركية للتطبيع المستقبلي مع إسرائيل مشترطة ربطه بتبني أفق واضح لحل الدولتين وإنصاف الفلسطينيين.

منذ تأسيس جامعة الدول العربية في 1945 وانعقاد أول قمة عربية، لعبت القاهرة، والرياض ودمشق، غالبا، دور محرك أو قائد العمل العربي المشترك

داهمت أحداث السابع من أكتوبر الإقليم، واتضحت هشاشة ترتيب وضع المنطقة بعد موجات الاحتجاج في 2011 وما تلاها، وبعد اتفاقات السلام في عهد ترمب الأول. 
زاد ذلك من التحديات أمام المملكة العربية السعودية في منطقة تقع بين فكي كماشة مشاريع إمبراطورية وصراعات اللعبة الكبرى بسبب موقعها الجيوسياسي ومواردها وحجمها في سوق الطاقة العالمية. 
من هنا أخذت الرياض تعمل على تأقلم سياساتها مع الوضع المستجد، إلى جانب طرح التساؤلات حول أساليب التعامل مع المتنافسين الإقليميين ومع القوى العالمية الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة، ضمن نهج تعزيز الاستقلالية وتنوع الشركاء.
صمد التطبيع السعودي-الإيراني وتراجع التوتر على الرغم من بقاء ملفات خلافية مثل اليمن ودعم إيران للحوثيين. وبدا التفهم المتبادل يتسارع حتى بعد اندلاع حرب غزة وحرب الـ12 يوما بين إسرائيل وإيران.
لكن نظرا للعلاقة المميزة التي نسجتها مع دونالد ترمب وبالرغم من بعض التباينات، أخذت القيادة السعودية تنجح في تشكيل توازن جديد في الشرق الأوسط مع لفتة خاصة للعمق الاستراتيجي في بلاد الشام (التي سميت شاما لوقوعها شمال مكة المكرمة).

دعم التحول السياسي في سوريا وإعادة تأهيلها


في إطار تشكيل المشهد الإقليمي وتسارع الأحداث في لبنان وسوريا، يبرز دور الرياض في مواكبة تطور الوضع في البلدين، ويندرج ذلك في سياق بناء نظام المصلحة العربية المشتركة.
منذ تأسيس جامعة الدول العربية في 1945 وانعقاد أول قمة عربية، لعبت القاهرة، والرياض ودمشق، غالبا، دور محرك أو قائد العمل العربي المشترك، من دون إنكار أدوار عواصم أخرى حسب الظروف والمتغيرات. 
في مرحلة السبعينات من القرن الماضي، اعتبر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر أنه "لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا". لذلك كان من اللافت أن الرياض (بالتعاون مع أبوظبي) أسهمت بدعم مصر ومواكبتها بعد منعطف 2011-2013، وكان من اللافت أيضا مسارعتها لمواكبة التحول السوري في 2024-2025. وهكذا مع تحول الثقل العربي إلى مجلس التعاون الخليجي، تجهد الرياض لقيادة إعادة تركيب الوضع العربي مستندة إلى التعاون مع مصر والانفتاح على العراق مع جعل سوريا ولبنان المنطلق والعمق على أن تبقى القضية الفلسطينة البوصلة من دون أن تكون "الشماعة" لأنظمة إقليمية أو لقوى أيديولوجية للمزايدة على ترتيب البيت العربي. 

من دون الشعارات الديماغوجية والرهانات الشعبوية، تتعامل المملكة العربية السعودية مع الواقع العربي بمرونة بعيدا عن أساليب الوصاية والتدخل في الشأن الداخلي وإسناد طرف ضد آخر عبر التركيز على التعامل المؤسساتي العصري بين دولة ودولة. ويعتبر ذلك البديل الواقعي لزمن الميليشيات واللا دول والهياكل الموازية الذي ساد في زمن "الحقبة الإيرانية".
انطلاقا من ذلك، نلمس التوجه السعودي من أجل إعادة تأهيل سوريا لتكون بلدا آمنا مستقرا وقادرا على النهوض من آثار الحقبة السابقة. 
وكانت المملكة أول دولة تُجري زيارات متبادلة على مستوى وزراء الخارجية.

