توم فليتشر... المستشار الموثوق والأممي المنحاز للإنسانية

تحذيراته بدأت تُحدث صدى في الولايات المتحدة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
توم فليتشر يحمل تقرير "النظرة العامة على العمل الإنساني العالمي لعام 2025" خلال مؤتمر صحافي في جنيف في 3 ديسمبر 2024

توم فليتشر... المستشار الموثوق والأممي المنحاز للإنسانية

منذ تعيينه منسقا أمميا للشؤون الإنسانية، برز الدبلوماسي البريطاني السابق توم فليتشر كأحد أبرز المنتقدين علنا للسياسات العسكرية الإسرائيلية في غزة وأكثرهم صراحة.

من خطابه المثير للجدل أمام الأمم المتحدة في مايو/أيار، حيث وصف القيود الإسرائيلية على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بأنها "عقاب جماعي قاس" بحق السكان الفلسطينيين، إلى اتهاماته الأخيرة بأن إسرائيل تتخذ "خيارات متعمدة" لحرمان المدنيين من الغذاء، ظل فليتشر ثابتا في موقفه، مسلطا الضوء على معاناة سكان القطاع المحاصر.

وقد وضعه هذا النهج في مواجهة مباشرة مع إسرائيل ومؤيديها، إذ اتهمه سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، داني دانون، في تصريحاته العلنية بشأن أزمة غزة، بالتخلي عن "أي مفهوم للحياد".

ومع ذلك، يبقى الحدث الأبرز في سلسلة تصريحاته، والذي أثار أكبر جدل منذ تعيينه في أكتوبر/تشرين الأول 2024 من قبل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، خطابه أمام مجلس الأمن في مايو، حيث بدا وكأنه يتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، إذ قال "تفرض إسرائيل عمدا ودون خجل ظروفا غير إنسانية على المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، مضيفا أن معظم مناطق غزة "إما ضمن مناطق عسكرية إسرائيلية مغلقة أو خاضعة لأوامر بالإخلاء".

وأكد أن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، ملزمة بموجب القانون الإنساني الدولي بالسماح بدخول المساعدات وتسهيلها. وقال: "لمن لا يزال يتظاهر بالشك، فإن النموذج الذي صممته إسرائيل لتوزيع المساعدات ليس هو الحل"، موضحا أن هذا النموذج "يحوّل الجوع إلى ورقة مساومة. إنه مشهد ساخر. تشتيت متعمد. غطاء لمزيد من العنف والتهجير". وخاطب السفراء قائلا: "إذا كان لأي من ذلك معنى بعد، فلا تكونوا جزءا منه".

تُظهر المؤشرات أن تحذيرات فليتشر، سواء في أروقة الأمم المتحدة أو من خلال مقابلاته الإعلامية المتعددة، بدأت تُحدث صدى في الولايات المتحدة

ردّ دانون على ذلك بتصريحات حادة، قال فيها إن كلام فليتشر "صدَمه وأزعجه"، ونعتَ ما ورد في خطابه بأنه "غير لائق تماما وغير مسؤول إلى حد كبير (...) لقد حطّم أي مفهوم للحياد".

وكتب دانون: "لقد تجرأتَ، بصفتك مسؤولا أمميا رفيعا، على الوقوف أمام مجلس الأمن وتوجيه تهمة الإبادة الجماعية دون دليل، أو تفويض، أو تحفظ. إنك ملزم، كممثل رفيع في الأمم المتحدة، بعدم إصدار أحكام مسبقة في قضايا دولية معقدة. لكنك فعلت العكس تماما. لم تكن تلك إحاطة، بل موعظة سياسية".

ورغم هذا التصعيد، تُظهر المؤشرات أن تحذيرات فليتشر، سواء في أروقة الأمم المتحدة أو من خلال مقابلاته الإعلامية المتعددة، بدأت تُحدث صدى في الولايات المتحدة، حيث أقرّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب علنا بوجود "تجويع حقيقي" في غزة، في تصريح يتعارض صراحة مع تأكيدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "لا توجد مجاعة" في القطاع.

وقال ترمب خلال لقائه برئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في اسكتلندا الشهر الماضي: "هؤلاء الأطفال يبدون جائعين جدا... هذا تجويع حقيقي. لم ينجز أحد شيئا عظيما هناك. المكان بأسره في حالة فوضى... قلت لإسرائيل: ربما ينبغي أن يتصرفوا بطريقة مختلفة".

أ.ف.ب
توم فليتشر في زيارة لمركز الرعاية الصحية المتنقل " في قرية نواباد، أفغانستان في 30 أبريل 2025

وجاءت هذه التصريحات بعد أن قال فليتشر إن "كميات ضخمة" من الغذاء مطلوبة لتفادي المجاعة، مرحبا بالإجراءات الإسرائيلية الأخيرة التي سمحت بإدخال مزيد من المساعدات إلى غزة، سواء عبر الإسقاط الجوي أو من خلال فترات التهدئة العسكرية التي تتيح وصول القوافل. لكنه أشار إلى أن ما وصل حتى الآن "مجرد قطرة في محيط".

