بولص آدم لـ"المجلة": لم تعد الكتابة امتيازا للنخب إنما فسحة للمنسيين والمقهورين

السرد المعاصر يفكك القيم التي كرستها الحداثة عن الكتابة

بولص آدم

بولص آدم لـ"المجلة": لم تعد الكتابة امتيازا للنخب إنما فسحة للمنسيين والمقهورين

هو ليس كاتبا بالمعنى التقليدي للكلمة، بقدر ما أنه صانع مشاهد سردية تستمد من خلفيته الثقافية المتعددة: فالرجل درس الإخراج السينمائي في بغداد، ووسع آفاقه النظرية في فلسفة الفن بدراستها أكاديميا في النمسا، التي لجأ إليها عام 1994 ولم يبارحها جسدا، لكنه بقي مشدودا إلى العراق، كمن يكتب من شرفة متداعية تطل على الذاكرة. في نصوصه القصصية والشعرية المنشورة، نلمح أثر السينمائي في مقاربة اللقطة، وأثر الفيلسوف في مساءلة المعنى، وأثر المغترب الذي لا يكتب من منفى جغرافي، بل من منفى لغوي وثقافي مزدوج. لا يرفع صوته، لا يحتفل بانتماء أو سلطة، بل يشتغل في صمت، كمن يصنع نفسه الخاص في مختبر السرد، رافضا أن يكون صدى لغيره. آدم، في هذا المعنى، ليس اسما جديدا فقط، بل هو اقتراح جديد لما يمكن أن تكون عليه الكتابة حين تغادر استعراضها وتدخل إلى مناطقها الأعمق.

بولص آدم (من مواليد 1964) ليس مجرد اسم أضيف إلى قائمة الكتاب العراقيين بعد العام 2003، بل هو انبثاق لصوت سردي تشكل على مهل، كما تتشكل التجارب التي لا تروض بسهولة في قالب واحد.

في أعماله الروائية "ضراوة الحياة اللامتوقعة"، "اللون يؤدي إليه"، "باصات أبو غريب"، "نينا تغني بياف"، و"تسجيلات يوناذم هرمز... ابن قرية عراقية"، لا يكتفي بمحاكاة الواقع، بل يفتح شروخا فيه، مستعينا بما تمنحه مخيلته المشبعة بالفن والمترعة بالقلق الفلسفي. هنا حوار معه.

في أعمالك مثل "ضراوة الحياة اللامتوقعة" و"تسجيلات يوناذم هرمز"، نلاحظ تحلل الشكل التقليدي للسرد لصالح بنى أكثر تفجرا وتعددية، كيف ترى أثر ما بعد الحداثة في تفكيك سلطة "الراوي العارف"؟

حين كانت هناك ثقة في المعنى والتقدم والعقل المركزي، برزت رواية العارف، أي "إله" النص. يرى من فوق، يتسلط على الزمن، ويتحكم بالمصائر والأفكار، بل أحيانا "ينطق بالحقيقة" كأنها مطلقة. ما بعد الحداثة لم تقتل الراوي، لكنها مزقت عباءته الإلهية، لم يعد "العارف بكل شيء" ممكنا أو مرغوبا في عالم تتكاثر فيه الحقائق، وتتعدد زوايا الرؤية. هكذا، صار النص بعد الحداثي أشبه بمرآة مكسورة تعكس عوالم متعددة، وأصواتا لا يجمعها جامع سوى الشك واللعب والانفتاح.

ما بعد الحداثة لم تقتل الراوي، لكنها مزقت عباءته الإلهية، لم يعد "العارف بكل شيء" ممكنا أو مرغوبا في عالم تتكاثر فيه الحقائق

في "ضراوة الحياة اللامتوقعة" قدمت نصا لا يقدم سردا، بل يحلم سردا. وعن النص "تسجيلات يوناذم هرمز"، نوع يكتب لا ليحكي، بل ليشارك حيرته ويفكك ما نظنه يقينا.

