شهلا العجيلي تكشف أسرار "غرفة حنا دياب"

حلب مستعادة بصوت شهرزاد

شهلا العجيلي تكشف أسرار "غرفة حنا دياب"

تشتبك الكاتبة السورية شهلا العجيلي في روايتها "غرفة حنا دياب" (ثقافة للنشر والتوزيع، ضفاف) مباشرة مع أجواء "ألف ليلة وليلة"، باستحضار أحد مؤلفيها المجهولين الذي أهدى الى الليالي أكثر من حكاية ملهمة، في محاولة لرد الاعتبار إلى هذا الحكواتي الحلبي الذي طمس اسمه طويلا من السجلات، قبل اكتشاف مساهمته في ترميم الحكايات الناقصة من هذه المدونة التخيلية العظيمة.

مثل رمية نرد

سوف يرن اسم حنا دياب فوق حجارة الأزقة القديمة مثل رمية نرد، فهذا المترجم الحلبي الذي رافق المستشرق الفرنسي بول لوكا، أوائل القرن الثامن عشر، كان على وشك أن يصبح راهبا في أحد الأديرة في جبل لبنان، لكنه لم يتردد في قبول عرض الرحالة الفرنسي بأن يكون مترجما له، إذ كان يجيد الفرنسية إلى حد ما، ويقرأ العربية. وكان بول لوكا موفدا من لويس الرابع عشر "سلطان فرنسا" بقصد جمع المخطوطات والأعشاب الطبية واللقى والعملات القديمة والأختام والمسكوكات الأثرية من الشرق، فوجد في هذا الشاب الحلبي مراده في إنجاح أسباب رحلته. في مذكراته، يصف حنا دياب وقائع رحلته الغرائبية بين البلدان العربية مرورا بإسطنبول، ثم مرسيليا، وصولا إلى "بهريس" (باريس) ومقابلته الملك لويس الرابع عشر. المخطوطة التي سجل فيها محطات رحلته، وصلت إلى مكتبة الفاتيكان كهدية من القس الحلبي بولس سباط، في الربع الأول من القرن العشرين.

لا تتوقف المفارقة عند هذا الحد، ففي باريس سيلتقي حنا دياب بالمستشرق أنطوان غالان (1646- 1715)، وهو أول من ترجم كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية، تحت عنوان "الليالي العربية". كانت النسخة التي غنمها أنطوان غالان غير مكتملة، فلجأ إلى الرحالة الحلبي لترميمها بقصص شعبية من الشرق، وإذا به يهدي اليه حكايتين باتتا من أشهر حكايات الليالي هما "علاء الدين والسراج السحري"، و"علي بابا واللصوص الأربعون الذين أهلكتهم جارية"، بالإضافة إلى ترميم حكايات أخرى بما ينقصها من مغامرات. لكن غالان الذي كان يعمل قيما على المكتبة الملكية، سيعمل لاحقا على إبعاد حنا دياب عن باريس بمكيدة، خشية أن يفقد وظيفته لمصلحة الأخير، إذ أغراه بوظيفة وهمية مشابهة لوظيفة معلمه الأول.

اهتم مترجمو "الليالي العربية" بوضع حساء استشراقي يعزز الجرعة الإيروتيكية لهذه الوليمة الشرقية الباذخة، بالإضافة إلى العبث بأصول الحكايات

اللافت هنا أن أسلوبية حنا دياب في تدوين رحلته تقارب أسلوبية "ألف ليلة وليلة" في بناء الحكايات المتوالدة، والانتقال برشاقة من حكاية مركزية إلى حكاية جانبية، قبل أن يستدرك بقوله "فلنرجع إلى ما كنا بصدده"، وهو بذلك يعيد السرد إلى مجراه الأساي، إلى أن تصادفه حكاية مجاورة، فيغرق في تفاصيلها.