وقال في مقابلة على إذاعة "BBC-4": "هذه بداية، لكن الأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة. نحتاج إلى توصيل المساعدات على نطاق أوسع بكثير. نحن بحاجة إلى كميات ضخمة من المساعدات، بسرعة أكبر".

أما إسرائيل، التي تتحكم في كل ما يدخل إلى القطاع، فتنفي وجود مجاعة، وترفض الاتهامات الموجّهة إليها بالمسؤولية عن نقص الغذاء.

ويعتقد توم فليتشر، الدبلوماسي المخضرم الذي شغل سابقا مناصب استشارية لرؤساء الوزراء البريطانيين توني بلير، وغوردون براون، وديفيد كاميرون، أن الأزمات العالمية في حالة تفاقم، وأن النظام الإنساني يواجه أزمة في التمويل والمكانة.

وقد قال مؤخرا في مقابلة صحافية: "إنها ليست مواردنا المالية فقط التي تتعرض للهجوم، بل أيضا معنوياتنا وشرعيتنا".

يعترف فليتشر بأن الأمم المتحدة تواجه أزمة حقيقية في التمويل والفاعلية، ويقول إننا في ظل تقلّص الميزانيات وتزايد النزاعات "لا بدّ أن نجد طرقا لتحسين التنسيق"

برز فليتشر كمدافع صريح عن إصلاح شامل في النظام الإنساني، داعيا إلى ما وصفه بـ"إعادة ضبط إنسانية". غير أن هذه الدعوة أثارت انقساما في صفوف الناشطين الإنسانيين: بين من يرون أن النظام بحاجة إلى إصلاح تدريجي، ومن يطالبون بإعادة بنائه من الجذور.

في الحلقة الأولى من الموسم الجديد لبودكاست "إعادة التفكير في العمل الإنساني"، ناقش فليتشر مستقبل المساعدات الإنسانية، قائلا: "لا أعتقد أن مشكلتنا كانت يوما غياب الأفكار، بل فشلنا في تنفيذها وتطبيقها".

وتناول في حديثه قضايا عديدة، أبرزها:

• الحاجة إلى دعم أوسع للصحة النفسية في ظل "كميات هائلة من الصدمات".

• التساؤل عما إذا كان ينبغي أن يكون هو "آخر رجل أبيض بريطاني يتولى هذا المنصب".

• التحديات البنيوية التي تعيق إحداث تغيير جذري في آليات العمل الإنساني.

واختتم بالقول: "يجب أن نكون مستعدين لنسأل: هل نحن جميعا ما زلنا ضروريين بالطريقة ذاتها؟".

أ.ف.ب
توم فليتشر في مؤتمر بروكسل التاسع لدعم سوريا، في مبنى أوروبا في بروكسل في 17 مارس 2025

انضم فليتشر إلى وزارة الخارجية البريطانية بعد تخرجه من جامعة أكسفورد بدرجة امتياز في التاريخ الحديث. وقد شغل مناصب دبلوماسية في نيروبي وباريس، وعمل سكرتيرا خاصا لوزيري الخارجية البارونة آموس وكريس مولين.

في الفترة من 2011 إلى 2015، شغل منصب السفير البريطاني في لبنان. وبين عامي 2020 و2024، تولى رئاسة كلية هيرتفورد في جامعة أكسفورد، وهو أيضا عضو بارز في كلية سانت أنتوني المتخصصة في الدراسات الدولية.

بين عامي 2007 و2011، كان مستشارا للسياسة الخارجية وشؤون أيرلندا الشمالية لثلاثة رؤساء وزراء بريطانيين.

وصفه رئيس الوزراء السابق غوردون براون في مذكراته بأنه "لا يُستغنى عنه ولا يعرف الكلل"، بينما كتب ديفيد كاميرون في كتابه "للتاريخ" "For The Record": "ثمة رجل واحد أثبت أنه لا غنى عنه: توم فليتشر.. أصبح داعمي ومستشاري ومرجعيتي لكل دولة على وجه الأرض تقريبا".

يعترف فليتشر بأن الأمم المتحدة تواجه أزمة حقيقية في التمويل والفاعلية، ويقول إننا في ظل تقلّص الميزانيات وتزايد النزاعات التي تثقل كاهل منظومة الإغاثة الدولية "لا بدّ أن نجد طرقا لتحسين التنسيق حتى نصبح أكثر كفاءة في تقديم المساعدات".

وأشار إلى أن السعي إلى جمع 47 مليار دولار لتحقيق الأهداف الأممية العالمية يبدو هدفا متفائلا، ولا سيما في ظل العداء السياسي من بعض القادة، مثل ترمب، وتراجع التعاطف العام في الديمقراطيات الغربية.

font change