تأملات سياسية في رحيل زياد الرحباني

تشييعه أظهر إمكانية باقية لتجاوز الوضع الراهن

أ.ف.ب
أ.ف.ب
نعش الموسيقار والملحن زياد الرحباني خلال مراسم الجنازة في كنيسة رقاد السيدة العذراء للروم الأرثوذكس في المحيدسة بكفيا، جبل لبنان، في 28 يوليو

تأملات سياسية في رحيل زياد الرحباني

كان موت زياد تراجيديا تشبه الكارثة، كأنه زلزال أو فيضان أو تسونامي. موت ضخم وقع على البلد الذي دخل منذ سنوات في موت سريري، قبل الحرب وبعدها، قبل الانهيار وبعده، بحيث لم يعد يمكن تعيين اللحظة التي بدأ فيها لبنان ينطفئ أو يدخل في موته السري والسريري، ولكنه وهو ينطفئ وهو يموت تبقى له القدرة على الحياة والاحتفال والضجيج، كما لو أن موته مؤقت أو أن موته فريد لا هو موت كامل ولا هو حياة كاملة. وبين الاثنين تدور دورة كاملة من الأمل والانكسار، ومن الفعل ورد الفعل.

لكن المسألة ليست إذا مات البلد أو لم يمت، وماذا يعني موت البلد أو عدم موته، المسألة أنه يجب أن يوجد أشخاص يرفضون أن يقولوا إن البلد قد مات، أشخاص يجب أن تكون لديهم مصلحة سياسية في القول إن البلد لم يمت، وهذا أولا إعادة اعتبار للسياسة أو أن السياسة تبدأ مجددا من هنا. وأما إعادة إنتاج الانقسام حول زياد والبحث عن معاني لهذا الانقسام، وعن منتصر ومهزوم وعن غالب ومغلوب، فهو انعدام السياسة بعينه.

وهنا ثمة شيء غريب وشيء جوهري وأصيل وهو أن البلد وأمام أي حدث يشبهه كموت زياد يقف ويقول أنا موجود، ليتحول هذا الموت إلى فعل حياة حقيقية لبلد كاد يختفي ويتحول إلى ركام وحطام سياسي واقتصادي وإنساني.

ومفردة البلد هنا التي لا تجد معناها الفعلي إلا في قاموس زياد الرحباني تصلح لأن تكون مفردة تأسيسية تعوض عن الوطن المفقود والدولة المتآكلة وتتوافق مع اللحظة المأزقية الراهنة ومع لحظة موت زياد كحدث يعيد إنتاج معنى للبنان في لحظة افتقاد المعنى، وبالتالي يشكل هذا الموت مخرجا سياسيا ممكنا من المأزق في حال وجد من يلتقط الإشارة ومن هو مستعد إلى المبادرة، في إعادة اعتبار فعلية للسياسة أي لإمكان فعل شيء لوقف التدهور، أو ببساطة لتسجيل موقف حيال ما يجري وحيال ما وصلت إليه الأمور، وحيال الفراغ الحاصل.

كان موت زياد ودفنه بمثابة مصالحة وطنية متأخرة وبمثابة تجاوز لمنطق الحرب الأهلية وإعادة الاعتبار أو التفكير في لبنان ما قبل الحرب

كأن موت زياد ودفنه هو ملء لفراغ لبناني طويل، فراغ امتلأ لفترة طويلة بمزيد من الفراغ، لكن موت زياد بدده أو أعطى إشارة بأن تبديده ممكن، فمن ساروا وراء نعش زياد من شارع الحمرا إلى بكفيا كانوا من حيث يدركون أو لا يجمعون طرفي الخيط ويرممون العلاقة المرضوضة بين بيروت والجبل بالمعنى السياسي وبالمعنى الحضاري، لأن زياد كان نموذج الحضارة اللبنانية ونموذج النموذج اللبناني ونموذج التجربة اللبنانية.

