القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا... هل تنتقل إلى المغرب؟

استراتيجية واشنطن في القارة السوداء لم تتبلور نهائيا بعد

إدواردو رامون
إدواردو رامون

القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا... هل تنتقل إلى المغرب؟

نشرت وسائل إعلام مختلفة، من بينها وكالة الأنباء الأفريقية (APA News)، في الآونة الأخيرة تقارير عن احتمال نقل المقر الرئيس للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (AFRICOM) من مدينة شتوتغارت الألمانية إلى القنيطرة في المغرب.

لكن هذه الأنباء تتعارض مباشرة مع ما أوردته شبكة "NBC" الأميركية في 18 مارس/آذار حول احتمال اندماج "أفريكوم" مع القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا (EUCOM)في هيكل واحد يتخذ من شتوتغارت مقرا له. وأشار قائد "أفريكوم" الجنرال مايكل لانغلي آنذاك إلى أن النقاشات تتناول عدة خيارات، بينها وضع "أفريكوم" تحت مظلة "يوكوم" لتقليص البيروقراطية وتحسين الإدارة.

هذه التطورات ليست جديدة على السياسة الدفاعية الأميركية. ففي الولاية الأولى للرئيس ترمب عام 2020، تم دمج جيش الولايات المتحدة في أوروبا (USREUR) مع جيش الولايات المتحدة في أفريقيا (USARAF)في كيان واحد هو "جيش الولايات المتحدة في أوروبا وأفريقيا" (USAREUR-AF).

ورغم أن السياسة الأميركية في القارة تبدو أحيانا متقلبة ومتناقضة، فإنها في جوهرها ليست سوى جزء من عملية معقدة لإعادة صياغة استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا. عملية متماسكة في بنيتها، وإن اتسمت ببعض التقلبات.

تُعد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا ((USAFRICOM أوAFRICOM) ) قيادة قتالية موحّدة يغطي نطاق مسؤوليتها القارة الأفريقية بأكملها باستثناء مصر. وهي تمثل قمة الهرم في هيكل القوات المسلحة الأميركية، وقد أُعلن تأسيسها رسميا عام 2007، غير أنها لم تصبح كيانا عمليا ومستقلا إلا في عام 2008، إثر انفصالها عن القيادة الأوروبية (EUCOM) وقيادة المحيط الهادئ (USINDOPACOM).

وقد كان الدافع الأساسي وراء إنشائها سياسيا، إذ هدفت واشنطن إلى تعزيز نفوذها عبر بناء شراكات مع الدول الأفريقية وتقديم دعم مؤسسي لها. لذلك ركّزت "أفريكوم" على مشروعات مشتركة ومساعدات عسكرية لجيوش القارة، تمثلت في برامج التعليم والمساعدات الطبية ومكافحة الأوبئة وتطوير البنية التحتية والاستجابة للكوارث والخدمات اللوجستية الإنسانية.

انطلقت ملامح السياسة الأميركية الجديدة تجاه أفريقيا بتوقيع اتفاق سلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا في واشنطن، تلاه لقاء مصغّر لقادة دول الساحل الأطلسي

هذا التركيز على "القوة الناعمة" والدبلوماسية الإنسانية جعل "أفريكوم" أشبه بقيادة عسكرية بلا أدوات، إذ يشبَّه قائدها بوزير بلا حقيبة. فهي تظل القيادة القتالية الوحيدة التي لا تملك قوات عملياتية خاصة بها. أما إنجازاتها العسكرية المباشرة فكانت محدودة وربما سلبية، كما أظهر كمين تونغو تونغو في النيجر عام 2017 الذي قُتل فيه أربعة من جنود القوات الخاصة الأميركية.

ومع التحولات البرغماتية في السياسة الخارجية الأميركية التي أطاحت بالكثير من برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بدا أن "أفريكوم" في صيغتها "الإنسانية" لن تبقى بمنأى عن التغيير. فالقارة الأفريقية لم تعد تكتفي ببيانات سياسية عامة، بل باتت تطالب بضمانات أمنية ملموسة، بينما فرض الوضع الميداني في مناطق عدة استجابات عسكرية عاجلة.

