3 كتب حديثة تتأمل في معنى الكتابة واللغة والأمكنة والحياة

إعادة الاعتبار إلى فن المقالة

3 كتب حديثة تتأمل في معنى الكتابة واللغة والأمكنة والحياة

كيف يقرأ الكاتب العالم ويتعامل معه؟ لعل هذا هو السؤال الذي يتبادر الى القراء حينما يطالعون عددا من الكتب يظهر فيها ولع مختلف واهتمام خاص بتأمل العالم والتوقف عند تفاصيله التي ربما تمر علينا بشكل عابر.

بين هذه الأعمال، ثلاثة إصدارات يختلف أصحابها في بيئاتهم وثقافتهم، وربما مرجعياتهم الفكرية ومنطلقات الكتابة عند كل منهم، ولكن تجمع بينهم سمة التأمل والتفكر، والسباحة بين المعاني والأفكار بطريقة جذابة وذكية، تأسر القراء وتجذب انتباههم إلى هذا النوع من الكتابة الذي يندر وجوده في العربية، لا سيما بين كتاب لهم باع طويل في الكتابة الأدبية.

الملاحظ بين هذه الكتب الثلاثة، على اختلافها، أنها تجتمع تقريبا على البدء باللغة والاهتمام بها، بل وتأمل معاني المفردات، فاللغة ومعانيها موضوع أساس عند عارف حجاوي في كتابه "حبر عتيق"، والدوران حول المعاني واختيار ألفاظ ذات معان مجازية دالة، وسيلة عزت القمحاوي في كتابه "الأيك في المباهج والأحزان"، حيث يبدو الاهتمام بالبناء اللغوي والتراثي واضحا في عنوانه، وحتى عند رائد العيد في "مدائح تائهة" يبدو التركيز في الفصول والعناوين على المعاني اللغوية التي تحضر لدى القارئ بمجرد سماع الكلمة، بدءا بالمديح والبدايات مرورا بالحديث عن "اللامكان" و"اللعب"، وصولا إلى الـنظر من الأعلى والهوامش.

في مقدمة كتابه "الأيك في المباهج والأحزان"، يشير القمحاوي بوضوح إلى رغبته في الكتابة خارج أطر الفنون الأدبية التقليدية من قصة ورواية، فيقول: "لم أكن مدفوعا سوى برغبة غامضة في رصف الكلمات التي من شأنها أن تجلب لي المتعة، ولنفسها عطف القارئ وهذا أقل ما تستطيعه اللغة، وقد كان القليل منها في بعض لفائف البردي يرافق الميت من أسلافي إلى قبره، فيضمن له الحياة وعطف الآلهة".

"مدائح تائهة" لرائد العيد

رغم أنه يبدأ بالمديح، إلا أنه ينطلق منه إلى تأملات مختلفة تماما شديدة الثراء والجاذبية، يرى الكاتب السعودي رائد العيد في كتابه "مدائح تائهة" (صادر اخيرا عن دار دون) أن المديح ابن التأمل والتأمل، نبش في عمق لا يرى، وعلى هذا الأساس يبدأ كتابه وتأملاته، فيشير إلى أن المدح سمة الإنسان التي لا يشاركه فيها غيره، والحاجة إلى المديح والإعجاب حاجة بشرية بذلا واستقبالا بغير غرور ولا اعتلاء. ثم ينتقل من المعاني اللغوية للمدح إلى الحالة المعروفة اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي بالإعجاب و"اللايك" وكيف أصبحت مؤثرة على الناس إلى الدرجة التي يعرف بها بعضهم وفقا لعدد المتابعين أو المعجبين بهم، وهو في ذلك كله يرصد تلك الحالة ويبين أثرها ويقف أمامها للرصد والتحليل بشكل واقعي.

هكذا يتنقل العيد بين معان مجردة ليمنحها من خلال تأملاته أبعادا ثرية مختلفة، فيتوقف عند "اللامكان" ويرسم فيه فلسفة خاصة بالمكان الذي لا يمكن وصفه ولكن يشعر المرء بالتماهي معه

