الأسرى والمفقودون... أثقل ملفات الحرب اليمنية وأكثرها تعقيدا

فشل الجميع في إتمام صفقة تاريخية للإفراج عن الكل مقابل الكل

shutterstock
shutterstock
المدينة القديمة في صنعاء، اليمن

الأسرى والمفقودون... أثقل ملفات الحرب اليمنية وأكثرها تعقيدا

أشكال الحرمان من الحياة السياسية والطبيعية العامة في اليمن متعددة، وتتنوع مشاهدها على نحو مأساوي، وذلك جراء الحرب التي تطحن رحاها البلاد منذ نحو عشرة أعوام، دون أدنى بارقة أمل على انفراجة قريبة. هكذا على الأقل تبدو الصورة اليوم دون إجحاف بحق كل الجهود والمبادرات التي توسط فيها أشقاء وأصدقاء لليمن لإنهاء حربه وعودة السلام والاستقرار إليه.

فواتير الحرب بين الحلفاء والخصوم في الداخل اليمني تتجاوز القتلى هنا وهناك، إلى الجرحى والمصابين، الذين بات الكثير منهم معاقا حركيا أو معنويا، ويهيم على وجهه في الداخل والخارج بحثا عن فرصة للعلاج والتعافي.

لكن هذا ليس الفصل (الكارثي) الوحيد في قصة الحرب اليمنية، إذ إن هناك حكاية الأسرى والمختطفين والمفقودين والمخفيين قسريا الذين اختفى أثر الكثير منهم، ولم يبق في ذاكرة عائلاتهم سوى تاريخ غيابهم وانقطاع الاتصال بهم، وطالما مثلت هذه القضية أثقل ملفات الحرب وأكثرها تعقيدا، حيث فشل الجميع في إتمام صفقة تاريخية للإفراج عن الكل مقابل الكل، فالحديث هنا ليس عن مئات بل آلاف المخفيين الذين لا يُعرف مصيرهم، إما بالقتل المسجل ضد مجهول، أو بالإخفاء القسري لسبب معلوم، أو الاختطاف من شارع أو طريق عام بواسطة ملثمين، وبطرق لم يعتد عليها اليمنيون، وهذا ما يؤرق ويقض مضاجع آلاف العائلات بمئات الآلاف من الأسئلة.

كل أطراف الصراع، خصوصا جماعة الحوثيين، يحتفظون بالعشرات إن لم يكن بالمئات من المعتقلين في ظروف غير مناسبة، إنسانيا أو قانونيا

 مضايقات وملاحقات

آخر ما جرى كان قيام جماعة الحوثيين باعتقال غازي أحمد علي الأحول، الأمين العام لحزب "المؤتمر الشعبي العام" (جناح الداخل) واثني عشر من رفاقه ومطاردة آخرين من قيادات الحزب بتهمة التخطيط للاحتفال بذكرى تأسيس "المؤتمر"، ثم اعتقال النائب البعثي رامي عبدالوهاب محمود ومرافقيه، وبلغ الأمر إلى حد مطالبة بعض المحسوبين على الجماعة بحل جميع الأحزاب السياسية التي لم يعد لأغلبها وجود على الساحة أصلا.

 معتقلون مدنيون

بعد احتدام الصراع مع إسرائيل والغرب، اعتقلت جماعة الحوثيين في الأشهر والسنوات الماضية العشرات من الموظفين المحليين وغيرهم لدى الوكالات الإغاثية الأممية والمنظمات الدولية الإنسانية والمحلية في صنعاء ومدن أخرى، كان من بينهم نساء وزوجات برفقة أطفالهن كما يفيد حقوقيون، وكانت عناوين لوائح ملفات الاتهام الموجه لهم هي تورط هؤلاء بالتعاون مع أجهزة استخبارات أجنبية معادية، ولكن من دون تقديم براهين أو أدلة قاطعة أو إطلاع محامين ومحاكم تعمل بمعايير العدالة الدولية عليها. ومنذ نحو عامين يقبع حوالي 35 موظفا وعاملا إنسانيا في صنعاء وحجة والحديدة وعمران وصعدة، في معتقلات الحوثيين، ومن بينهم ما يقرب من 15 شخصا من العاملين في مكاتب الأمم المتحدة والمعهد الوطني الديمقراطي الأميركي ومنظمات دولية أخرى.

