صنع الله إبراهيم بعيون كتاب عرب: معلم الأجيال وآخر الروائيين الكبار

روائي العصيان الذي حول الرواية إلى وثيقة إدانة

GettyImages
GettyImages
الكاتب المصري صنع الله إبراهيم، في فرنسا

صنع الله إبراهيم بعيون كتاب عرب: معلم الأجيال وآخر الروائيين الكبار

يعد الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، الذي فارق الحياة قبل أيام عن 88 عاما، نموذجا للكاتب الذي قرر أن يعيش ويموت على ضفاف الحقيقة. لا يكتب ليعجب، بل ليوقظ، ولا يتردد في أن يدفع ثمن هذا الخيار من راحته وشعبيته. فهو الكاتب الذي لا يهادن، لأنه يؤمن أن الرواية الحقيقية هي شهادة على زمنها، قبل أن تكون فنا جميلا.

في المشهد الأدبي العربي، أسماء لا تتكرر كثيرا، ووجوه ترتبط في الذاكرة بروح التمرد والبحث عن الحقيقة. صنع الله إبراهيم، المولود عام 1937، هو واحد من هؤلاء القلائل الذين جعلوا من الكتابة أداة مقاومة، ومن الرواية سجلا مفتوحا للواقع السياسي والاجتماعي في مصر والعالم العربي. لا يكتب صنع الله للتسلية أو الهروب، بل يكتب ليضع القارئ في مواجهة مباشرة مع قضايا الحرية والفساد والاستبداد.

وكان الكاتب الراحل ذكر أن والده إبراهيم حين بشر بمولده، كان يقرأ في المصحف، فتوقف عند قوله تعالى في سورة النمل "وترى الجبال تحْسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ۚ صنْع الله الذي أتْقن كل شيْء ۚ إنه خبير بما تفْعلون"، فاختار الأب لابنه اسم "صنع الله".

بدأت رحلة صنع الله إبراهيم الأدبية في ظل واقع سياسي صاخب في خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث كان شابا مثقفا منخرطا في الحركة اليسارية المصرية. دفع ثمن مواقفه السياسية غاليا، إذ قضى سنوات في السجن بسبب نشاطه المعارض. لكن السجن، الذي كان لكثيرين نهاية حلم، تحول عنده إلى بداية مشوار أدبي مختلف، إذ كتب لاحقا مجموعته القصصية الشهيرة "تلك الرائحة" (1966) التي كسرت التابوهات الأدبية بأسلوبها التجريبي ولغتها المقتضبة.

ولم يتوقف صنع الله إبراهيم عن استفزاز القراء والنظام معا. أعماله مثل "اللجنة" و"ذات" و"وردة" و"أمريكانلي" و"بيروت بيروت"، حملت مزيجا من الوثائق والتاريخ والخيال، حتى صارت أعماله أقرب إلى أرشيف مفتوح للذاكرة المصرية والعربية، يعرض الحقائق كما هي، بلا تجميل أو تحسين لإرضاء أحد.

صدر كتابه الأول "تلك الرائحة" عام 1967، بعد خروجه من المعتقل، وقدم له الكاتب الكبير يوسف إدريس بكلمات خلدت العمل ومبدعه، وبدت صفعة على وجه الأدب التقليدي: نص صادم، مقتضب، يعكس إحباط جيل كامل بعد نكسة الحلم الثوري. ومن بعدها توالت أعماله التي تثير الجدل وتكسر المألوف، كأنه يكتب أرشيفا مفتوحا لزمن مضطرب.

أيضا عرف صنع الله إبراهيم بمواقفه الحادة، فقد رفض عام 2003 استلام جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، حين صافح وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني ثم ألقى كلمة اعتبر فيها أن الحكومة المصرية التي تمنح الجائزة "لا تملك مصداقية منحها"، وجاء ذلك على خلفية الكثير من القضايا التي رأي فيها أن الدولة تخاذلت، وقال "في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان"، كان ذلك المشهد تجسيدا لشخصيته: الكاتب الذي لا يكتب لإرضاء أحد.