GettyImages
المستشرق الفرنسي أنطوان غالان، نحو 1675

لعل هذا ما فعلته شهلا العجيلي في هندسة روايتها أيضا من طريق الحفر الكرونولوجي لطبقات المدينة، بفارق أنها اشتغلت على تأنيث الحكاية والمدينة فوق قماشة واحدة. ذلك أن كتاب "ألف ليلة وليلة" بنسخته الأجنبية، خضع لأكثر من عملية تشويه، إذ اهتم مترجمو "الليالي العربية" بوضع حساء استشراقي يعزز الجرعة الإيروتيكية لهذه الوليمة الشرقية الباذخة، بالإضافة إلى العبث بأصول الحكايات، كما فعل أنطون غالان في النسخة الفرنسية، وريتشارد بورتون في النسخة الإنكليزية، وذلك بإضفاء مسحة عنصرية ونكهة استشراقية ذكورية تحط من قدر المرأة. في هذا السياق أطاحت ياسمين سيل في ترجمتها المتأخرة لـ"الليالي" إلى لغة شكسبير بما شوهه بورتون وإزاحته عن المنصة بترجمة أنثوية تنهي استعمار "الليالي العربية" وتعيد الاعتبار إلى جهد حنا دياب، ليس بوصفه مخبرا محليا، إنما حكواتيا شفويا سينشغل بجماليات المكتوب.

shutterstock
منظر لقلعة حلب القديمة في سوريا

نسوية العمارة

لم تغب هذه الإحالات التي تتكئ على معطيات الدراسات الثقافية، عن الحفريات التي رسمتها شهلا العجيلي لمدينة حلب، ذلك أن أقدم مدينة مأهولة في العالم لا تتوقف عن تصدير الحكايات والأساطير والخوارق وقصص الغرام من منظور أنثوي هذه المرة، وهو ما تشير إليه الراوية كندة الأشقر في بحثها عن "نسوية العمارة" في لحظة مفصلية حولت المدينة إلى حطام باشتعال الحرب بين قوات الجيش والفصائل المسلحة، مما يعيد إلى ذهنها وقائع حادثة قتل أبيها الذي درس "مورفولوجيا الحكاية الشعبية في موسكو" برصاص مجهول، وذلك أثناء اشتباك بين قوات الأمن، وكتائب متمردة مطلع ثمانينات القرن المنصرم، فها هي تقف وراء المنصة ذاتها التي شهدت محاضرات والدها، قبل خمسة عشر عاما، كمن يعيد ترتيب الأحداث بمنطوق جمالي آخر.

هكذا تتكشف مشهديات المدينة بخريطة دقيقة وعينين مفتوحتين باتساع تتعقبان أسماء الشوارع والحارات والأزقة الضيقة

صدمة الخراب ستنعكس على حياة الراوية التي ستنفصل عن زوجها بعد اتهامه بخيانتها، إذ تقرر العودة وحيدة إلى بيت أهلها، بعد زواج أمها وسفرها إلى دبي. وكما تباغتنا شهرزاد بضربة شاقولية تقلب الحكاية رأسا على عقب، يبزغ اسم غسان القزاز فجأة، أمام باب مؤسسة الأغا خان. ففي ذلك الصباح الخريفي البعيد، عصفت بهما رياح العشق إلى مناطق حسية غير متوقعة. مهندس ديكور ومرمم آثار درس العمارة في باريس، وباحثة في نظرية الأدب أتت لمقابلة مدير المؤسسة للعمل كمستشارة بتاريخ المدينة القديمة. هكذا تتكشف مشهديات المدينة بخريطة دقيقة وعينين مفتوحتين باتساع تتعقبان أسماء الشوارع والحارات والأزقة الضيقة، فيما تهب روائح التوابل، واللحوم، والكعك، والبضائع المتنوعة في كرنفال من الألوان. ما بين حي السبيل وحي العقبة ومقاهي القلعة، ومكتب غسان، ستتأجج المشاعر بجرعات زائدة، ثم تنطفئ فجأة بعد اكتشاف كندة زواج غسان من امرأة فرنسية في حقبة سابقة من حياته، ورغم محاولاته اقناعها بحبه لها إلا أنها لم تستجب لضراعاته المتكررة.

shutterstock
سوق المدينة في حلب، سوريا

في فضاء العزلة، ستلجأ كندة إلى أوراقها وأبحاثها كمن يرسم "ماكيت" أخرى لمدينة حلب على وقع صوت المتنبي "حلب قصدنا وأنت السبيل"، خصوصا بعد أن تعثر بالمصادفة في قبو المنزل على تسجيلات صوتية باللغة الروسية كان احتفظ بها الأب قبل مقتله، تتعلق بالحكاية الشعبية، وجهود حنا دياب في هذا المجال. ستقتفي أثر هذا الحكواتي الحلبي برفقة فاطمة وقرينها من الجن، في جولة إلى خان العلبية حيث كان يقطن قبل مائة وخمسين سنة، كما ستغرق في المراجع والمصنفات وأرشيف المكتبة الوطنية لإنجاز أطروحتها الجامعية عن هذه الشخصية المهمشة في ظل إمبراطورية تقسم رعاياها إلى هويات معقدة. في مثل هذه المتاهة من خرائط المكان، ستضيق فتحة العدسة لتضع هذه الشخصية في بؤرة البحث، كما ستتناسل عنها شخصيات وردت في حكاياته.