تسعة فصول/ مقالات يضمها الكتاب، يحمل كل منها عنوانا ولا يبدو ثمة ترابط بين الفصول إلا تلك التأملات ومحاولات البحث عن الأصول والآثر لكل موضوع يتناوله. فهو يتوقف أولا عند البدايات، ورغم أن الكلمة تحيل إلى بداية مواضيع أو أفكار، إلا أنه ينتقل بالقارئ إلى بداية وجوده شخصيا، كيف يتعرف الى العالم طفلا، وكيف يمكن أن تكون تلك البداية التي لا يلقي لها بالا مؤثرة في ما بعد في تكوينه. وإذا كانت بداية حياة المرء يصعب عليه إدراكها، فإن بداية كتاب أو أي مشروع يقوم به تكون ذات خصوصية، ولكنه يشير هنا إلى أهمية إهمال البدايات أو المقدمات بشكل أساس، إذ أن الكتاب لديه يقدم نفسه بنفسه، بل إنه يرى أن الكتابة الحديثة "مدينة للنسيان، مكتئة على البدء من جديد من دون قوالب جاهزة أو أطر محددة، أن تكتب نصا حديثا هو أن تبدأ من حيث أنت وتتهي حيث تريد، لا بداية مشروطة ولا نهاية مقيدة".

"مدائح تائهة" لرائد العيد

تتداعى الأفكار عند رائد العيد، فينما يتحدث عن المقدمات يقوده الحديث عن الماضي وأثره علينا، ويتحدث عن بدايات بعض الكتاب والمفكرين مثل عبدالله العروي الذي بدأ كتابته بمسرحية ثم انشغل بمشروعه الفكري والمعرفي الكبير، كما يشير إلى ضرورة أن يتجاوز كل كاتب أو مبدع ما يسميه "فوبيا البداية" لكي ينطلق إلى آفاق رحبة متخلصا من آثار الماضي وقيوده.

يتحدث عن "الإطار" في فصل آخر، فيذكر كيف يكون التركيز عليه بمثابة خلق جديد للصورة أو المشهد، وكيف يتحول الأمر من تقنية معروفة في الرسم والتصوير إلى أداة مستخدمة في الكتابة، فالإطار هنا هو وجهة نظر الكاتب، وهو بذلك يشبه لحظة البداية أو المفتتح، كما ينتقل إلى فكرة "القصة الإطارية" التي وجدت في بعض نصوص وحكايات التراث مثل "ألف ليلة وليلة"، وكيف كان دورها مهما في فهم القصة الأساس، كذلك ينتقل من تلك الفكرة إلى "الأطر" التي يحددها القراء والنقاد لبعض الأعمال الفنية والأدبية فيجعلون العمل الأدبي مقيدا وفقا لنظرتهم الخاصة تلك.

يتأمل الكثيرون "السقف"، لكن رائد العيد ينتقل من تأمل السقف إلى علاقة الإنسان بالمكان، وكيف تكون بعض التفاصيل البسيطة سببا لشعور المرء بالراحة أو شعوره بالتقييد والاختناق، كما يتوقف عند تناول الأدباء فكرة السقف، مثل "مدينة الحوائط النهائية" لطارق إمام حيث جعل المدينة بلا سقوف حتى يفتح لها باب الخيال والأحلام والتحرر من القيود. كما يتناول اهتمام الفنانين بالسقف في العمارة الحديثة، وكيف تحولت بعض السقوف إلى لوحات فنية نادرة، وينتهي الأمر بتأملاته إلى التشبيه بين بياض سقف الغرفة وبياض ورقة الكتاب أحيانا، وكيف تكون تلك المساحة البيضاء الفارغة أحيانا فرصة لكتابة آخرى مختلفة، أو ترك الفراغات في بعض القصائد بمثابة تعبير مختلف عن موقف داخل النص.

يتنقل العيد بين معان مجردة ليمنحها من خلال تأملاته أبعادا ثرية مختلفة، فيتوقف عند "اللامكان" ويرسم فيه فلسفة خاصة بالمكان الذي لا يمكن وصفه ولكن يشعر المرء بالتماهي معه، كما يتوقف عند "اللعب" ويرسم له أبعادا مختلفة أكثر ثراء وأهمية مما قد يتعارف الناس عليه، وتأتي نهاية الكتاب في حديثه عن "الهامش" والعلاقة المضطربة بينه دوما وبين المتن سواء في ميدان الكتابة أو ميادين الحياة.

"الأيك في المباهج والأحزان" لعزت القمحاوي

في كتابه "الأيك في المباهج والأحزان" (صدر في طبعة جديدة عن "المصرية اللبنانية" 2022) يركز الكاتب المصري عزت القمحاوي على تأمل الحواس، من اللمس إلى الشم والسماع والتذوق، بدءا بالأصابع التي يعتبرها أول بديل لثدي الأم، متوقفا عند أثرها وأهميتها في جسم الإنسان مذ بدأ يعزف بها الموسيقى حتى استخدمها في الدمار والحروب، مرورا بدلالات بعض الأصابع التي يمكن أن تشعل الحروب والمعارك داخل الحارات. ينتقل الى الحديث عن "الصوت" وأثره على الأسماع، ويفصل الحديث عن "أصوات الرغبة" بشكل خاص، وكيف تغيرت وظيفة الصوت بمرور الزمن فأصبح أسبق وأقرب من الرؤية بالعين وكيف استغلت بعض الشركات العالمية ذلك للاستفادة منه ماديا.