التحرر من القوالب

هل تعتقد أن الكتابة ما بعد الحداثية استطاعت تحرير القصة من قوالبها الحداثية، أم أنها أوقعتها في متاهة التجريب بلا أفق؟ وأين تقف تجربتك بين هذين الحدين؟

سؤال شديد الأهمية يمس صميم الجدل حول السرد ما بعد الحداثي عموما. يتقطع السرد الخطي للحداثة، وبدلا من ذلك، تستخدم القفزات الزمنية والتكرارات وانقطاعات الحبكة في كثير من الأحيان. وتحديدا تجربة كاتب مثلي يتحرك بوعي بين الحافتين: التحرر الإبداعي والتجريب المتاهوي. لا أستعرض التجريب، بل أجعله نتيجة وجودية. من المنطقي انها نجحت في فعل التحرير، كتبت نصا في بداية التسعينات شخصيته علبة مسحوق غسيل، يحاول التأنسن، رد فعل للجمود وفشل التكرارية المزمنة التي أحاطت بي. هذه المسألة ما زالت موضع نقاش بمستويين. الأول يناقشها بنعم، حررتها من خطية الزمن والتسلسل المنطقي للأحداث. من مركزية المعنى الواحد لصالح تعدد القراءات. من الشكل المغلق إلى نصوص مفتوحة تحاكي اللايقين والتمزق الإنساني المعاصر. في هذا السياق، أصبحت القصة مساحة للدهشة والتجريب، لا للامتثال. والمستوى الثاني هو النفي بلا الذي يصفها بأنها أوقعت نفسها في الانفصال عن القارئ بسبب كثافة الرموز والتجريد، وهوس الشكل على حساب نبض التجربة الإنسانية، والمراوحة في التجريب بلا عمق موضوعي أحيانا. الشكلية الفارغة مشكلة لدى البعض، وهي حقيقة ليست جزءا من مشروعهم. إنه أشبه حينها بقارئ للمقام العراقي يغني أغنية "هيب هوب".

كيف تتعامل مع مفهوم "الزمن" في كتاباتك السردية؟ هل التسلسل الزمني الأفقي انتهى من حساباتك، وأنك منجذب كما هو واضح في نصوصك إلى التشظي والارتداد كما تقترحه سرديات ما بعد الحداثة؟

الزمن الكرونولوجي مهمش، لا يعتمد عليه في البناء، إلا إذا مسرحت الزمن وكتبت نصا يتم تلقيه كما نتلقى مقالة نقدية عن تلك المسرحية في لعبة خفية لفضح ما هو مشكوك فيه أصلا. الزمن النفسي/الداخلي هو المحرك: الماضي يتسرب من ثنايا الحاضر. عدا ذلك، فالمستقبل غائب أو ساخر، يلوح من بعيد بلا يقين.

الشكلية الفارغة مشكلة لدى البعض وهي حقيقة ليست جزءا من مشروعهم. إنه أشبه حينها بقارئ للمقام العراقي يغني أغنية "هيب هوب"

الحاضر هش، مراوغ، ينهار أمام الذاكرة. الماضي لا يروى، بل يتذكر. أكتب الإحساس بالزمن حين لا يعود الزمن كما كان. عن الشخص الذي يعيش لحظة ما، ثم تنفجر فيه كل الأزمنة دفعة واحدة، بلا ترتيب ولا رحمة.

تداخل المرجعيات

رواية" نينا تغني بياف" عمل يوحي بتداخل مرجعيات ثقافية وفنية متنوعة ومختلفة، كيف تنظر إلى تداخل الأجناس والوسائط (الموسيقى، اللوحة، الشعر) في الكتابة السردية الحديثة؟

رواية "نينا تغني بياف" لا تبحث عن "حكاية" واحدة بل وفرة منها، وليس ذلك فحسب، تبحث عن إحساس بالحياة المنكسرة في العالم الحديث، ولا شيء يعبر عن ذلك بصدق مثل تداخل الأجناس. عندما تغني نينا، نسمع حيوات مكسورة، وشوارع بعيدة، وجراحا صامتة. نرى الغناء يتحول إلى مقاومة ناعمة وإلى سؤال وجودي. يتداخل الغناء مع الشعر والتشكيل البصري داخل النسيج السردي، بأسلوب متعدد الوسائط، دون أن يتقولب أو يجعل مني أسير النمط، مما يجعلها عملا هجينا متعدد الأصوات والوسائط.

فالسرد يغني ويرسم ويسرح في قصائد ويستعير بنى من السينما والمسرح والمقالة وحتى من المدونة اليومية. نينا تغني، كون وجودها السردي مشروطا بالغناء. وأغاني إديت بياف ليست إشارة ثقافية سطحية، إنما بنية شعورية تنهض عليها الرواية. الأغنية تؤدي وظيفة مزدوجة: تذكير بالزمن الغائب وانبعاث للحنين كفعل مقاوم يحرر القارئ من سلطة "النص المغلق"، ويدعوه ليشارك في تأويل المعنى، لا استهلاكه. لدي يقظة دائمة لتفحص دلالة هذا التداخل. إنه ليس زخرفا، بقدر ما هو انعكاس لبعد العالم المعاصر المتشظي. الموسيقى في النص تكثيف وجداني، ترجمة صوت الحنين/الغياب. وتعدد الأجناس تفجير للنسق التقليدي، بحث عن تعددية الأصوات.

