سوريا.... في شرعية القيادة الانتقالية والحق في مساءلتها

لا يمكن القول ببناء دولة مؤسسات وقانون دون القول بدولة مواطنين

أ.ف.ب
أ.ف.ب
فرسان يقدّمون عرضا خلال مراسم الكشف عن شعار سوريا الجديد قرب ضريح الجندي المجهول على جبل قاسيون المطلّ على دمشق، 3 يوليو 2025

سوريا.... في شرعية القيادة الانتقالية والحق في مساءلتها

استمد العهد السوري الجديد، برئاسة أحمد الشرع، شرعيته من ثلاثة مصادر أساسية، تمثلت أولا بدوره في انهيار نظام الأسد، بعد استعصاء طويل ودامٍ ومدمر دام 14 عاما، إذ اعتبر من قبل معظم السوريين بمثابة المخلص من نظام وراثي واستبدادي حكم البلد أكثر من نصف قرن. ثانيا، عدم استغلاله قوته العسكرية في لحظة الانهيار الكبيرة تلك بأخذ البلد نحو معارك دامية ومدمرة للانتقام من نظام الأسد بمؤسساته وتشكيلاته ومواليه.

ثالثا، كبح النزوع نحو انفجار الصراعات الهوياتية الثأرية وفقا للهويات الأولية الدينية والإثنية والعشائرية في البلد، مع الحديث بلغة التحول إلى الدولة، والميل إلى التسامح، حتى مع بعض رموز معروفة بمشاركتها الإجرام بحق السوريين مباشرة أو بشكل غير مباشر.

ومعلوم أن العاملين الأخيرين كانا ضمن خشية أكثر المتفائلين، بالنظر لمظلوميات عمرها خمسة عقود، منها الـ14 سنة الماضية، التي تم فيها تشريد نصف السوريين من بيوتهم ومن بلدهم، وقتل مئات ألوف منهم، مع تدمير عمرانهم.

المهم أن العوامل الثلاثة المذكورة لعبت دورا كبيرا في تعزيز قبول أغلبية السوريين بالرئيس السوري الجديد، للمرحلة الانتقالية، ومنحه نوعا من الإجماع لم يحظ به أي رئيس سابق لسوريا، وقد أسهم في تكريس ذلك القبول العربي والدولي (وضمنه الأميركي) بالقيادة الجديدة، واحتضانها، وتقديم الدعم لها.

بيد أن مشكلة القيادة الانتقالية الجديدة، أنها لم تقرأ بطريقة صحيحة، ولم تستثمر بطريقة جيدة، العوامل الثلاثة المذكورة، إذ إن معنى العامل الأول يستوجب التأكيد للسوريين أن ثمة عهدا جديدا يقطع مع نظام الفساد والاستبداد، ويتأسس على المشاركة السياسية، واستعادة دولة المؤسسات والقانون، وتأكيد حقوق السوريين كمواطنين أحرار ومتساوين.

ما تقدم لا يعدّ تطلّبا زائدا، فمن المفهوم استحالة تحول سوريا إلى بلد مثل السويد، أو ماليزيا، او سنغافورا، مثلا، في ظرف أشهر أو عدة سنوات، وإنما المطلوب تأكيد السير في ذلك الاتجاه، بتأكيد التحول إلى دولة مؤسسات وقانون لجميع المواطنين، وليس لجماعة معينة، تبعا للشعار الخاطئ والمتسرع: "من يحرر يقرر"، علما أن معظم السوريين المنكوبين كانوا دفعوا ثمنا باهظا للثورة السورية، بطريقة أو بأخرى، طوال 14 عاما، وما حصل يوم 8/12/24، أتى تتويجا لمسار التضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلها السوريون، على امتداد الجغرافيا السورية، بحيث تضافر العامل الذاتي مع العامل الموضوعي، بتوفر البعدين الدولي والإقليمي للتغيير في سوريا.