أكثر ما يثير إعجابي في صنع الله هو انحيازه الكامل للمهمشين والمقموعين، وجرأته على أن يجعل من الرواية مساحة للحقيقة

إبراهيم عبد المجيد

هذا الرفض لم يكن نزوة، بل امتداد لطريقة في جعل الأدب موقفا سياسيا قبل أن يكون فنا.

"المجلة" تحدثت إلى عدد من الروائيين والشعراء والكتاب المصريين والعرب الذين أضاؤوا على جوانب من مسيرة صنع الله إبراهيم.

إبراهيم عبد المجيد: ضمير حي للكاتب العربي

الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد تحدث الى "المجلة" بحزن شديد لفقدان صديقه الكاتب صنع الله إبراهيم، قائلا: "هو ضمير حي للكاتب العربي، لم يساوم يوما على موقفه".

وأضاف عبد المجيد: "أكثر ما يثير إعجابي في صنع الله هو انحيازه الكامل للمهمشين والمقموعين، وجرأته على أن يجعل من الرواية مساحة للحقيقة حتى لو أزعجت هذه الحقيقة الجميع. كما أنه جعل من كل رواية له أشبه بملف سياسي وثقافي عن زمنها".

مي التلمساني: آخر عنقود جيل الستينات

قالت الروائية المصرية مي التلمساني: "إنني حزينة جدا، هذا آخر عنقود جيل الستينات يرحل، ربطتني به صلة صداقة ومحبة كبيرة. رحل تاركا أعماله الكبيرة ومحبته في قلوب الكثيرين، لاحقا بمحمد البساطي وابراهيم أصلان وبهاء طاهر وإدوار الخراط ولهم جميعا في قلبي منزلة كبيرة من الحب والاحترام".

وأضافت لـ"المجلة": "عرفت صنع الله من مسافة قريبة، لكن القرب لم يكن كافيا لتفسير تلك المحبة العميقة، غير المشروطة، التي شعرت بها نحوه، إنسانا وكاتبا. كان أول لقاء بيننا في أمسية بعيدة، في بهو المركز الثقافي الروسي بحي الدقي، حيث أقيم معرض للفن التشكيلي الروسي. لمحته هناك، أشبه بعصفور صغير، شعره منفلت، وكتفاه منحنيتان قليلا، وابتسامة وديعة تضيء وجهه وهو يتنقل بخفة بين الحاضرين، معظمهم من المثقفين والنشطاء الماركسيين. استوقفه أبي، ليقدمني إليه ويقدمه إلي. قال كلمة إطراء، ثم دعاني بلطف لأن نلتقي لاحقا، بحجة أننا جيران في مصر الجديدة، ولأنني أجيد الفرنسية. كان في تلك الدعوة من الرقة والاحترام ما ظل ينسج خيوط علاقتنا لسنوات طويلة.

رواية "تلك الرائحة"

يومها كنت في العشرين أو بعدها بقليل. لم ينظر إلي بعين الأبوة التي يمنحها العمر والخبرة، ولا باستعلاء يتسلل أحيانا من فجوة الجندر، بل أخذني على محمل الجد منذ اللحظة الأولى. حين أخبره أبي أنني أترجم من الفرنسية إلى العربية، سألني إن كنت أستطيع العكس، فأجبت بالإيجاب بحماسة الواثقين الشباب، أولئك الذين يثقون بقدرتهم قبل أن يختبروها.

اتفقنا على موعد. سيأتي تحت بيتنا صباحا، ونسير معا حتى "ميدان سفير"، حيث كان مقهى "خرينوس" الشهير، الذي ابتلعته الأيام في ما بعد. لا أذكر بالضبط ما قلناه في ذلك الصباح، لكني أذكر دفء تشجيعه، واقتراحه أن نعرض المسودة على ريشار جاكمون، المسؤول عن الترجمة بالسفارة الفرنسية آنذاك، والذي أصبح لاحقا صديقا ومترجما لأعمال صنع الله إبراهيم".