رواية ما بعد الحداثة لا تبحث عن الحقيقة بل عن تعدديتها. هل ترى أن الروائي اليوم معني بالكشف أم بالتشويش المقصود على المعنى؟

في رواية التشكيك في الواقع والحقيقة، يتلاشى الخط الفاصل بين الخيال والواقع، ونشدد على طبيعة الواقع المصطنعة. هذا يعني التشكيك في فكرة وجود حقيقة موضوعية واحدة. الرواية ما بعد الحداثية ليست معنية بالكشف المباشر ولا بتقديم "الحقيقة" كجوهر ثابت، بل بتفكيك الطرق التي تبنى بها "الحقائق" داخل النص. في نصوصي، لا تشويش عبثا، بل كتابة في مساحة يتقاطع فيها الحنين والفقد والحلم والمفارقة، لأجعل من الكتابة نفسها سؤالا مفتوحا عن الوجود والمعنى واللغة. تقطع السرد الخطي ليس كافيا، نستخدم القفزات الزمنية والتكرارات وانقطاعات الحبكة في كثير من الأحيان.

المكان والهوية السردية

كيف تفهم العلاقة بين "المكان" و"الهوية السردية" في نصوصك، خاصة في ظل التحولات التي طالت المكان العراقي في السرد المعاصر؟

المكان ليس جغرافيا بل جرح لغوي وسردي. تتشكل الأمكنة في نصوصي السردية لا من الترسيم، بل من الضياع والتكرار والتعلق بأطياف المكان القديم. وهكذا يصبح "المكان" مجازا للبحث عن صوتي في عالم لا يعترف بي ويصر على أن أبقى لا الشبيه بزمني ولا هو يشبهني. المكان العراقي عندي ماذا بقي منه؟ ليس العراق الخرائطي هو المهم، بل العراق الشعوري "العراق الذي غادرته ولم يغادرني". يظهر كحطام في ذاكرة الشخصيات، كأغنية بعيدة أو ظل في مرآة متشققة.

في رواية التشكيك في الواقع والحقيقة، يتلاشى الخط الفاصل بين الخيال والواقع، ونشدد على طبيعة الواقع المصطنعة

الأمكنة تتحول إلى علامات هوية، لكنها لم تعد مستقرة، بل تطاردني وتتداعى حولي. "المكان" لا يؤطر الهوية لكنه يفضح تصدعها، لأن الهوية في نصوصي لم تعد "نقطة انطلاق"، بل سؤال متحرك: هل أنتمي إلى مكان لم يعد يتسع لصوتي؟ وهل أجد صوتي في مكان لا أعرفه بعد؟ في ضوء التحولات في السرد العراقي الحديث، العديد من الكتاب العراقيين  يكتبون من خارج المكان الفعلي، ويعتمدون على ذاكرة المكان لا وجوده الحاضر. تجربة الاقتلاع لا الاستقرار، واللغة كخريطة بديلة للمكان.

القصة القصيرة

لديك شغف بكتابة القصة القصيرة، هل تعتقد أنها لا تزال قادرة على التجديد ضمن اشتراطات ما بعد الحداثة، أم أن الرواية أصبحت أكثر قدرة على امتصاص هذه التجديدات؟

هذا السؤال يلامس جدلا نقديا عميقا بين مركزية الرواية المعاصرة ومكانة القصة القصيرة في زمن ما بعد الحداثة. من خلال تجربتي تحديدا، الرواية قد تكون أكثر احتواء للتجريب من حيث السعة البنيوية، لكن القصة القصيرة في أفقي هي أشد كثافة، وأقرب إلى الشعر، وأقدر على فضح هشاشة المعنى وقسوة العالم، بشظية لغوية مشحونة بالألم والتأمل. أخلصت وسأظل لإعادة الاعتبار الى الحكاية. القصة القصيرة، رغم محدودية حجمها، تمتلك خصائص فنية تجعلها وعاء مثاليا لتجريب ما بعد الحداثة، منها قابليتها لتجريب ما بعد الحداثة في الإيجاز والتكثيف، تسمح بلغة مجازية مشبعة، وشذرات دلالية مفتوحة. المفارقة والتناص أساس في ما بعد الحداثة، وتزدهر في القصة القصيرة. المفاجأة واللايقين ينسجمان مع النزعة اللايقينية لما بعد الحداثة. اللعب باللغة والصوت تسمح به المساحة القصيرة بلا إلزام بالسرد الطويل.