وجاءت عملية سحب القوات الأميركية من النيجر وتشاد لتشكل صدمة سياسية واستراتيجية، مؤكدة أن المقاربة الأميركية أصبحت متقادمة وغير ملائمة للبنية الأمنية في القارة، وعاجزة عن التصدي للتوسع العسكري الروسي أو لمشاريع الصين المتنامية في البنية التحتية.

أ ف ب
المفتش العام للقوات المسلحة الملكية المغربية وقائد القيادة الأميركية في أفريقيا (AFRICOM) الجنرال مايكل لانغلي (CR) المناورات العسكرية المغربية الأميركية "الأسد الإفريقي 2024

انطلقت ملامح السياسة الأميركية الجديدة تجاه أفريقيا بتوقيع اتفاق سلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا في واشنطن، تلاه لقاء مصغّر لقادة دول الساحل الأطلسي. واستندت هذه الاستراتيجية الناشئة إلى شعارات لافتة: "التجارة بدلا من المساعدات"، "الاستثمار مقابل الولاء"، و"الموارد مقابل الأمن". وكان لا بد أن تواكبها ذراع عسكرية تتجسد في "أفريكوم" بعد إعادة هيكلتها.

في 15 أغسطس/آب 2025، شهدت ثكنات كيلي في شتوتغارت حفل تسليم قيادة "أفريكوم" من الجنرال مايكل لانغلي (قوات المارينز)، الذي تولى المنصب منذ 2022 وكان أول أميركي من أصل أفريقي يقوده، إلى الجنرال داغفين آر إم أندرسون (القوات الجوية). ترأس الحفل الأدميرال كريستوفر غرادي، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة.

في العاصمة الرباط، يؤدي المقر الأميركي–المغربي المشترك دورا محوريا في تنسيق التعاون الثنائي، عبر التفاعل الاستراتيجي والتكتيكي، والتدريبات المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية

لم يكن رحيل لانغلي نتيجة إخفاق، بل كان جزءا من التناوب الطبيعي في القيادة العليا. لكن تعيين أندرسون، بخبرته الواسعة في الاستطلاع الجوي والعمليات الخاصة والمهام الجوية المتكاملة، عكس تحولا استراتيجيا لافتا: من مقاربة تقوم على الشراكة والدبلوماسية إلى أخرى تشغيلية، استخباراتية، أكثر مرونة، وموجهة بالتكنولوجيا. وهو ما يشير إلى انتقال واشنطن من مقاربة "القوة الناعمة" إلى استعداد لاحتمال المواجهة المباشرة.

ويعني هذا التحول ضمنا ضرورة إعادة تموضع القيادة. فوجود قوات رد سريع متنقلة قادرة على التدخل في بؤر التوتر لحماية البنية التحتية الحيوية والموارد الاستراتيجية، إلى جانب الاعتماد على الاستطلاع الجوي والطائرات المسيّرة والبيانات الفضائية لمراقبة الجماعات المسلحة، وتنفيذ ضربات دقيقة لحماية الحلفاء والمصالح، كلها عوامل تجعل تمركز القيادة في أفريقيا خيارا شبه حتمي.

وتبرز المغرب هنا بوصفها الشريك الأوثق لواشنطن في القارة، بعلاقات ممتدة منذ مؤتمر الدار البيضاء عام 1943. فإلى جانب موقعها الجغرافي القريب من أوروبا وليبيا ومنطقة الساحل، تتميز المغرب بالاستقرار والبنية التحتية الحديثة، من موانئ ومطارات، فضلا عن مكانتها كمركز استثماري يستقطب مشاريع ذات أهمية إقليمية وقارية.

ويأتي في مقدمة هذه المشاريع "مبادرة الأطلسي"، الرامية إلى ربط دول الساحل غير المطلة على البحر بالمحيط الأطلسي عبر ممر تجاري ولوجستي حديث، إلى جانب مشروع أنبوب الغاز النيجيري–المغربي (NMGP) الذي تبلغ قيمته 25 مليار دولار، لنقل الغاز من نيجيريا عبر المغرب إلى أوروبا. كما يشكّل خط أنابيب الغاز المغاربي–الأوروبي (MEG) عاملا إضافيا في الأهمية الاستراتيجية للمغرب.