واسيني الأعرج: خسارة أدبية وثقافية

الراوئي الجزائري واسيني الأعرج، قال: "إن رحيل الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم، خسارة أدبية وثقافية، عربية وإنسانية كبيرة. نحتاج إلى زمن طويل وشروط تاريخية مناسبة، كي نحصل على روائي بحجمه وتواضعه. فقد ربط بين المادة الروائية في جانبها الفني والدرس الأخلاقي بالمعنى الواسع، المتخفي من وراء ذلك، و لا يوجد أدب ينشأ في الفراغ ولكن لوظيفة حية حقيقية".

يعتبر من المجددين في حقل الرواية العربية فأخرجها من رومانسيتها وضعفها وجعل منها وسيلته الحية للمقاومة

واسيني الأعرج

وأضاف الأعرج لـ"المجلة": "على الرغم من تأثيرات سارتر على مفهوم الالتزام، إلا أن صنع الله إبراهيم ألح على المساحة الفنية التي لا يمكن تصور أدب إلا من خلالها. التزم تحولات المجتمع المصري والعربي وانتقاله من حقبة إلى حقبة دون أن يكون ذلك على حساب الرواية كفن، واستنجد بالتاريخ والوثيقة لكن ذلك كان بالنسبة اليه وسيلته لصدقية النص. لامه بعض النقاد على ذلك إذ يمكن نزع المادة الارشيفية دون أن يتضرر النص.

لكن لصنع الله رؤية أخرى. فالأدب لا يستقيم إلا بوسيطه الفني، تنوعت موضوعاته كثيرا مما أعطى غنى لتجربته ولم تعد محصورة في نموذج واحد. لقد مضى وراء قناعاته إلى أقصاها. فاعتقل بسبب مواقفه لكنه ظل منتصرا للخير وللطبقة التي خرج منها وللنخب الثقافية الحية. لهذا يعتبر من المجددين في حقل الرواية العربية فأخرجها من رومانسيتها وضعفها وجعل منها وسيلته الحية للمقاومة وبنى مجتمعا موازيا اكثر عدالة وجمالية".

أحمد سويلم: فقدنا صوتا نفذ إلى وجدان الملايين

الشاعر المصري الكبير أحمد سويلم قال: "إذا ذكر فن الرواية، ذكر صنع الله إبراهيم، وإذا ذكرت الكرامة الإنسانية ذكر صنع الله ابراهيم، وإذا ذكر النبل الإنسانى ذكر صنع الله إبراهيم، وإذا ذكرت الوطنية الصادقة ذكر صنع لله إيراهيم".

وأضاف لـ"المجلة": "لقد فقدنا صوتا نفذ إلى وجدان الملايين، صاحب موقف وتضحية... وترك فراغا لا يملؤه أحد من بعده".

AFP
الروائي المصري صنع الله إبراهيم يجري مقابلة في منزله بالقاهرة

 

إبراهيم زولي: شاهد يكتب من قلب التجربة

الشاعر والكاتب السعودي إبراهيم زولي قال: "صنع الله إبراهيم هو أحد أعمدة السرد العربي وأشدهم صدقا في مواجهة الواقع. لم يكن مجرد حكاء يصوغ الأحداث، بل شاهدا يكتب من قلب التجربة، يلتقط التفاصيل الصغيرة ليكشف هشاشة البُنى الكبرى، ويضع القارئ أمام أسئلة مُقلقة عن المصير الفردي والجماعي. في مسيرته التي امتدت عقودا، ظل وفيا لفكرته الجوهرية: أن الرواية ليست للزينة، بل أداة مساءلة، ومختبر للحقيقة، وساحة مقاومة ضد النسيان والخضوع".