و ا س
ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الامير محمد بن سلمان مع الرئيس اللبناني جوزيف عون في الرياض في 3 مارس

في البداية تعاملت الرياض بحذر مع الزعيم السوري الجديد أحمد الشرع، المدعوم من تركيا وقطر. لكن أداء الحكم السوري المؤقت وتركيزه على أولوية المصلحة السورية، دفعا الرياض لتبني نهج آخر تمثل في مؤتمر الرياض الإقليمي-الدولي (12 يناير/كانون الثاني) الذي مثل تحولا في المقاربة العربية والدولية تجاه سوريا مع تباين بين الدعم العربي غير المشروط والموقف الغربي المشروط حول رفع العقوبات.
بيد أن الاندفاع السعودي في دعم الحكم الجديد في دمشق، أخذ زخمه عند زيارة الرئيس دونالد ترمب إلى الرياض في أيار/مايو 2025، في أول تحرك له في الخارج. في هذه المناسبة سمح الثقل الدبلوماسي والاقتصادي للمملكة بإقامة "شراكة تبادلية وانتقائية" في حال تلاقي المصالح بين الرياض وواشنطن. 

منذ أوائل 2023، لعبت السعودية دورا قياديا في التحضير لانتخابات الرئاسة في لبنان إن كان ضمن اللجنة الخماسية (مع الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وقطر) أو على شكل ثنائي

وكانت اللحظة الأكثر إثارة في جولة الرئيس ترمب الخليجية إعلانه رفع العقوبات الأميركية عن سوريا بالرغم من تصنيف واشنطن لـ"هيئة تحرير الشام" منظمة إرهابية. ولم تكن هذه الخطوة لتحصل من دون طلب مباشر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وجرى إخراجها على أنها منسقة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. 
من أجل دعم استقرار سوريا وإنعاش اقتصادها، وعودتها ركيزة عربية، راهنت الرياض على الحكم الجديد وأقنعت واشنطن والعواصم الأوروبية بصواب هذا التوجه، مقابل استكمال أحمد الشرع تحوله إلى وطني سوري، والعمل بقوة ضد عودة الإرهاب وعدم الانغماس في محاور إقليمية أو صراعات وحروب جديدة.
يبالغ البعض في ربط تصرف الولايات المتحدة بتوجهات نفعية. لكن الأرجح تحبيذ المؤسسات الأميركية دعم التحول السوري وعدم جعل سوريا ساحة لصراع حليفها الاستراتيجي إسرائيل وحليفتها تركيا الأطلسية من خلال إفساح المجال للدور السعودي الحاضن للإدارة السورية من دون التقليل من دوري الإمارات العربية المتحدة وقطر في دعم دمشق.
وفق هذا التموضع الجديد أتى أخيرا القرار التنفيذي لترمب برفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وإلغاء تصنيف "هيئة تحرير الشام" والدفع باتجاه مسار قد يكون طويلا لكنه واعد بتسويات مع إسرائيل قد تنتهي بالتطبيع، ويتردد الحديث عن مفاوضات جارية بين البلدين باتجاه التوصل لاتفاق أمنى مرحلي. لكن الضمان السعودي لسوريا ولبنان في هذا الخصوص هو في عدم توقيع اتفاقات سلام مع إسرائيل قبل تلبية إسرائيل وواشنطن مطالب المملكة السعودية حول القضية الفلسطينية.