تراهن صاحبة "سجاد عجمي" على بسالة الحكاية كسلاح مقاومة في مواجهة الانهيارات وفواتير الخسائر وتمزق الهويات ومعنى الفقدان

هكذا نتعرف الى عالِم الأنساب زكريا القزاز الذي يمتلك أرشيفا من الصور توثق لتاريخ حلب وبشرها وعمارتها بما فيها عائلة حنا دياب المارونية. وستنقذها تسجيلات الأب باستعادة حكايات ثلاث نساء كن يقطن بجوار غرفة حنا دياب، هن فتوح العارفين، وميسر، وهيلين، مما يضعنا في قلب عواصف القرن الثامن عشر، وزمن القناصل والتجار وظلم الولاة من جهة، والغراميات المجهضة لنساء تمردن على الأعراف المحلية، من جهة ثانية.

shutterstock
آثار رومانية في عفرين قرب حلب، سوريا

عسف التاريخ

ولعل سيرة ميسر التي أتت حلب مع قافلة للغجر هاربة من بخارى بعد مقتل عائلتها كسليلة لقبيلة تيمورلنك، تشكل نموذجا جوهريا للحكاية الشفوية في ذروتها السردية، خصوصا إثر غرامها بالدكتور الإنكليزي باتريك المقيم في البيمارستان كتعويض عن بؤس حياتها السابقة، وإذا بالحكاية وتدوينها هو العلاج وليس العقاقير الطبية، إذ اكتشفت ميسر أثناء دخولها غرفة الطبيب في غيابه دفتر يومياته، فسحرها خطه ونوع الحبر الذي كان يستعمله (لا تخلو معظم حكايات ألف ليلة وليلة من غرفة مغلقة تحمل سرا ما، ينصح بعدم دخولها)، وسيتطور الأمر بينهما إلى مشاركته لعبة الشطرنج، ثم العناية بمعالجته إثر اصابته برصاصة خلال رحلة صيد، ثم أصابتها حمى الحب بمقتل، في حكايات متوالدة تتأرجح بين زمنين، على غرار تقنية "الليالي" وسحرها، فما خسرته في بخارى وجدته في حلب "مدينة عظيمة قد خصت بأسرار إلهية لا تنكشف لكل البشر" تقول. ليست ميسر إذن، عاشقة وممرضة وطاهية ولائم فقط، إنما طباخة حكايا تتسرب من شقوق سيرتها الملتبسة، وكأن احتفاظها بنسخة من كتاب ابن سينا "رسالة في ماهية العشق" مرآة لمصيرها اللاحق.

من هذا الباب على وجه التحديد، تراهن صاحبة "سجاد عجمي" على بسالة الحكاية كسلاح مقاومة في مواجهة الانهيارات وفواتير الخسائر وتمزق الهويات ومعنى الفقدان، بالإضافة إلى عسف التاريخ في طمس الحقائق. على المقلب الآخر، تعتني صاحبة "سماء قريبة من بيتنا" باللهجة العامية الحلبية، وقوة الأمثال كجزء صميمي في بناء الحكاية الشعبية، وتغرق في الوصف الذي يفيض على حاجة المتلقي في بعض مفاصل النص، مما يلجم تدفق الحدث واغواءات السرد، من دون أن نهمل مهارتها في تطريز الحكايات بخيوط الحرير التي نسجت تاريخ مدينة حلب بنول تطريبي يضم الإيقاع الجمعي للمدينة قبل خرابها الأخير، والتشوهات والحرائق التي أصابت عمارتها وروحها خلال سنوات الحرب بما فيها بيت حنا دياب الذي انتهى إلى موقع إلكتروني يديره غسان القزاز بدعم من منظمة دولية.  

font change