في المجموعة القصصية "باصات أبو غريب" التي كانت تجربة السجن التي عشتها وراء كتابتها، يطرح سؤال: عندما يشتبك البعد السياسي مع ما هو يومي، أو التوثيق للحدث الموضوعي مع الكشف عن عوالم داخلية ذاتية، كيف ترى حدود التخييل في السرد حين يكون الواقع نفسه فائق الفجائعية؟

حين يكون الواقع فائق الفجائعية، لا يعني ذلك نهاية التخييل، بل بداية أشكاله الأكثر جذرية وصدقا. والتخييل عندي لا يبتعد عن الحقيقة، بل يخلق بعدا آخر لفهمها، لا يمكن لغة التقرير أن تبلغه. حدود التخييل في قصصي تلك لا أختلق فيها الحدث، بل أفتح داخله مساحة رؤيوية. لا أطمس السياسة، بل أجذرها في اليومي والرمزي. هكذا بدا لي وأنا أعيش في عالم انقلب فيه الواقع إلى كابوس يحتاج إلى لغة أخرى، لا مجرد خبر صحافي.

أكتب من الهامش، لا كزينة غريبة في نص حداثي، إنما كصوت يعيد رسم الخريطة من موقع الانكسار

الواقع في بعض التجارب كالسجن، يتجاوز قدرة الخيال ذاته. ومع ذلك، لا تمكن كتابته كما هو، إنما لا بد من تخييليه، لعدة أسباب، فالألم الفائق يحتاج إلى "تصفية جمالية" كي يحتمل. اللغة العادية عاجزة أمام الواقع الفجائعي، فيحتاج إلى انزياح لغوي لتقريبه (لا وصفه فقط). التوثيق وحده لا يكفي، والسرد لا ينقذ المعاناة بمجرد قولها، بل بتحويلها إلى تجربة شعورية مركبة. إذن، التخييل هنا ليس تجميلا للواقع، إنما هو وسيلة لمواجهته بطريقة أكثر عمقا وإنسانية.

مساحات أوسع

هل ترى أن ما بعد الحداثة فتحت مساحة أوسع لأصوات قادمة من الهوامش، أم أنها أعادت إنتاج المركز بصيغة جديدة؟

ما بعد الحداثة فتحت الأبواب لكنها لم تضمن العبور للجميع. الصوت المهمش لا يزال يحتاج إلى مراوغة ومقاومة ليسمع. لم تعد الكتابة امتيازا للنخب، إنما فسحة للمنسيين والمقهورين ليقولوا ذواتهم بلغتهم. لكن رغم خلخلة المركز، فإن ما بعد الحداثة لم تفكك بناه العميقة دوما، بقدر ما أعادت إنتاجه أحيانا بصيغة أكثر مرونة. فتحت الشكل واحتفت بالاختلاف، لكنها كثيرا ما ظلت تتحرك ضمن "سوق رمزي" خاضع لذوق المركز. بالنسبة إلي، ككاتب عراقي من الهامش، منحتني ما بعد الحداثة حرية التفلت من القوالب، لا مركزا بديلا. أكتب من الهامش، لا كزينة غريبة في نص حداثي، إنما كصوت يعيد رسم الخريطة من موقع الانكسار.

من خلال تجربتك في الكتابة والنشر، ما الذي تراه الأكثر جوهرية في زمن السرد الآن: اللغة أم الشكل أم تفكيك القيم التي كرستها الحداثة عن الكتابة ذاتها؟

في زمن السرد المعاصر، لا يمكن فصل اللغة عن الشكل أو عن تفكيك القيم، فهي شبكة مترابطة. ومع ذلك، أرى أن الأكثر جوهرية هو تفكيك القيم التي كرستها الحداثة عن الكتابة نفسها. هذا التفكيك هو ما يسمح للكاتب بأن يكتب من الهامش بثقة، ويحرر الشكل من قوالبه، ويمنح اللغة دورا مقلقا لا مطمئنا. إنه تفكيك يعيد مساءلة المعنى والهوية ودور الكتابة، بوصفها طريقة لتجاوز العالم أو النجاة منه مؤقتا لا تمثيلا له فحسب.

font change

مقالات ذات صلة