وأضاف زولي لـ"المجلة": "في أعماله مثل "نجمة أغسطس" و"بيروت بيروت" و"شرف" و"أمريكانلي، وفي مجموعته القصصية اللافتة "تلك الرائحة"، كتب بعين المؤرخ ونبض الثائر، يواجه الخوف بجرأة الكلمة، ويستخرج المعنى من قلب الخراب. لم يسع وراء الجوائز، ولم يهادن سلطة أو تيارا، بل ظل ممسكا بخيط الحرية حتى النهاية، مؤمنا أن الكاتب لا يكتفي برواية الحكايات، بل يمنحها روحا ومسؤولية".

وأضاف الشاعر السعودي: "كان يرى أن الكاتب الحق يعيش في قلب الشارع، حيث أصوات المهمشين وندوب المقهورين. لذلك بقيت رواياته حية، لا تُقرأ كنصوص من الماضي، بل كشهادات على حاضر ممتد".

شهلا العجيلي: أول روائي عربي يكتب نصا ديستوبيا

أما الروائية السورية الدكتورة شهلا العجيلي، أستاذة الأدب العربي الحديث والدراسات الثقافية في الجامعة الأميركية في مأدبا، فقالت: "يمكنني القول إن صنع الله إبراهيم هو أول روائي عربي يكتب نصا ديستوبيا متكاملا، فقد قدم لنا تجربة فريدة في ذلك التيار عبر روايته "اللجنة" التي صدرت عام 1981 عن "دار الكلمة" في بيروت. لقد استطاع برؤية تهكمية فنية تبديل ثالوث القيم المطلقة المعروفة منذ أفلاطون (الحق، الخير، الجمال)، ليصير النموذج الجمالي السائد هو القبيح، والأخلاقي هو السيء، والسياسي هو الجبان، والاقتصادي هو الفاسد".

وأضافت العجيلي لـ"المجلة": "استطاع صنع الله إبراهيم، منذ ذلك الوقت، تمثيل مصير المثقف العربي  في ظل عالم الرأسمالية الثانية (المتوحشة)، التي استعمل لها رمزا شعبيا ودالا على التهافت الثقافي أمام الاحتكارات الرأسمالية العالمية وهو "الكوكا كولا"، بتعبير مبتكر، وبتصوير أليغوري للمجتمع، مؤسس على السخرية  من  المظاهر التي ستخترق المكونات الثقافية الاجتماعية على امتداد العالم العربي وليس مصر فحسب، وما كان يتهكم عليه، وقد صوره في الرواية تصويرا ساخرا أحيانا، وعنيفا مؤلما أحيانا أخرى، نراه اليوم حقيقة لا خيالا، وذلك بعد نحو نصف قرن من طرحه رؤيته، وهذا يجعله أحد كتابنا الرؤيويين.

استطاع برؤية تهكمية فنية تبديل ثالوث القيم المطلقة المعروفة منذ أفلاطون (الحق، الخير، الجمال)، ليصير النموذج الجمالي السائد هو القبيح

شهلا العجيلي

رأى صنع الله تهافت المواطن العربي، وتهافت المثقف العربي الذي انتهك واقعه، وانتهكت أحلامه فاضطر للاستجابة لشروط اللجنة التي ستنقله إلى مستوى أفضل، فقام بالرقص، وببيع مواقفه، وأخيرا بأكل ذراعه المعطوبة، التي عالجها أطباء فاسدون في مجتمع فيه العمال فاسدون، والمهندسون والمعلمون، وذلك لأن السلطة فاسدة. كأن صنع الله إبراهيم الذي رحل عنا إلى عالم أرحب، ترك لنا تلك النصوص البديعة التي تعمل مثل أجهزة الإنذار ضد التهاون، والاستسلام، والمشي مع السوق، أو مع العام، والاستجابة لسطوة الضوء والمال على حساب الموقف والكرامة".

علي بدر: نخسر كاتبا لم يساوم على نصه

الروائي العراقي علي بدر قال: "برحيل صنع الله إبراهيم، يفقد الأدب العربي أحد أكثر روائييه التزاما وصرامة، الكاتب الذي حول الرواية إلى ساحة مواجهة مع التاريخ الحي، وجعل الوثيقة مادة روائية، والنص ساحة تحقيق، واللغة أداة لفضح السلطة. لم يكن صنع الله يسرد حكايات للتسلية، بل يعيد تركيب الوقائع مثل محقق جنائي في أرشيف الزمن، يلتقط الخبر من صفحة جريدة، ويعلق عليه، يضعه جنبا إلى جنب مع شهادة معتقل، أو إعلان في صحيفة، أو صورة باهتة من زمن الحرب".