ينتقل القمحاوي بسلاسة بين المواضيع التي تبدو تاريخية إلى فكرته التي يريد أن يلفت نظر القارئ إليها من خلال موضوعاته

كما يتوقف القمحاوي عند الرائحة وأثرها في حياة الناس والكائنات الحية على السواء، وكيف تنشأ الحياة من خلال الإغواء بالعطور سواء كان ذلك عند النباتات أو الحيونات، وكيف انتقلت هذه الحالة الشديدة الحساسية إلى الإنسان، فأصبح للرائحة أثر وتأثير، سواء رائحة الأجساد أو الروائح التي تقرب الشهوة. الطريف أنه يستحضر في ذلك كله عددا من الحكايات والشواهد، سواء من التاريخ العربي أو الروايات العربية والغربية، فلا شك ستحضر على الفور رواية باتريك زوسكيند الأشهر، "العطر"، كما يشير إلى لقطات دالة من أفلام شهيرة مثل "عطر امرأة"، بالإضافة إلى الإشارة إلى روائح بعض الفواكه وعلاقتنا بها.

وإذا كانت الحواس حاضرة على هذا النحو عند القمحاوي، فهو يستحضر مكانة الجسد بشكل خاص وعلاقة الماء به في فصل بعنوان "سيرة الشهوة والورع" الذي يتحدث فيه عن علاقة الإنسان بالاستحمام والحمام وكيف يعد طريقا نحو الجنس بشكل عام. لعل الجميل في عرضه هذا أنه يأتي على ذكر سيرة الحمامات القديمة في المدن العربية القديمة مثل مصر والعراق وكل ما كان يحيط بها من طقوس وعادات وتقاليد، راح أثرها بتغير الزمان والأماكن وتحولها إلى أماكن شديدة الخصوصية في البيوت المغلقة بإحكام.

"الأيك في المباهج والأحزان" لعزت القمحاوي

ينتقل القمحاوي بسلاسة بين المواضيع التي تبدو تاريخية، إلى فكرته التي يريد أن يلفت نظر القارئ إليها من خلال موضوعاته، فيتحدث في بداية فصل "عمارة الريبة" عن المسيرة النسائية التي انطلقت في بداية الثورة الفرنسية وكيف كانت تطالب بعودة الملك للإقامة في باريس بين عموم الشعب، وكيف تشير هذه التفصيلة الصغيرة إلى فكرة عامة هي العلاقة بين الحكام وعمران المدن، وكيف تتناسب العلاقة بين الحاكم والمحكومين وبين رغبتهم في الانعزال في مدن وعمارات جديدة وبعيدة ومستقلة عن العامة. هذا كله يأتي من خلال نماذج عربية وغربية بين مذكرات سياسيين وعلماء اجتماع ومهندسين وغيرهم، فيشير بين هذا وذاك إلى جماليات العمران في المدن والفارق الكبير بينه وبين مدن المجتمعات الجديدة الخرسانية التي لا أثر فيها للحياة ولا الجمال.

على هذا النحو يمكن النظر إلى "الأيك" وموضوعاته باعتباره بحثا اجتماعيا يدرس علاقة المجتمعات المختلفة بالأشياء الحميمة المتعلقة بالأماكن، لا سيما حينما ينتقل الى الحديث في "بنيان الألفة" عن بناء البيوت والأفنية وكيف كان وكيف أصبح، أو حين يتحدث في فصل آخر عن "مطارح الغرام" وما جرى فيها من تحولات بين الواقعي القديم والإلكتروني الحديث الخالي من كل مقومات الجاذبية. إلا أن القمحاوي يبدو حريصا في كل ما يذكره وما يتطرق إليه من موضوعات، على الجانب الأدبي، إذ يورد القصص والحكايات بين كل فصل وفكرة، سواء كان ذلك من التراث العربي الزاخر أو من قراءاته في الكتب والروايات العربية والغربية، كل ذلك يكسب الكتاب طابعه الخاص والمميز، ويجعل من تلك الفصول تأملات أدبية شيقة، حتى لو حملت الطابع التاريخي والاجتماعي بل والنقد السياسي أحيانا في بعض تفاصيلها.  