فزياد عاد مع مشيعيه إلى حيث كان وإلى نقطة البداية التي ابتعد عنها وقطع صلته بها خلال الحرب الأهلية وما بعدها، ولكن طيلة هذه الفترة لم توجد لحظة سياسية تعيده إلى هناك إلا لحظة موته. وهذا برهان متأخر جدا على ذيول تلك الحرب التي لا تزال اليوميات اللبنانية شاهدة عليها، في التعبير السياسي والعلاقات الاجتماعية والفرز الديموغرافي. وبهذا المعنى كان موت زياد ودفنه بمثابة مصالحة وطنية متأخرة وبمثابة تجاوز لمنطق الحرب الأهلية وإعادة الاعتبار أو التفكير في لبنان ما قبل الحرب، ذاك الذي أنتج الرحابنة والذين هم بدورهم أنتجوه في علاقة جدلية تبناها زياد وأخذها إلى أقصاها، إلى مواقف أخرى وعناوين أخرى، هي انقلاب على "لبنان الرحابنة"، لكنه انقلاب كان يجد ما ينقلب ضده، أي إنه كان يعارض هيكلا رمزيا وسياسيا و"ثقافيا" موجودا يملأ مكانه ويمتلك لغة ومنطقا، والأهم أن أول شروط بقائه و"تميزه" كان إتاحة الاعتراض عليه.

أ.ب
امرأة تحمل صورة زياد الرحباني خلال جنازته في بيروت، لبنان، في 28 يوليو

وإذا كان هذا اللبنان قد أنتج بموازاة المسرح والموسيقى والإبداع بأشكاله كلها شروطا موضوعية للحرب الأهلية التي قضت عليه نهائيا، فإن العطب الأساسي والتاريخي أن مرحلة السلم الأهلي بعد عام 1990 قد تأسست على تأبيد هذه الشروط وجعلها عصب الحياة السياسية ولاسيما بعد عام 2005 عقب اغتيال رفيق الحريري الذي افتتح حقبة الحرب الباردة بين اللبنانيين على نحو قضى على أي إمكانية سياسية للخروج من منطق الحرب الأهلية.

تشييع زياد أظهر إمكانية باقية لتجاوز الوضع الراهن، بوصفه تشييعا لا يشبه الانقسام القائم في البلد، بالرغم من محاولات توريطه في هذا الانقسام

وإذا كان وقوف العقل السياسي اللبناني عند "لبنان الرحابنة" في محاولة لإعادة إنتاجه بشروط جديدة بالرغم من كل التحولات الحاصلة ضرب من العبث والمستحيل، فإنّ اختصاره بأنه أنتج الحرب الأهلية ينطوي أيضا على عدم قدرة وعدم رغبة في تجاوز منطق الحرب الأهلية. وهذا يحيلنا إلى منطق "حزب الله" بوصفه القوة المهيمنة بعد الحرب وخصوصا بعد عام 2005، باعتباره منطقا قام أساسا على تسخيف "لبنان ما قبل حزب الله"، ليس من منطلق وعي نقدي وعقلاني وإنما من منطلق مصلحة سياسية لتبرير الحالة الجديدة ومن منطلق رغبة في تأكيد هزيمة هذا اللبنان ودفنه إلى الأبد بعدما دخل لبنان "العصر السوري" وعصر "حزب الله".

وهذا فارق أساسي بين اعتراض زياد على هذا اللبنان وتعريته له وسخريته من "ثقافته" وشخوصه وبين انقلاب "حزب الله" عليه من خلال تسخيفه أولا، ذلك أن اعتراض زياد لم يكن أداة أو وسيلة ما كان وجوده ممكنا من دونها. أي إن هذا الاعتراض لم يكن شرطا لوجود زياد كفنان قبل السياسي والأهم أن هذا الاعتراض لم ينجر إلى لعبة تسخيف للبنان من النوع الذي يشكك في بدايات زياد نفسها، بينما تحول تسخيف "لبنان الرحابنة" بالنسبة لـ"حزب الله" شرطا من شروط وجوده، أي إنه من دونه لا يستطيع أن يقدم نسخته اللبنانية.

و"حزب الله" سواء أدرك ذلك أو لا كان يحاصر نفسه بل و"يقضي" على نفسه كحزب لبناني يواجه ضرورة لأن يقدم نسخته اللبنانية وأن ينتج لبنانه الذي يحقق فيه مصالحه، ولكنه أساء تقدير المدى الذي يمكن أن يبلغه انقلابه على "لبنان الآخرين" من دون أن يعرض لبنانه ومصالحه نفسها للانهيار.

أ.ف.ب
الموسيقي اللبناني زياد الرحباني طفلا يعزف البيانو، الآلة التي شكّلت معظم مؤلفاته الموسيقية منذ بداياته في أوائل السبعينيات

بهذا المعنى افتقد "حزب الله" للفكرة التصالحية ولفكرة أنه يمكن تجاوز الحدود السياسية والجغرافية وأنه يمكن الخروج من المساحة الضيقة، ليس بالعبور إلى سوريا والعراق واليمن، بل بالعبور إلى "لبنان الآخرين" أيضا، إلى مساحة لبنانية مشتركة تعيد الاعتبار لفكرة أنه يمكن بل ويجب الخروج من منطق الحرب الأهلية.

