لا تكاد تهدأ الجبهة بين البيت الأبيض وتقاطع شارع الدستور (Constitution Avenue) مع الجادة 20 في واشنطن، حيث مبنى الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، حتى تشتعل من جديد. كان الأسبوع المنصرم حافلا بين الرجلين الأقوى في الولايات المتحدة والعالم، فقد أمطر الرئيس الأميركي دونالد ترمب رئيس الفيديرالي جيروم باول بسيول من التهديدات والاتهامات، واستخدم أسلحة جديدة في معركة "استقلالية القرار" بينهما، وكادت الأمور تخرج على السيطرة، قبل أن تتدارك الأسواق نفسها، وتتدخل أرقام "وول ستريت" وتطلق صفارات إنذاراتها كقوات فصل بين الطرفين.
جاء تدخل الأسواق وكبار القوم في "وول ستريت"، بعدما بدا الرئيس ترمب مندفعا، يمهد الطريق للمسّ بأحد أهم "المحرّمات الأميركية"، ولإقالة باول بذريعة الهدر في تجديد مبنى الاحتياطي الفيديرالي، إذ وجه مدير مكتب الإدارة والموازنة راسل فوت رسالة إلى باول قال فيها إن ترمب "مستاء بشدة" من تجديد مبنيين للاتحاد الاحتياطي الفيديرالي، في اتهام له بالهدر المالي، فسارع باول إلى الطلب من المفتش العام للاحتياطي الفيديرالي مراجعة المشروع.
انتفاضة رؤساء عمالقة المصارف
لكن الردود سرعان ما تلاحقت، بعد اضطراب الاسواق، من شخصيات وازنة من أمثال: برايان موينيهان الرئيس التنفيذي لـ"بنك أوف أميركا"، جايمي دايمون الرئيس التنفيذي لبنك "جي. بي. مورغان"، جاين فرايزر الرئيسة التنفيذية لـ"سيتي غروب"، وديفيد سولومون الرئيس التنفيذي لـ"غولدمان ساكس". وأجمع هؤلاء على موقف واحد، هو "ممنوع المس باستقلالية الاحتياطي الفيديرالي"، مشددين على "أن بنك الاحتياطي الفيديرالي هو وكالة مستقلة، وتأسس بناء على الاستقلالية، ومن المفترض أن يبقى خارج نطاق السلطة التنفيذية والكونغرس"، وأن التدخل في شؤونه "يؤدي إلى عواقب وخيمة".
"وول ستريت" قالت كلمتها، ورفع رجالها الراية الحمراء: لا للمس باستقلالية قرار رئيس الاحتياطي الفيديرالي، لأنها صمام أمان للاقتصاد الأميركي والعالمي
حتى أن إليزابيث وارن نفسها، وهي من أبرز الديمقراطيين في لجنة المصارف في مجلس الشيوخ، وناقدة قديمة لجيروم باول، لم تنطل عليها الحيلة، إذ قالت: "لا يخدعن أحدكم الاهتمام المفاجئ لترمب والجمهوريين بتجديد المباني، من الواضح أنها ذريعة لإقالة رئيس الاحتياطي الفيديرالي باول". ومن المعلوم أن السيدة وارن هي العضوة الوحيدة في اللجنة التي صوتت ضد ترشيح باول كرئيس للاحتياطي في عام 2022.
الفائدة عصيّة على الإملاءات السياسية
يسعى ترمب بكل ما أوتي من فرص لإنجاح عهده اقتصاديا، فهو كان قد طلب من باول في مطلع فبراير، أي بعد أيام قليلة من انطلاق ولايته الثانية، خفض سعر الفائدة القياسي واحد في المئة دفعة واحدة ظنا منه أن ذلك سيؤدي على الفور إلى خفض نفقات خدمة الدين الحكومي، مما قد يوفر تريليون دولار سنويًا من الدين الوطني، كما يقول. وقد قوبل طلب ترمب بالرفض. وقد ألمح موينيهان إلى ذلك صراحة بتشديده على ضرورة إعطاء الأولوية للصحة الاقتصادية على المدى الطويل على المكاسب السياسية قصيرة الأجل. وتسمح هذه الاستقلالية لمجلس الاحتياطي الفيديرالي باتخاذ القرارات على أساس البيانات والمؤشرات الاقتصادية وليس المصلحة السياسية.