AFP
الروائي المصري صنع الله إبراهيم خلال مقابلة في منزله بالقاهرة

وأشار بدر إلى أن صنع الله إبراهيم، "بنى سردا مقاوما، يذكر القارئ بأن الذاكرة ليست ملكا للمنتصرين، وأن مهمة الروائي ليست صناعة الأساطير، بل تفكيكها. في أعماله الكبرى، من "تلك الرائحة" إلى "اللجنة" و"وردة" و"بيروت بيروت" و"شرف"، ظل وفيا لفكرته الجوهرية: أن الكتابة فعل سياسي وأخلاقي، وأن الأمانة للحدث تسبق غواية الخيال. هذا النهج يقارب ما فعله الفرنسي لوران بينيه في حين دمج السرد التاريخي باغتيال راينهارد هايدريش مع التأمل في فعل الكتابة، ويذكر أيضا بعمل جون هيرسي "هيروشيما"، الذي وثق مأساة القنبلة الذرية من خلال شهادات ستة ناجين، محافظا على دقة التفاصيل دون أن يتخلى عن حساسية السرد الإنساني. لكن الوثيقة عند صنع الله ليست مجرد إطار أو خلفية، بل قلب النص النابض، تملي إيقاعه وتفرض منطقه، وتجعل القارئ شريكا في عملية البحث والتقصي".

وختم: "برحيله، نخسر الكاتب الذي لم يساوم على نصه، ولم يخفف من حدته ليرضي أحدا. كان شاهدا وخصما، مؤرخا ومتهما، كاتبا يعرف أن الرواية قد تكون السلاح الأخير في معركة الذاكرة. ومعه نودع آخر الكتاب الكبار من اعتبروا أن الكتابة ليست ملاذا، بل وقوف في وجه العاصفة، حتى آخر السطر".

رواية "بيروت بيروت"

بيرسا كوموتسي: أحد أعمدة الأدب العربي المعاصر

الروائية والمترجمة اليونانية بيرسا كوموتسي، تقول: "تعرفت الى أعمال الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، من خلال روايته "اللجنة"، التي قرأتها مصادفة أثناء إحدى رحلاتي إلى مصر. وقد تركت فيّ أثر عميقا لما فيها من جرأة ورمزية ونقد حاد للسلطة والمجتمع عالمية النطاق، لاحقا أتيحت لي فرصة لقائه شخصيا في فعالية نظمها المركز الثقافي اليوناني بالإسكندرية، وكان ذلك اللقاء نقطة تحول حقيقية بالنسبة إلي".

أحد أعمدة الأدب العربي المعاصر، كاتب يتميز بأسلوب فريد، وانحراف جريء عن المألوف ونزعة واضحة لما بعد الحداثة

بيرسا كوموتسي

وأضافت كوموتسي لـ"المجلة": "لقد أثار حماستي ليس فقط من خلال كتابته، بل أيضا من خلال شخصيته المتزنة والمثقفة. شعرت حينها أنني أمام أحد أعمدة الأدب العربي المعاصر، كاتب يتميز بأسلوب فريد، وانحراف جريء عن المألوف ونزعة واضحة لما بعد الحداثة. فطلبت منه إذنا بترجمة عمله إلى اليونانية، وهو ما استجاب له مشكورا".