من الأخطاء المتسرعة حل الجيش، وأجهزة الشرطة، والكثير من أجهزة الدولة، في حين كان يمكن إقالة كبار الضباط والأشخاص المعروفين بولائهم للنظام السابق والفاسدين

القصد أن معظم السوريين شركاء في الإنجاز التاريخي الحاصل، وهؤلاء منحوا الشرعية للرئيس الشرع، لكن في المقابل لم يتم التعامل معهم على قدم المساواة، في اختيار المؤهلين والمخلصين من بينهم لملء مفاصل الدولة، وإدارة عجلتها، إذ ظل الأمر محصورا في المقربين، باعتبارهم أهل الثقة.

وقد فاقم من ذلك فرض شخصيات مقربة في النقابات، علما أن هذه ليست من مهمة الدولة، فهذا ما كان يفعله نظام الأسد، أي كان الأجدى توجيه النقابات نحو إجراء انتخابات يختار فيها الأعضاء قيادتهم في ظرف شهرين أو ستة أشهر، أو أي فترة مناسبة.  ينطبق ما تقدم على الانتخابات التشريعية، فإذا كان يمكن تفهم تأجيل تلك العملية ريثما يتم سن قانون للأحزاب، وترسيخ حرية الرأي والإعلام والتجمع، لخلق تفاعلات سياسية تمهد لتشكيل كيانات سياسية، فقد كان بالإمكان التوجه نحو إجراء انتخابات محلية، مناطقية، لإدارة القرى والبلدات وأحياء المدن، بعد أشهر محددة، ما كان من شأنه تخفيف ثقل المهمات والمسؤوليات التي تقع على القيادة الجديدة، وخلق شركاء مؤهلين، فاعلين، وموثوقين، وشبكات وسيطة منتخبة بينها وبين الشعب، في مختلف الجغرافيا السورية، ما يجدد الثقة لدى السوريين في المستقبل، بانتظار انتخابات تشريعية في ظروف سياسية واجتماعية ودستورية مناسبة.

أ.ف.ب
الرئيس السوري أحمد الشرع (يمين) يستقبل المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس براك، في القصر الرئاسي بدمشق في 9 يوليو 2025

طبعا، يأتي ضمن تلك الأخطاء المتسرعة حل الجيش، وأجهزة الشرطة، والكثير من أجهزة الدولة، في حين كان يمكن إقالة كبار الضباط، والأشخاص المعروفين بولائهم للنظام السابق، والفاسدين، وتاليا الحفاظ على جسم الدولة، كجهاز لا بد منه لإدارة البلد، ما كان من شأنه التسهيل على القيادة الجديدة، الإمساك بكل مفاصل الدولة، بطريقة سلسة أكثر، والالتفات إلى القضايا الأكثر أهمية.

ثمة قوى محسوبة على مجتمع "الدروز" كانت قريبة من نظام الأسد، وثمة طرف في هذا المجتمع يتخوف من الذوبان، أو يرتاب من العهد الجديد، ويتوسل الدعم من الخارج، وضمنه من إسرائيل

في العامل الثاني، بدا أن القيادة السورية الجديدة التي حرصت على تجنّب أي اقتتال، وهذا يحسب لها، إلا أنها لم تحصّن ذاتها وشعبها جيدا ضد ذلك، سياسيا وأمنيا وأخلاقيا، ما أدى إلى استسهال استدراجها للاقتتال، وتوريطها فيه، ضد هذا الطرف أو ذاك.

في المرة الأولى حصل ذلك في الساحل بحكم القوى المضادة، الموالية لنظام الأسد، والمتربصة بالعهد الجديد، والتي استطاعت تحميل القيادة الجديدة المسؤولية عن بعض الانتهاكات بحق مدنيين أبرياء وعزل، إنْ من القوى الأمنية غير المحصنة ثقافيا وأخلاقيا ضد ذلك، أو من قبل الفصائل غير المنضبطة، التي تضمر للقيادة الجديدة نوايا خبيثة لإفشالها.

على كلٍ، فقد اعترف الرئيس نفسه بوجود انتهاكات، وشكل لجنة للتحقيق (قدمت تقريرها وتوصياتها يوم 22/7)، لكن تلك الأحداث أدت إلى توريط القيادة الجديدة، وكشفت عدم تجانس قواها الأمنية، وضعف أهليتها، كما أنها عززت الشرخ بين السوريين.

