حرب ترمب على الجامعات قد تضعف الولايات المتحدة

هجوم مدبر قد يؤدي إلى هجرة الأدمغة

أ ف ب
أ ف ب
تظهر لافتة جامعة هارفارد في حرم جامعة هارفارد في كامبريدج، ماساتشوستس، في 27 مايو 2025

حرب ترمب على الجامعات قد تضعف الولايات المتحدة

اشتدت معركة دونالد ترمب مع الجامعات الأميركية في أوائل يوليو/تموز، حين استقال رئيس جامعة فرجينيا، جيمس رايان، المدافع عن زيادة التنوع في الجامعة، بعد أن تعرض لضغوط من حلفاء ترمب في مجلس الجامعة، بسبب ما عدّوه فشلا كاملا في تفكيك برامج الجامعة للتنوع والمساواة والشمول، هذا التفكيك الذي يشكل سياسة أساسية للبيت الأبيض.

تأتي استقالة رايان الآن كآخر حدث ينضم إلى قائمة من الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترمب، في استهداف بعض أعرق الجامعات الأميركية. ومع أن مؤيدي ترمب قد يشيدون بالهجمات بوصفها خطوة طال انتظارها لتقليص حجم المراكز البارزة للفكر والنشاط الليبراليين، فإنها تحمل معها خطر إلحاق ضرر على المدى البعيد بكل من الاقتصاد الأميركي ومكانته العالمية.

قبل شهر من استقالة رايان، اشتبك ترمب مرة أخرى مع جامعة هارفارد، في مواجهة تعد من صميم حربه على مؤسسات التعليم العالي الأميركية. فهدد بحجب 3 مليارات دولار من الأموال المخصصة لتمويل الأبحاث، ثم أصدر تعليماته للوكالات الفيدرالية بمراجعة أكثر من 100 مليون دولار من العقود الحكومية الممنوحة للجامعة. جاء ذلك عقب تجميد 3 مليارات دولار مخصصة لتمويل الأبحاث، مع تعليق قدرة هارفارد على قبول الطلاب الدوليين الوافدين من الخارج، على الرغم من أن بعض هذه الإجراءات جرى الطعن فيها بنجاح أمام المحاكم.

يصر منتقدو ترمب على أن الاتهامات بمعاداة السامية، ليست إلا غطاء لهدف أوسع، هو إضعاف خصومه الليبراليين

ولكن هارفارد لم تكن الجامعة الوحيدة التي وضعها ترمب نصب عينيه، وإن تكن أبرز مؤسسة أكاديمية يستهدفها. ووفق تقرير لمراسل "بي بي سي"، أنتوني زورشر، أوقفت الإدارة منحا بحثية تقدر بمئات الملايين من الدولارات لجامعتي برينستون وبنسلفانيا، بينما تخضع اثنتان وخمسون جامعة للتحقيق بسبب برامجها القائمة على العرق، التي هدفت لتعزيز التنوع أو دعم الفئات التي تعرضت لتهميش تاريخي، والتي أصبحت الآن غير قانونية. ويخشى كثيرون من أن تكون هذه الخطوة بداية لجهود أوسع لفرض أجندة ترمب على قطاع الجامعات الأميركية الذي يضم 2600 جامعة.

تدافع الإدارة بأن سبب إجراءاتها، ولا سيما ضد جامعة هارفارد، هو نقص المحافظين داخل هيئة التدريس، وقبول عدد كبير جدا من الطلاب الصينيين، والأهم من ذلك، فشل الجامعة في التصدي لمعاداة السامية في الحرم الجامعي عقب اندلاع حرب غزة. وقد اتهم ترمب خلال الانتخابات الرئاسية، الكثير من الجامعات، التي كانت مركزا لاحتجاجات قوية مؤيدة للفلسطينيين، بالتورط في "دعاية معادية للسامية"، ووعد في حال فوزه بقطع التمويل الفيدرالي عنها. ومنذ عودته إلى منصبه، تابع ترمب هذا النهج، فأجبر بعض الجامعات، مثل جامعة كولومبيا، على قبول شروط قاسية، بينما قاومت جامعات أخرى، مثل هارفارد، وأصرت على الحق في الحرية الأكاديمية.