وقالت: "عندما قررت تقديم أعماله إلى الجمهور اليوناني، واجهت صعوبة كبيرة في إقناع دور النشر، إذ لم يكن معظمهم يعرفه، وكانوا يميلون إلى الأدب الذي يقدم صورة نمطية وتقليدية عن المجتمع المصري. أما كتابات صنع إبراهيم، فكانت مختلفة تماما، بل وصادمة أحيانا، لذلك قررت أن أتولى بنفسي ليس فقط الترجمة بل ونشره على مسؤوليتي الخاصة. صحيح أن أعماله لم تحقق مبيعات كبيرة، لكنه أصبح معروفا بين النخبة المثقفة وقراء الأدب العربي الحقيقيين، والذين كتبوا أشد عبارات المديح عن كتابه، متسائلين لماذا لم نعرف عن هذا المؤلف العظيم من قبل، وبالنسبة إلي، كان ذلك كافيا، لأن أضع اسمه إلى جانب أسماء كبار الأدباء المصريين مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس وإبراهيم عبد المجيد، وبهاء طاهر، وغيرهم من القامات التي أثرت الأدب العربي والعالمي".

رواية "النيل مآسي"

ربيعة جلطي: شجاعة وجرأة أدبية وفكرية

من جانبها قالت الروائية الجزائرية ربيعة جلطي: "لم يكن صنع الله إبراهيم مجرد روائي بارز، بل تميز بشجاعته وجرأته الأدبية والفكرية. بمهارة نادرة لم يفرط في سحرية الإبداع والدهشة والمتعة الأدبية التي تميز كتاباته، كما لم يتنازل عن أفكاره، والتزامه السياسي واختياره الوضوح والدفاع عن الحرية. ظل قويا ووفيا لصفائه منذ كتابه الأولى "تلك الرائحة" في ستينات القرن الماضي، وحتى آخر رمق وحرف".

عبدالله الحامدي: آخر الروائيين العرب الكبار

الشاعر والكاتب السوري عبدالله الحامدي، قال إنه برحيل الروائي صنع الله إبراهيم نودع آخر الروائيين العرب الكبار، من يقرأ روايته "بيروت بيروت" سيعرف سر مراوحة الرواية العربية لدى غالبية الجيل التالي في السيرة الذاتية، أو الواقعية الفجة، تحت لهيب الحروب، فواقع منطقتنا أشد هولا وتركيبا معقدا من أي خيال إبداعي، إلا إذا كان صاحبه ذا موهبة خلاقة تحاكي كاميرات التسجيل، ولكن بحاسة بشرية.

وأشار إلى أن صنع الله "غادرنا وعالمنا يغرق شيئا فشيئا في اللاجدوى، ومثل حنا مينة وعبد الرحمن منيف والطيب صالح ومحمد شكري، الذين استحقوا تقديرا أكبر في بلدانهم، وجوائز عالمية - مثل نوبل - فاتتهم وكانوا أجدر بها، ينضم إلى سجل الخالدين الراحلين بصمت، فيما نحيا في دوامة العنف والإقصاء التي طالما أدانوها وبشروا بقرب انجلائها".

حمود الشايجي: كاتب يضع موقفه فوق أي تكريم

الروائي والكاتب الكويتي حمود الشايجي قال: "اليوم فقدت الساحة الأدبية واحدا من أهم أصواتها، وفقدت شخصيا أحد الأشخاص الذين تركوا أثرا كبيرا في مساري، رغم أن علاقتي به لم تكن شخصية أو قريبة. أول مرة رأيته كانت عام 2003، في مؤتمر الرواية العربية. كنت حينها حاضرا بين الجمهور، أراقب وأستمع، حتى جاءت لحظة أعلن فيها رفضه للجائزة.

معلم لأجيال عديدة في الكتابة، أبدع في أدب السجون في المقام الأول، كما أبدع في الرواية الوثائقية

أمير تاج السر

كانت لحظة حاسمة بالنسبة إلي. رأيت أمامي كاتبا يضع موقفه فوق أي تكريم، ويعلن أن قيمة الكاتب ليست في الجوائز التي يحصل عليها، بل في المبدأ الذي يدافع عنه، تلك اللحظة جعلتني أعيد النظر في معنى الكتابة ودور الكاتب في الحياة العامة.