أما التعاون العسكري، فيبقى على القدر نفسه من الأهمية. فمنذ 25 عاما تُجرى مناورات "الأسد الأفريقي"– أكبر التدريبات العسكرية في القارة– على الأراضي المغربية. كما كانت المغرب مقر أول قاعدة أميركية كبرى في أفريقيا: قاعدة "بورت ليوتي" الجوية البحرية، التي سلّمتها واشنطن للقوات الجوية الملكية عام 1977 لتصبح "قاعدة القنيطرة الجوية". وهي اليوم الموقع الأكثر ترجيحا لانتقال "أفريكوم".

وفي العاصمة الرباط، يؤدي المقر الأميركي–المغربي المشترك دورا محوريا في تنسيق التعاون الثنائي، عبر التفاعل الاستراتيجي والتكتيكي، والتدريبات المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. ومن المقرر افتتاح "مركز التميز المشترك لحفظ السلام" عام 2025. كما يسهم التعاون الوثيق بين المغرب وحلف "الناتو" في تسريع الشراكات الأفريقية–الأطلسية وتعزيز الوعي الاستراتيجي.

يهدف الإطار الجديد لـ"أفريكوم" إلى إطلاق حزمة مبادرات تعزز الفعالية العملياتية وتحد من المخاطر

ومع ذلك، تبقى مسألة الانتقال الكلي إلى المغرب سابقة لأوانها. فالعوائق اللوجستية والمالية والسياسية تجعل من غير المرجح أن يتحقق ذلك قريبا، رغم قدرة المغرب على توفير منصة صلبة لتوسيع أنشطة القيادة. ويبقى التحدي الأساسي أن الاستراتيجية الأميركية في أفريقيا لم تتبلور نهائيا بعد، من حيث الأولويات أو النطاق أو الجغرافيا المستهدفة.

في هذا السياق، تبدو استراتيجية "التكثيف التدريجي" في المغرب هي الخيار الأكثر واقعية، فهي نموذج يجمع بين مركز استراتيجي في أوروبا وركيزة متقدمة في المغرب، يحقق مرونة عملياتية أكبر ويخفف الكلفة والمخاطر السياسية. كما يضمن الحفاظ على الروابط الأطلسية والتكامل مع حلف "الناتو"، بالتوازي مع توسيع مراكز التدريب وعناصر القيادة داخل المغرب.

أ ف ب
تحلق مروحية هجومية من طراز أباتشي AH-64 تابعة للجيش الأميركي فوق أفراد من القوات المسلحة الملكية المغربية خلال المناورات العسكرية السنوية الثانية "الأسد الأفريقي" في منطقة طانطان في جنوب غرب المغرب في 30 يونيو 2022

وإلى جانب ذلك، توفر هذه المقاربة توازنا بين التوجه الأميركي المتزايد نحو أفريقيا وتحسين الكفاءة العملياتية في القارة، مع مراعاة حساسيات إقليمية أبرزها موقف الجزائر واعتراض بعض دول الاتحاد الأفريقي.

ويهدف الإطار الجديد لـ"أفريكوم" إلى إطلاق حزمة مبادرات تعزز الفعالية العملياتية وتحد من المخاطر. ويقوم ذلك على ثلاثة محاور رئيسة:

1- خفض المخاطر السياسية عبر شفافية التفويضات، ووضع معايير واضحة لنشر القوات، وتوسيع البعد المدني والإنساني.

2- تعزيز البنية التحتية من خلال مقرات للانتشار السريع، ومجموعات عملياتية، ومرافق تدريب دائمة، إضافة إلى تطوير الاتصالات والأمن السيبراني والإخلاء الطبي والخدمات اللوجستية البحرية.

3- تحقيق التوافق العملياتي من خلال تطوير معايير مشتركة، وتسهيل تبادل البيانات، والتخطيط المشترك مع الشركاء الأفارقة والأوروبيين.

ومن الناحية العملية، يتطلب إنجاز هذه الخطوات فترة تمتد بين ثلاث إلى خمس سنوات. وخلال هذه المرحلة الانتقالية ستتضح معالم السياسة الأميركية الجديدة في القارة. أما انتقال مقر "أفريكوم" إلى المغرب فسيكون المؤشر الأبرز على ترسّخ هذه السياسة.

font change