أ ف ب
يحمل الناس لافتات خلال مظاهرة طلاب هارفارد من أجل الحرية لدعم الطلاب الدوليين في حرم جامعة هارفارد في بوسطن، ماساتشوستس، في 27 مايو 2025

يصر منتقدو ترمب على أن الاتهامات بمعاداة السامية، ليست إلا غطاء لهدف أوسع، هو إضعاف خصومه الليبراليين. إذ يرى كثيرون أن الجامعات الأميركية حصون لليبرالية، حيث يميل خريجوها الجدد إلى الديمقراطيين أكثر بكثير من الميل إلى جمهوريي ترمب. كما أن دفع الجامعات إلى تدريس مناهج محافظة أكثر، أو في حال فشل ذلك، إضعاف الجامعات بشكل عام، هو سياسة شائعة في أوساط "لنجعل أميركا عظيمة" المؤيدة لترمب. ولكن آخرين يرونها أجندة أكثر شرا. أما الذين يعتقدون أن طموحات ترمب أكثر استبدادية في نهاية المطاف، فيفسرون هذا التحرك ضد الجامعات على أنه خطوة لقمع أي معارضة محتملة.

75 في المئة من 1600 عالم دراسات عليا شملهم الاستطلاع، كانوا يفكرون في مغادرة الولايات المتحدة. كما يحجم الطلاب الدوليون عن المجيء الآن

مجلة "نيتشر"

هجرة الأدمغة الضارة؟

بينما قد يوافق مؤيدو ترمب على سياسته تلك، فإن استهداف الجامعات يهدد بإلحاق الضرر بالولايات المتحدة داخليا وخارجيا. فقد كانت الولايات المتحدة طيلة عقود من الزمن رائدة العالم في مجال التعليم العالي، وهو ما ساهم إلى حد كبير في نمو الاقتصاد الأميركي. إذ لم تكن الجامعات حاضنة للمواهب المحلية فحسب، بل جذبت سمعتها العالمية أفضل العقول من الخارج. ويواصل هؤلاء الطلاب الموهوبون في كثير من الأحيان بناء شركات وصناعات ناجحة، ويعد وادي السليكون أبرز مثال على ذلك.

بيد أن الهجمات على قطاع الجامعات تهدد هذه الفائدة الاقتصادية. فقد بدأت "هجرة الأدمغة". وعلى مستوى القمة، شرع علماء بارزون في المغادرة. ففي مارس/آذار، انتقل ثلاثة أساتذة بارزين متخصصين في التاريخ من جامعة ييل إلى جامعة تورنتو، ردا على استسلام جامعة كولومبيا لمطالب ترمب. كما بدأت الجامعات الأوروبية بالبحث النشط عن أعضاء من هيئة التدريس الأميركية، حيث خصصت جامعة إيكس مرسيليا، 15 مقعدا لـ"طالبي اللجوء العلمي". وبالمثل، خصصت جامعة بروكسل الحرة 12 مقعدا للباحثين الدوليين، وعلى الأخص الباحثين الأميركيين منهم. ويسعى الأكاديميون الأجانب، الذين يخشون إلغاء تأشيراتهم كما حدث لبعض زملائهم، إلى المغادرة قبل أن يحدث لهم الأمر نفسه.

وبالإضافة إلى هجرة الأكاديميين المرموقين، يغادر الطلاب أيضا. ووفقا لجون كامبفنر، الكاتب في المنصة الإعلامية الأميركية "بوليتيكو"، فإن طلاب الأبحاث الأميركيين، الذين يسعون للحصول على تمويل يتجهون إلى الخارج بسبب نقص التمويل في النظام الأميركي. ووفقا لمجلة "نيتشر"، فإن 75 في المئة من 1600 عالم دراسات عليا شملهم الاستطلاع، كانوا يفكرون في مغادرة الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يحجم الطلاب الدوليون عن المجيء الآن، وقد كانوا سيأتون للدراسة في الولايات المتحدة والمساهمة في الاقتصاد، لو كانت الحال كما في الماضي.