Wikimedia Commons
الكاتب المصري صنع الله إبراهيم في جامعة ستانفورد

وأضاف الشايجي لـ"المجلة": "بعد ذلك بدأت أقرأ أعماله بشكل مختلف. كنت أقرأ نصوصه بعين الروائي الذي يتعلم من أسلوبه، وبعين الإنسان الذي يستلهم من مواقفه. لم نتواصل أو نلتق إلا مرة واحدة بعد تلك الحادثة، ولم نجلس معا، لكن صورته في ذاك الموقف بقيت حاضرة في ذاكرتي، تؤثر في خياراتي الأدبية والإنسانية على حد سواء. واليوم، برحيله، أشعر أنني فقدت أحد الأصوات النادرة التي كانت تذكرنا دائما بأن الكاتب الحقيقي ليس تابعا لجوائز أو أضواء، بل هو شخص يدافع عن قناعاته مهما كان الثمن".

إنعام كجه جي: احترمت فيه حرصه على حقوقه وزهده

الروائية والكاتبة العراقية إنعام كجه جي، قالت: "أذكر أنني حين قرأت مجموعته القصصية "تلك الرائحة" أحسست بأنني أكتشف عالما مختلفا عن مطالعاتي السابقة. بعد ذلك حرصت على متابعة كل رواياته. هل يجوز أن أقول إن منها ما لم يكن له الوقع ذاته في نفسي؟ وبجانب كونه مبدعا فإنني احترمت فيه حرصه على حقوقه وزهده في ما عدا ذلك، كما أن عزلته تلهمني".

أمير تاج السر: معلم لأجيال من الروائيين

الروائي السوداني أمير تاج السر قال لـ"المجلة": "فقدنا أستاذا ومبدعا كبيرا هو الأستاذ صنع الله إبراهيم، مؤثر جدا، ومعلم لأجيال عديدة في الكتابة، وأهمية صنع الله إبراهيم تكمن في أنه كاتب لرواية خاصة وأبدع في أدب السجون في المقام الأول، كما أبدع ثانيا في الرواية الوثائقية، أما الشيء الثالث فأنه كان مرحبا بكل أجيال الكتابة وأعرف منذ سنوات حيث كنت أدرس في جامعة طنطا بمصر، وبعدها صرت ألتقيه من حين لآخر، ودائما ما كنت أجده محاطا بالناس ومهتما بكل التفاصيل".

ياسين عدنان: شخصية فلسفية

أما الشاعر والروائي والإعلامي المغربي ياسين عدنان فقال: "هذه خسارة فادحة. رحم الله صاحب "اللجنة" و"نجمة أغسطس" و"بيروت بيروت" و"شرف" و"ذات" و"أمريكانلي".

وأضاف عدنان: "يوم استضفته في برنامجي "بيت ياسين"، تحفظ مسبقا عن مشهد الغداء والسفرة. فقررنا أن نسجل الحلقة من دون مشهد السفرة الشهير. وما إن أنهينا التصوير، وكان سعيدا به، حتى سألني بتلقائية: "ما الحكمة من هذا المشهد الذين كنتم مصرين عليه؟"، فأجبته: "هو نوع من التبسط مع المشاهدين ليتأكدوا من أن الأدباء كائنات مثلهم تأكل الطعام وتمشي في الأسواق. ولأنه لا أسواق لدينا في هذا البيت/ الأستوديو، فكل ما نستطيعه هو هذه السفرة لإنزال الأدباء من"البرج" المتوهم. فقبل فورا تسجيل مشهد السفرة، بل وتحمس له. لكن المشكلة هي أننا كنا أنهينا التصوير. ولم نكن رتبنا أنفسنا لذلك، أي لا طعام لدينا أصلا. لهذا أذكر أننا أعدْنا تهيئة الأستوديو للتصوير، وقررنا إحضار أي شيء صالح للأكل من أقرب مطعم للاستوديو لتأمين هذا المشهد الذي كشف في النهاية جزءا أساسيا من شخصية صنع الله وفلسفته في العيش والحياة".

font change

مقالات ذات صلة