 
الرياض "عراب" الوضع الجديد في لبنان 

 


وفق عمل منهجي منسق منذ أوائل 2023، لعبت المملكة العربية السعودية دورا قياديا في التحضير لانتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان إن كان ضمن اللجنة الخماسية (مع الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وقطر) أو على شكل ثنائي. ومع وصوله إلى قصر بعبدا، أعلن الرئيس اللبناني الجديد جوزيف عون أن السعودية ستكون أول مقصد له في زياراته الخارجية "إيمانا بدور المملكة التاريخي في مساندة لبنان والتعاضد معه". ومع رئاسة القاضي نواف سلام للحكومة، زاد الأمل باستعادة بناء الدولة اللبنانية، وهذا أخذ يتيح بناء علاقة سليمة بين بيروت والرياض.

نجاح التحول السياسي في سوريا، واسترجاع الدولة اللبنانية قرار الحرب والسلم سيكونان في نظر الرياض، ضمانا للاستقرار الإقليمي

وتتم مواكبة الوضع اللبناني بتنسيق مع فرنسا في المقام الأول، وتلاؤم التوجهات مع واشنطن. لكن في المفاصل الحساسة، أخذ يبرز دور الموفد السعودي الخاص إلى لبنان الأمير يزيد بن فرحان. إلى جانب الجهد اليومي للدكتور وليد البخاري سفير خادم الحرمين الشريفين في بيروت.

رويترز
لاجئون سوريون مع امتعتهم على متن شاحنة صغيرة يستعدون للعودة الى سوريا من منطقة وادي حميد قرب بلدة عرسال اللبنانية في 26 اكتوبر 2022

لا تشمل المواكبة السعودية حلحلة الوضع الداخلي ومسألة إعادة الإعمار فحسب، بل تتركز أيضا على حماية سيادة لبنان خارجيا عبر تطبيق القرار الدولي رقم 1701 والاستناد دوما لـ"اتفاق الطائف"، والتنبه لتفاصيل العلاقة السورية-اللبنانية من أجل ضبط الحدود كما جرى من خلال رعاية لجان تنسيق بين وزيري دفاع سوريا ولبنان وبين الأجهزة الأمنية في البلدين. وهذا المسعى السعودي المدعوم دوليا يمكن أن يشمل الإشراف على لجان تعيين الحدود بين البلدين وهو ملف شائك منذ الاستقلال.
وتبدي الرياض حرصا استثنائيا في رعاية العلاقة السورية-اللبنانية منذ "اتفاق الطائف" نهاية الثمانينات إلى مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري في 2005، وإرساء علاقات دبلوماسية بين بيروت ودمشق في عام 2009. ومما لا شك فيه أن تصحيح العلاقات بين البلدين الجارين المتشابكين يتطلب جرأة سياسية من قيادتي البلدين وتقييم الأخطاء والثغرات باتجاه علاقة سليمة تعترف بخصوصية لبنان وعدم تدخل أي بلد في شؤون الآخر واستخلاص العبر من المراحل السابقة، ولذا يشكل الدور السعودي اليقظ ضمانة لعدم الانزلاق والوصول إلى علاقة سليمة ومستقيمة بين سوريا ولبنان.
إن نجاح التحول السياسي في سوريا، واسترجاع الدولة اللبنانية قرار الحرب والسلم سيكونان في نظر الرياض، ضمانا للاستقرار الإقليمي. 
وتهدف الرعاية السعودية-العربية إلى درء مخاطر محتملة يمكن أن تواجه المملكة العربية السعودية وحلفاءها العرب: انتعاش الإرهاب، الاستفراد التركي في النفود، ومشاريع تفتيت سوريا ولبنان.
تبدو الرهانات مليئة بالتحديات ومحفوفة بالمخاطر، لكن خيارات المملكة العربية السعودية تنسجم مع تاريخها ومسيرتها وتتلاءم مع مرحلة تغيير في الشرق الأوسط ستترك على قارعة التاريخ من لا يلتحق بها. سيجعل هذا الوضع الجديد من السعودية قوة لا يمكن تجاوزها في أي نقاش حول مستقبل الإقليم. 

font change