ووصفت صحيفتا "فايننشال تايمز" و"وول ستريت جورنال" ما يحصل بأنه "مسرحية هزلية مقلقة" بالنسبة إلى المستثمرين، ورفعتا الراية الحمراء، وحذرتا من المس باستقلالية الاحتياطي الفيديرالي لأنها "صمام أمان عالمي". كما أشارت إلى أن تعيين رئيس جديد مطيع للبيت الأبيض يضر بصدقية الولايات المتحدة ويرفع تكاليف الاقتراض.
تراجع ترمب ونفى عزمه على إقالة جيروم باول، بعدما اهتزت مؤشرات "وول ستريت". الدرس المستفاد، أن لغة الأسواق هي اللغة التي يفهمها الرئيس الأميركي جيدا ولا يستمع الى غيرها
هذا الهجوم المضاد دفع ترمب الى التراجع، والاستماع إلى صوت "وول ستريت" بعدما نظر إلى الشاشات، فبدل لهجته، ونفى عزمه على إقالة باول، وحصل مثل هذا التراجع أيضا بعدما اهتزت الأسواق على إثر إعلانه الرسوم الجمركية في 2 ابريل/نيسان المنصرم، فعاد ومدد المهل ليبدأ مفاوضات ثنائية.
ترمب يفهم لغة الأسواق
الدرس المستفاد، أن لغة الأسواق هي اللغة التي يفهمها ترمب جيدا ولا يستمع الى غيرها. ويستفاد من الدرس الأولي لحرب التعريفات لدى الرجل أن صفقات العالم هي في كفة وما تستشعره "وول ستريت" في كفة أخرى.
يعرف الجميع، ولا سيما في الأوساط المالية، أن الرجل البراغماتي جيروم باول يدرس ملفاته جيدا ويعتمد على الأرقام والمؤشرات ودلالاتها في قراراته، وليس على الأيديولوجيا، او التهور ورهانات رجال الأعمال، وهذا ما تعكسه مواقفه وتصريحاته المتزنة. فعندما صب الرئيس ترمب جام غضبه عليه عشية الانتخابات الأميركية داعيا إياه إلى خفض الفائدة، رد عليه بالقول إنه سينتظر أرقام البطالة ومؤشرات التضخم.
ومع الحملة الترمبية المتجددة عليه، قال إن حكم الفائدة معلق في انتظار نتائج أرقام حرب التعريفات الجمركية التي شنها ترمب بنفسه وحيدا ولا يزال مستمرا فيها، وإن البنك المركزي ينتظر الأرقام لمعرفة تأثير الرسوم الجمركية المرتفعة بشدة على التضخم، ونقطة على السطر. ويا باول ما يهزك ريح.
يتمسك جيروم باول باستقلاليته عن السلطة السياسة، يعتمد على الأرقام والمؤشرات ودلالاتها في قراراته، وليس على الأيديولوجيا، أو التهور ورهانات رجال الأعمال، وهذا ما تعكسه مواقفه وتصريحاته المتزنة
يذكر أن بول فولكر، حاكم الفيديرالي في الثمانينات، كان من أوائل من رسّخ عمليا وبقوة مفهوم استقلالية البنك المركزي الأميركي في مواجهة السلطة التنفيذية، ومن أبرز أقواله "إن إثبات الصدقية يبنى من خلال ممارسة الاستقلالية، وهي تكتسب وليست مجرد ادعاء".
عندما فاز الرئيس الأسبق باراك أوباما، انتشر رسم كاريكاتوري يظهره أمام مرآته سائلا إياها عل طريقة "يا مرايتي يا مرايتي":
"يا مرآتي يا مرآتي التي على الجدار، من هو صاحب القرار الأعلى الآن في البلاد؟"
وقد أجابته المرآة: "البنوك المركزية، يا سيدي الرئيس".