في المرة الثانية، حصل ذلك في السويداء، بيد أن البيئة هنا تختلف عن بيئة الساحل، كونها محسوبة على الثورة السورية، ومعادية لنظام الأسد، وخاضت عصيانا مدنيا لمدة عامين، وكان مجتمع "الدروز" امتنع عن مشاركة أبنائه في "جيش الأسد"، لتجنب جريمة قتل إخوتهم من السوريين، كما كانت السويداء بمثابة ملاذ آمن للسوريين من أرياف درعا ودمشق.

في هذا الإطار يمكن الحديث كثيرا عن مسؤولية هذا الطرف أو ذاك عن القتال، لكن الأمر الأساسي الآن أن ثمة خطأ من طرفين، فمن المعروف أن ثمة قوى محسوبة على مجتمع "الدروز" كانت قريبة من نظام الأسد، وأن ثمة طرفا في هذا المجتمع يتخوف من الذوبان، أو يرتاب من العهد الجديد، ويتوسل الدعم من الخارج، وضمنه من إسرائيل، لكن مع كل ذلك ثمة طرف ثالث يتمثل في قيادات روحية وسياسية وثقافية، لها رأي آخر، بأن السويداء جزء من سوريا، وأن مجتمع "الدروز" جزء من المجتمع السوري.

على ذلك فإن المسؤولية الأساسية هنا تقع على عاتق الدولة، لأنها مسؤولة عن كل السوريين، ولأنها لم تقرأ تعقيدات الوضع الدرزي، ومداخلاته الداخلية والخارجية، ولأنها لم تفتح المجال لتمكين أصحاب الرأي من القيادات الروحية والمدنية لتعزيز مكانتهم، عبر إشراكهم في العملية السياسية، وتمكينهم من إدارة المجتمع في السويداء، بدل الذهاب نحو الحل الأمني، الذي قوّى الأطراف المضادة، وسهل دخول إسرائيل على الخط.

مشكلة السويداء كشفت ضعف قراءة القيادة الجديدة للوضع الإقليمي والدولي، إذ إن إسرائيل ظلت تتطلع إلى الاستثمار في ضعف البلد في المرحلة الانتقالية

بيد أن ما فاقم الأمر أكثر هو سماح القيادة السورية للعشائر بحمل السلاح والقدوم إلى السويداء، إذ إن هذه الخطوة تعني تخليها عن مبدأ سيادة الدولة على أراضيها، وعن حق الدولة احتكار السلاح، لصالح طرف غير دولتي، وغير ممأسس، وغير قانوني، ما يشكل خطورة مستقبلا على الدولة ذاتها.

المسألة أيضا أن هذا الوضع يفيد بعدم المساواة بين المواطنين، بين عشائر يسمح لها بحمل السلاح، ومواطنين ممنوع عليهم ذلك، إضافة إلى أن ذلك يتناقض مع قول القيادة الانتقالية بحل كل الفصائل العسكرية، وتوحيدها بالجيش السوري.

نأتي إلى العامل الثالث، إذ إن الحؤول دون انفجار الصراعات الهوياتية، كإنجاز للقيادة الجديدة، بدا في مهب الريح، بخاصة بعد أحداث السويداء، الدامية والمريرة والمؤلمة، لأن هذا الوضع أثار علامات شك حول إقامة دولة لكل السوريين.

أ.ف.ب
إجراءات إسرائيلية لمنع السوريين الدروز من عبور الخط الفاصل من سوريا إلى مرتفعات الجولان، في 16 يوليو 2025

فإذا كان ثمة في أحداث الساحل محاولة لوأد محاولات فلول النظام، وأتباع إيران و"حزب الله"، العبث في الوضع السوري، فإن أحداث السويداء بدت كحرب غلط، وكورطة خالصة، وربما كفخ، وقعت فيه القيادة الجديدة، نجم عنه وضعها صراحة كدولة لجماعة من السوريين، وليس لكلهم، لأن السويداء كانت عصية على نظام الأسد أساسا.