"حبر عتيق" لعارف حجاوي

 ثلاثون عاما مرت على مقالات هذا الكتاب، حتى استعاد كاتبه الفلسطيني عارف حجاوي طباعته أخيرا (صدر عن "مدارات للنشر" 2018)  ولا يزال يزخر بعدد من المقالات المهمة التي تعكس رؤية باحث ودارس متخصص في اللغة والأدب.  يبدأ حجاوي كتابه بعدد من طرائف اللغة والأدب، متوقفا أمام تحولات معاني الكلمات في العربية (مثل سائس الخيل ورجال السياسة) أو النحت في كلمات مثل "الدمعزة والحوقلة"، ثم ينطلق بعد ذلك إلى موضوعات شيقة أخرى، فها هو يتوقف عند آداب المائدة والاهتمام بها لدى العرب، وكيف كانوا يخصصون لكل ضيف من ضيوفهم اسما، ويفرقون بين من ينتظر الطعام ومن يراقب طريقة إعداده، كما يشير إلى علاقة بعض الكتاب بالطعام، فيتحدث عن الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير وما كان يفعله أثناء كتابته روايته الشهيرة، "مدام بوفاري"، وكيف كان وصفه تناولها السم مؤثرا عليه شخصيا، وكيف يكون أثر قراءة الروايات المملوءة بالتعذيب والسجون كأنه تجرع وجبة من السم أثناء عملية القراءة بالنسبة إليه. ويشير في فصل آخر إلى الفرق بين "البقسماط" و"الكورن فليكس"، فالأول هو الخبز القاسي الذي يشبه البسكويت، وكان أهل الشرق يغمسونه في الحليب قبل أن يخترع الغرب "الكورن فليكس" الذي هو قشارة تصنع مع حبوب الحنطة مع الحليب والسكر، كما يتحدث في فصل آخر عن ضوروة إعمال الفكر عند الطعام باعتباره نشاطا اجتماعيا حضاريا، ويلفت إلى أن "الأدب" في الأساس إنما هو التزام آداب الطعام، ثم تحول المعنى إلى الكلام المنمق ذي المغزى.

لا يقتصر كتاب حجاوي على طرائف اللغة وتأملات الكتب والحياة، بل يأخذ القارئ بين الحين والآخر إلى حكاية من مأثور قصص العرب، أو حكايات شخصية مرت به

في حديثه عن تعدد اللهجات العربية يعتبر حجاوي اللهجة المصرية بمثابة الفصحى الثانية التي يجتمع على فهمها المشارقة والمغاربة بل ربما يعرفونها أكثر من العربية الفصحى نفسها، ويتحدث في أكثر من موضع عن علاقتنا بالتراث واللغة التراثية التي يكتب بها بعض المتحذلقين، وكيف يمكن أن يجمع الكاتب الماهر بين لغة القرن العشرين وتعابير الجاحظ والتوحيدي.

"حبر عتيق" لعارف حجاوي

يتحدث حجاوي عن معجم "أكسفورد" الإنكليزي التاريخي وكيف أنجز بعد سنوات من العمل الشاق، ويقارن بينه وبين جهود اللغوين العرب منذ  نحو 800 عام عندما كتب ابن منظور "لسان العرب" الذي اتبع معجم "أكسفورد" منهجا مماثلا له، وكان يستشهد في معاني الكلمات بعدد من الآيات والأحاديث والأشعار، وكذلك فعل من بعده الزبيدي والجوهري وغيرهما.

لا يقتصر كتاب حجاوي على طرائف اللغة وتأملات الكتب والحياة، بل يأخذ القارئ بين الحين والآخر إلى حكاية من مأثور قصص العرب، أو حكايات شخصية مرت به، على نحو يجعل الكتاب جولات حرة ومتنوعة يضرب فيها في كل موضوع كما يشاء، وهو في كل ذلك يخاطب القارئ بين الحين والآخر بعبارات مثل تأمل أيها القارئ الكريم، أو لعلك تعرف كذا، أو قل ولا تقل، وغيرها من عبارات تغلب عليها الطرافة. كما يترك في آخر كل فصل من فصول كتابه عددا من الأقوال "غير" المأثورة التقطها من بطون الكتب تارة أو جاءت من تأليفه تارة أخرى. ولعل الطريف في مقالات حجاوي أنه ينتقل فيها بكل سلاسة بين الآداب المختلفة الغربية والعربية، وبين المعاصر والتراثي ويجعلها في مقال/ فصل واحد.

font change