"مفتون أنا بالكتب التي تنشر بعد الوفاة، إذ أصبحت رائجة في الفترة الأخيرة"، بهذه العبارة يفتتح الكاتب الإسباني إنريكه فيلا ماتاس روايته "ماك ونكسته" (ترجمة حسين نهابة، دار المدى)، والأمر لا يقف عند هذا الحد من الاهتمام بالكتب الصادرة بعد موت أصحابها من طرف الشخصية المحورية المدعو ماك، بل يبحث عن أحدها غير المكتمل كتابة، كي يقوم بتدويره، وتلفيقه، ونسبه إلى نفسه. مع ذلك، يحسب لماك أنه يشرع في كتابة يومياته، بالتوازي مع قرصنته لرواية هي لجاره سانشيث، هذا الذي يقطن في المقابل معه في شقة كان يسكنها سابقا أشهر كتاب القصص القصيرة في أربعينات برشلونة المدعو خوسيه مايوركي، أما سانشيث فسمعه ماك ذات مرة وهو يحكي بعجرفة عن روايته "والتر ونكسته" المليئة بالترهات، بالتفاهات الصفيقة، بالتناقضات والاختلالات، عن سيرة محرك دمى، نسيها تماما لأنها من أرشيف حياته السوداوية حينما كان مدمنا، نسيها الى درجة أنه يعتقد بأنه آخر من كتبها.
استنادا إلى ذلك سيقرر ماك الجلوس في غرفته بحي كويوتي في برشلونة، منصتا الى الموسيقى، والصيف في أعز توقده كيما يبدأ الكتابة بجسارة، حتى أن اسمه ماك أُطلق عليه تيمنا بمشهد شهير من فيلم "عزيزتي كلمنتين" (1946)، لجون فورد.
ينتقل ماك من احتراف المشاريع العقارية إلى الإفلاس والبدء بالكتابة، فهو مهووس بقراءة القصص القصيرة، مقابل عدم ميله الى الرواية، والسبب أن هذه الأخيرة أحد أشكال الموت وفق رولان بارت، لأنها تحول الحياة إلى قدر، وإن قدر له وكتب رواية، فحتما سيروق له فقدانها مثلما يفقد تفاحة. لكن كيف يكون معنى الكتابة، هو الامتناع عن الكتابة نفسها؟ هذه المفارقة التي يرددها ماك، وهو ما يحاول تبريره، بأنه لو شرع في الكتابة منذ صغره لصار متعفنا بالموهبة الأدبية الآن، في حين يمنحه شعور المبتدئ المتعة وهي لحظته المثالية التي تبدأ عند الساعة الثانية عشرة من صباح 29 يونيو/ حزيران.
أمام شعوره الفادح بالخواء واللاجدوى والتفاهة، يحارب ماك الفراغ بكتابة يومياته، وبالتوازي يشرع في إعادة كتابة رواية قديمة لجاره، الكاتب سانشيث تحت عنوان "والتر ونكسته"، ضمن سيرة نصوص متشظية يحاول رتق ثقوبها بخيط يؤهلها لكي تنجو من تفككها، ويقود نثر ضياعها إلى نسق متماسك، فهو لا يصحح وينقح فحسب، بل يكتبها من جديد، وبذا يكون عمله محض مشروع مركب: كتابة اليوميات من جهة أولى، وتحرير وكتابة ثانية لرواية كاتب آخر، سابق، هو جاره سانشيث مع التأكيد اللاسع: الجيران هم الجحيم.