 لقد دق الخبراء والمتخصصون في التعليم ناقوس الخطر، حتى قبل حدوث هذه التغييرات، من أن الولايات المتحدة تعاني من نقص في المواهب في مجال العلوم والرياضيات والهندسة. وقد تؤدي سياسات ترمب تجاه الجامعات إلى زيادة هذا النقص بشكل أكبر، وهو ما ستكون له عواقب اقتصادية وخيمة.

لا تزال حرب ترمب على الجامعات الأميركية في بداياتها، لكن المؤشرات بدأت تشير إلى أن هجوما مدبرا قد يؤدي إلى هجرة الأدمغة وتراجع جاذبية التعليم العالي الأميركي

مساعدة المنافسين الجيوسياسيين

قد تكون لهذه السياسة عواقب دولية أيضا. فسوف تتضاءل "القوة الناعمة" للولايات المتحدة إذا لم يعد الطلاب والباحثون الدوليون يشعرون بالترحيب. ولعل الأهم من ذلك، أن مواهبهم قد تفيد منافسي الولايات المتحدة بدلا منها. ففي ثلاثينات القرن الماضي، أدت ممارسات ألمانيا النازية المعادية للسامية والسلطوية إلى دفع الباحثين إلى الفرار من ألمانيا، فكان أن أدى الكثير منهم دورا بارزا في البرامج العلمية التي عادت بالنفع في نهاية المطاف على منافسي النظام النازي، الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفياتي، كما حدث في مشروع مانهاتن الأميركي. ونحن اليوم لسنا في حرب عالمية أخرى لحسن الحظ، لكن المنافسة الجيوسياسية آخذة في الازدياد.

غيتي
طلاب جامعة جورج تاون يتظاهرون في الحرم الجامعي دعماً لفلسطين في جامعة جورج تاون في 4 سبتمبر 2024 في واشنطن العاصمة

حتى الآن، فإن حلفاء الولايات المتحدة هم المستفيدون الرئيسون من هجرة الأكاديميين من الجامعات الأميركية، حيث يتجه الباحثون على نحو رئيس إلى كندا وأوروبا وأستراليا، التي عززت جامعاتها من جهودها في استقطاب الباحثين الأميركيين عبر تأكيدها على الحرية الأكاديمية التي سيتمتعون بها. ويمكن لدول أخرى ذات قطاعات جامعية دولية آخذة في النمو، مثل الهند أو الخليج، أن تستفيد بالمثل من هذه الهجرة في المستقبل. ولكن الخطر الذي يلوح في الأفق هو أن الصين هي الدولة الأبرز في الإفادة من ذلك. فقد كتبت فيفيان وانغ في صحيفة "نيويورك تايمز": "تريد الصين أن تكون الجامعات الصينية مصدرا للقوة الناعمة الصينية. وها هو ترمب يؤدي المهمة نيابة عنها". وقد أغرت الصين العلماء المولودين في الصين، وتلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة بالعودة إلى الصين، بعرض رواتب سخية عليهم. لكن بكين تأمل في استغلال عداء ترمب للمهاجرين وإقناع أفضل المواهب من جميع أنحاء الجنوب العالمي بالقدوم إلى الصين والدراسة فيها بدلا من الولايات المتحدة. وقد باشرت الصين في تدريب آلاف الأفارقة المسؤولين في مجالات العلوم والتكنولوجيا، بينما يختار الكثير من الطلاب الأفارقة دراسة لغة الماندرين. ويمكن أن يتوسع هذا النمط عالميا إذا فقدت الجامعات الأميركية ميزتها وجاذبيتها.

لا تزال حرب ترمب على الجامعات الأميركية في بداياتها، لكن المؤشرات بدأت تشير إلى أن هجوما مدبرا قد يؤدي إلى هجرة الأدمغة وتراجع جاذبية التعليم العالي الأميركي بالنسبة للطلاب والباحثين الدوليين.

وفي ظل هذه البيئة العالمية التي يتزايد التنافس فيها، فإن قرار ترمب الذي يمنح منافسيه ميزة دون داع، ويخاطر في الوقت نفسه بإضعاف الاقتصاد الأميركي، يبدو قرارا قصير النظر على نحو لا يصدق.

font change

مقالات ذات صلة