رويترز
ضابط خفر سواحل يمني يصافح عناصر من حركة الحوثيين أثناء الانسحاب من ميناء الصليف بمحافظة الحديدة، اليمن، 11 مايو 2019

نداءات مؤلمة

نتلقى رسائل، ونقرأ ونشاهد على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أسئلة ومناشدات من منكوبين تقول، أين أبي؟ متى سوف نرى أختي؟ ولماذا غاب أخي كل هذه السنوات؟ حالات كثيرة تتحدث عن كثير من أولئك الذين نالوا أحسن تربية على أيادي أنبل الأمهات والآباء، وأفضل تعليم في أكثر المدارس اهتماما بجودة التعليم، وحصلوا على وظائف مرموقة ومرتبات لائقة في كثير من السفارات العربية والأجنبية والمنظمات الدولية والإنسانية، وخدموا بلادهم في أحلك ظروفها، وهذا فقط كان كل ذنبهم.

فقدان المعيل وتوقف الرواتب

في كل الأحوال، فإن الكثير من العائلات، على جانبي الصراع لم تفقد فقط أولياء أمورها وأرباب أسرها وبعض ذويها، ولكن أيضا مصادر عيشها وأرزاقها باعتقال هؤلاء وتوقف صرف مستحقاتهم من كل الجهات، ما دفع تلك العائلات إلى بيع مدخراتها وحتى منازلها، واللجوء إلى الاستدانة وحتى التسول.

ما الصورة الكاملة؟

في حدود ما بات معلوما في الداخل وأصبح مفهوما في الخارج، فإن كل أطراف الصراع، خصوصا جماعة الحوثيين، يحتفظون بالعشرات إن لم يكن بالمئات من المعتقلين في ظروف غير مناسبة، إنسانيا أو قانونيا، وطال احتجاز بعضهم لسنوات بلا محاكمات إذا كان هناك ما يقتضي ذلك، ولم يتم إطلاق سراحهم رغم كل الوساطات، وأصبح التحفظ عليهم، ظلما بيناً، واعتداء على أبسط حقوقهم.

يتحدث بعض الحقوقيين الموثوقين عن امتلاء السجون الواقعة في مناطق سيطرة الحوثيين بالمئات من السجناء الذين تخشى الجماعة منهم

الاختطاف بغرض المقايضة

تتحدث مصادر الحكومة اليمنية عن أن الحوثيين يقومون باحتجاز العشرات وربما المئات من المواطنين المدنيين العاديين الذين لا علاقة لهم بالصراع الدائر في البلاد، حيث يتم اختطاف هؤلاء إما من الطرق أو الشوارع أو حتى من بيوتهم وأمام مرأى ومسمع عائلاتهم وأطفالهم.

‏لا اتصالات ولا توكيل محامين

في العادة لا يسمح الحوثيون للمنظمات الحقوقية، سواء المحلية أو الإقليمية والدولية بزيارة المعتقلات والسجون ومراكز الاحتجاز للاطلاع على أحوال نزلائها، كما ترفض الجماعة غالبا توكيل محامين للدفاع عن هؤلاء السجناء المختطفين أو المحتجزين، ولا تأذن الجماعة لعائلات هؤلاء بزيارة ذويهم، أو حتى إجراء اتصالات هاتفية معهم.

.أ.ف.ب
طفل يمني نازح يحمل دلو ضمن المساعدات الإنسانية المقدمة من الأمم المتحدة، في مدينة تعز اليمنية 11 سبتمبر 2023

ذكر أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن جماعة الحوثيين سمحت، في حالة نادرة، لسيدة معتقلة تدعى سارة الفائق، وكانت مديرة تنفيذية للائتلاف المدني للسلام (منظمة غير حكومية) بزيارة قصيرة إلى منزلها في صنعاء برفقة شرطة نسائية وعدد من أفراد الأمن ‏و"قضت سارة ساعة ونصف الساعة مع أطفالها وزوجها في جلسة غلب عليها البكاء والنحيب أكثر من فرح اللقاء، قبل أن تتم إعادتها إلى المعتقل".

هذا، فيما تقول الحكومة الشرعية إن "جميع المعتقلين والمحتجزين لديها هم إما أسرى تم القبض عليهم في المعارك والجبهات أو أشخاص لديهم قضايا جنائية غير سياسية". ويعتقد حقوقيون يمنيون كثر أن هدف الحوثيين من اختطاف أكبر عدد من الأشخاص واحتجازهم هو بغرض مقايضتهم بأسراهم لدى الجانب الحكومي.