مشكلة السويداء، أيضا، كشفت ضعف قراءة القيادة الجديدة للوضع الإقليمي والدولي، إذ إن إسرائيل هنا التي تتربص بسوريا، منذ اليوم الأول لانهيار النظام، ظلت تتطلع إلى الاستثمار في ضعف البلد في المرحلة الانتقالية، للحؤول دون تخليق إجماعات وطنية جديدة فيه، وإبقائه كدولة فاشلة وغير مستقرة، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وضمن ذلك يأتي طرحها فكرة حماية "الأقليات"، ومنع أي وجود للجيش السوري في الجنوب في القنيطرة ودرعا والسويداء.

في نتيجة كل ماحصل، وبغض النظر عن تحميل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية عما جرى، فإن القيادة الانتقالية الجديدة خسرت من رصيدها، الذي شكلته من العوامل الثلاث المذكورة آنفا، وهي تقف اليوم أمام واقع تآكل في شرعيتها وشعبيتها، بالقياس للأشهر الأولى بعد إسقاط نظام الأسد البائد.

كل ما تقدم لا يعني أن القيادة الجديدة باتت ضعيفة، أو معزولة، فهذه القيادة، برئاسة الشرع، ما زالت هي القوة الأكثر شرعية وتماسكا وقوة في سوريا، وهي لذلك، وفي ظل الفراغ السياسي المهول في البلد، ما زالت بمثابة الطرف الذي يتحمل المسؤولية عن إيجاد حلول للخروج من كل الاستدراجات التي تورطت فيها، عن قصد أو من دونه، إضافة إلى تحملها المسؤولية مع الأطراف الآخرين عما جرى.

لا يمكن القول بوحدة سوريا الجغرافية وسيادتها على أراضيها، دون القول بوحدة الشعب السوري، واعتباره صاحب السيادة في بلده

أيضا، فإن هذه القيادة معنية بإدراك أهمية بناء إجماعات وطنية للسوريين، كسوريين أحرار ومتساوين، ليس فقط في البعدين القانوني والسياسي وإنما في البعد الأخلاقي أيضا، فمن يلاحظ منشورات السوريين في "فيسبوك" يمكنه أن يلاحظ مدى الشرخ الحاصل، ومدى ضعف الحصانة السياسية والأخلاقية إزاء الاستدراج لحرب الكل ضد الكل، والوقوع في فخ العصبيات الطائفية والإثنية، ونبذ أي تفكير نقدي.

على ذلك، فإن أي حل في سوريا لا بد أن ينطلق من وحدة الشعب السوري على أرضه، وسيادته عليها، بمعنى أن كل طرف يجب أن يعترف بالأطراف الآخرين، ويقبل بالتعايش معهم، لأن الاتكاء على الحل الأمني، أو الحل بالغلبة، ليس حلا، وإنما هو وصفة للتصدع الداخلي، وكشف لسوريا أمام التدخلات الخارجية، كما حصل، إذ إن الاثنين، أي التصدع والانكشاف، يشكلان عقبة كأداء دون إقامة دولة للسوريين، بمعنى الكلمة، أي دولة مؤسسات وقانون، كما أنهما يحولان دون إقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين ومستقلين، عن هوياتهم الأولية (أي دون التخلي عنها).

في المحصلة، فإن القيادة السورية الجديدة، كونها قيادة للدولة، وفي ظل الفراغ السياسي الحاصل، وتفشي الحالة الفصائلية-الميليشياوية، هي المسؤولة عن تدارك الوضع الحاصل في السويداء، كما في شمال شرقي سوريا، وفي عموم سوريا، وإدراك حقيقة أن الحل الأمني، بالطريقة التي تم فيها، بخاصة مع فزعة "العشائر"، أضرّ بصدقية إقامتها دولة لكل السوريين، كما أضر بوعدها بتمكين المواطنة، وهي حجر الأساس في توليد دولة سورية جديدة، تكون نقيضا لنظام الأسد البائد.

باختصار، لا يمكن القول بوحدة سوريا الجغرافية وسيادتها على أراضيها، دون القول بوحدة الشعب السوري، واعتباره صاحب السيادة في بلده، ولا يمكن القول ببناء دولة مؤسسات وقانون دون القول بدولة مواطنين، أحرار ومتساوين، إذ إن سوريا، بخاصة في هذا الظرف، تقوى بوحدة شعبها، فهذا ما يصد التدخلات الخارجية، وضمنه محاولات التدخل الإسرائيلي.

font change