ولذلك ظل "الحزب" أسير منطق الانقسام القائم والذي تعود أن يرى البلد من خلاله وأن يفرزه من خلاله، وكأن هذا الانقسام تحول سببا وجوديا له، وهو ما ساهم في صعود أرباب هذا المنطق في المقلب الآخر، في لعبة جهنمية قضت على أي أمل في مصالحة لبنانية حقيقية وفي إمكان البحث عن مخارج حقيقية للمأزق الراهن، وخصوصا بعد الانهيار الاقتصادي وانفجار المرفأ وبعد الحرب الأخيرة، ولاسيما بعد تجويف البلد بالاغتيال الجسدي والمعنوي لكل من يملك منطقا بديلا، أي منطقا وطنيا، قائما أساسا على ضرورة تجاوز الانقسام أو تغيير طبيعته بعد أن أصبح طائفيا بحتا، وعلى ضرورة تجاوز منطق الحرب الأهلية.

بيد أن تشييع زياد أظهر العكس، أي أظهر إمكانية باقية لتجاوز الوضع الراهن، بوصفه تشييعا لا يشبه الانقسام القائم في البلد، بالرغم من محاولات توريطه في هذا الانقسام، من خلال البحث عن تموضع لتشييع زياد قياسا على تموضعه في مسيرته الفنية والسياسية.

ثمة نافذة فتحها تشييع زياد والحزن اللبناني الجامع عليه، لأنه زياد ولأنه ابن فيروز وابن عاصي الرحباني، ولأنه أيضا ابن انطلياس البلدة الساحلية التي شهدت أولى المصالحات الشعبية بعد الحرب

وهنا أيضا لا يمكن تجاوز أن موت زياد أتى في لحظة مفصلية في تاريخ البلد هي لحظة بداية نهاية "عصر حزب الله"، وهو ما يعني أن لبنان دخل مرحلة انتقالية، ليست بالضرورة ضد "حزب الله"، لكنها لحظة تفترض تحولات على مستوى القوى السياسية جميعا وفي مقدمتها "حزب الله" هذا إذا كان لا يزال بعد في لبنان قوى سياسية تستطيع أن تقوم بمراجعات وأن تبادر وأن تعيد تموضعها وتطرح عناوين جديدة.

أ.ف.ب
فيروز تتقبل التعازي في جنازة ابنها، زياد الرحباني، في كنيسة السيدة في بكفيا، جبل لبنان، في 28 يوليو

وإذا كان موت زياد قد أعاد إنتاج شيء من انقسام اليمين واليسار في لبنان، وهو انقسام تلاشى أو شهد تحولات داخل اليمين وداخل اليسار، فإن الأحزاب "اليمينية" التي لم تقم بمراجعة حقيقية لتجربتها في الحرب، لا بل ما زالت تبني كل رصيدها السياسي على "إنجازاتها" خلال تلك الحرب، هذه الأحزاب يفترض أن تسائل نفسها أمام مشهد تشييع زياد الذي عبر "مناطقها": إلى أي حد هي عاجزة عن "العبور" السياسي والثقافي، متمسكة بتقليد سياسي لا يقيم أدنى اعتبار للمسألة الاجتماعية إلا من باب الرعاية، وذلك في مقابل بقايا يسار متفرقة تمحورت في غالبها بعد الحرب حول فكرة "المقاومة" وليس حول فكرة البلد، فإذا كانت المقاومة ضرورة في لحظة معينة فهي لا يمكن أن تكون على حساب فكرة البلد وشروطه وظروفه الموضوعية. إلا أن ذلك كله يكاد يكون من مرحلة تمضي. أما الآن فثمة نافذة فتحها تشييع زياد والحزن اللبناني الجامع عليه، لأنه زياد ولأنه ابن فيروز وابن عاصي الرحباني، ولأنه أيضا ابن انطلياس البلدة الساحلية التي شهدت أولى المصالحات الشعبية بعد الحرب عندما التقى الزعيم اليساري جورج حاوي بحزب "الكتائب"، وكأن تشييع زياد هو استعادة متأخرة لتلك المصالحة وهو تأكيد أنها ممكنة كإطار نظري للمبادرة السياسية، إذا كان ثمة من يفكر بالمبادرة...

font change