‏زحمة السجون

يتحدث بعض الحقوقيين الموثوقين عن امتلاء السجون الواقعة في مناطق سيطرة الحوثيين بالمئات من السجناء الذين تخشى الجماعة منهم، ومن بينهم نازحون صوماليون وإثيوبيون وإريتريون كانوا يعبرون الأراضي اليمنية في طريقهم إلى السعودية وبعض دول الخليج العربية، مما اضطر الجماعة إلى تجنيد بعض هؤلاء في صفوفها، أو البحث عن مقار وأماكن أخرى لاحتجازهم، ومن ضمن تلك الأماكن، كما يفيد البعض، بيوت مصادرة ومبان مدنية أو تابعة لسفارات أجنبية لدى اليمن، وأحيانا يتم احتجاز بعض الأشخاص والتحقيق معهم في بيوتهم وإجبارهم على توفير الطعام والماء والقات وحتى المبيت للمشرفين على التحقيق معهم، وذلك في منازلهم الضيقة والمتواضعة، بحسب إفادة بعض المصادر التي تحدثت عن تعرضها لبعض هذه المضايقات.

منذ عام 1990، بعد قيام الوحدة اليمنية المشروطة بالتعدد الحزبي والتنوع السياسي، برز هامش محدود من الصحافة الحرة التي حاولت البحث في أضابير التجاوزات

العمل المجتمعي

كانت مطالبات عائلات شخصيات معتقلة لسنوات وإفادات معتقلين ومعتقلات تعرضوا وتعرضن للاختطاف والإخفاء والتعذيب صادمة بما يكفي لإيقاظ الضمير الإنساني، لكن شيئا من ذلك لم يحدث كما ينبغي، لكن مبادرات أهلية خيرية نجحت في تحقيق بعض ما فشلت فيه مؤسسات دولية، حيث أفلحت وساطات قبلية في الإفراج عن عشرات المعتقلين والمعتقلات، ومن اللافت أن أفلحت في ذلك بعض الناشطات من النساء، فمن بين مائة امرأة مؤثرة في العمل المجتمعي حول العالم اختارت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" ضمن قائمتها السنوية قبل عامين المحامية والناشطة الحقوقية المدنية معين العبيدي، لدورها كوسيطة بين أطراف النزاع في مدينة تعز التي تعاني من الحرب والحصار، وفي ضوء نجاحها في توثيق الانتهاكات لحقوق الإنسان، واستثمار علاقاتها مع طرفي الصراع في تأمين الإفراج عن عدد من المعتقلين والأسرى لدى الجانبين.

دور الإعلام والصحافة

منذ عام 1990، بعد قيام الوحدة اليمنية المشروطة بالتعدد الحزبي والتنوع السياسي، برز هامش محدود من الصحافة الحرة التي حاولت البحث في أضابير التجاوزات التي دفع ثمنها ساسة وكتاب وحتى أناس عاديون لا علاقة لهم بالسياسة من قريب أو بعيد لمجرد إبداء آرائهم بهذا القدر أو من دونه. وفي المقابل ظهر صحافيون شجعان ومجموعات صلبة أنجزت الكثير من النجاحات في مواجهة مختلف أنواع العنف والفساد السياسي، وعلى رأس هذه القضايا التعدي على الحقوق المدنية والسياسية وحريات الرأي والتعبير، إذ تفردت صحيفة "النداء" بإثارة أكثر الأسئلة ومحاولة وضع أكبر الملفات خطورة وتعقيدا على الطاولة وفتحها للنقاش العام، وفي المقدمة منها قضايا الأسرى والمعتقلين والمخفيين قسريا.

تعرضت هذه الصحيفة وغيرها من الجماعات الحقوقية لتهديدات بالتصفية والإخفاء، أي بملاقاة نفس مصير الضحايا الذين تحاول الكشف عن غموض اختفائهم، لكن الواقع أن صمود "النداء" وغيرها من المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان خط عنوانا أخلاقيا عريضا أخذ يكتسب كل يوم أصواتا مؤيدة جديدة من الشباب والشابات في كل مجال من مجالات الإبداع الفني الإنساني، شعرا ونثرا ورسما وغناء وموسيقى وسياسة وسعة بحث واطلاع، ما يبرهن على تنامي واتساع الوعي لدى الجميع بأن الكارثة التي يعانيها اليمن لن تُحل سوى بأيدي أبنائها وليس بانتظار معجزة!

وثمة تساؤلات: لمصلحة من لم يجر إطفاء نار هذا الحريق الذي يلتهم كل أخضر ويابس في بلد لم يؤذ أحدا من جواره، باستثناء ما جرى خلال السنوات الأخيرة على يد وكلاء للخارج في كل المنطقة وليس اليمن فقط؟

font change