رحيل جبير المليحان رائد القصة القصيرة في السعودية

أسس أضخم موقع للقصة في العالم العربي

جبير المليحان

رحيل جبير المليحان رائد القصة القصيرة في السعودية

رحل عن عالمنا أمس الثلاثاء واحد من الأسماء البارزة في المشهد الأدبي والثقافي السعودي والعربي، القاص والروائي جبير المليحان عن عمر يناهز الـ 75 عاما قضى أكثرها في تأسيس ونشر ثقافة الكتابة القصصية سعوديا وعربيا، وذلك بفعالية وانفتاح تجاوزا الحدود الجغرافية، وكان من أوائل من استفاد من عالم الإنترنت والمنتديات الأدبية، فأنشأ "منتدى وشبكة القصة العربية" منذ نحو 25 عاما، التي ضمت كتابا من مختلف البلدان العربية، وكانت نافذة مهمة لتعريف الأدباء بعضهم ببعض في أنحاء العالم العربي من جهة، وتعريف الجيل الجديد من الشباب على العديد من الكتاب والتجارب الأدبية العربية المتنوعة من المحيط إلى الخليج حيث وصل عدد المشاركين في الموقع حتى عام 2018 إلى نحو 20 مليون قارئ .

في قرية "قصر العشروات" جنوب مدينة حائل بالمملكة العربية السعودية ولد ونشأ جبير المليحان عام 1950، وبدأ اهتمامه بكتابة القصة القصيرة منذ وقت مبكر، فأرسل وهو في العشرين من عمره عددا من القصص القصيرة الى الصحف والمجلات السعودية مثل مجلة "اليمامة" وجريدة "اليوم" حيث نشر له أول نص قصصي عام 1970، ومنذ ذلك الحين واصل الكتابة والاهتمام بفن القصة القصيرة بشكل خاص، وتميزت قصصه باستلهام روح البادية والجمع بين الواقعي والأسطوري والرمزي، كما اهتم في مجموعات أخرى بالتكثيف الشديد حتى أنه كان يسمي قصص بعض المجموعات "القصص الصغيرة" وهي أقصوصات لا تتجاوز الصفحة الواحدة في الغالب:

"مشكلة بسيطة: خلت المدينة من الماء: المدينة كلها بلا ماء، خرج الناس إلى الشوارع، عطشوا كلهم... جلسوا ينظرون إلى الغيوم المسرعة تمر من فوق مدينتهم. المدن الأخرى بعيدة، أهلها أحاطوها بالجند و الأسلاك. قال البعض... لو يحفرون الأرض... يا له من تعب... جلس الرجال في الشوارع يتصبـبون عرقا من حرارة الشمس... والأطفال يتصايحون... برك العرق تتجمع ... وتكبر. .. بحيرات ترفدها دموع النساء التي تسيل من تحت الأبواب... ماء كثير تجـمـع، والناس أخذوا يشربون!".

تميزت قصصه باستلهام روح البادية والجمع بين الواقعي والأسطوري والرمزي، كما اهتم في مجموعات أخرى بالتكثيف الشديد

"جوع: السيارة المعبأة بثمانية (أم، وأطفالها، وأب)  تمر بجانب البحر، ووجوه الثمانية تنعكس في الماء، السيارة مسرعة، والأسماك تنقض، وتأكل صور الوجوه الثمانية، وتترك اصطفاق عظامهم متبخرا، مع أحلامهم القادمة... كغيمة بيضاء، صغيرة، تمرق فوق البحر!".

"المساكن: عاد الرجل سعيدا بعد أن ضمن بناء مساكن أسرته كلها، بما فيها الرضيع غسان، والقادم الذي يتربى في جوف عروس ابنه. كان سخيا وهو يوسع المساحات طولا وعرضا. لفت انتباهه أن سكان حارتهم جادون في حفر مساكن عائلاتهم. فكر في اليتامى والأرامل الذين لا أحد يحفر لهم بيوتا. انطلق إلى سوق الأقمشة ليشتري أكفان أسرته، وكان حريصا أن تكون جديدة وكافية للم القطع والأشلاء" - من "قصص المليحان" (منشورة بموقع "ذاكرة القصة" المصرية ومجلة "اليمامة").

جبير المليحان

أصدر المليحان أولى مجموعاته القصصية للأطفال عام 2004 وكانت بعنوان "الهدية" عن "دار أرامكو السعودية"، ووزعت بالمجان على الأطفال (1500 نسخة) وتوالت بعد ذلك إصداراته الأدبية، مجموعة "الوجه الذي من ماء" عن "دار الانتشار" 2008، "قصص صغيرة" عن "نادي الجوف الأدبي" عام 2009، "جيم" عن "دار أثر" 2011ـ  كما صدر له عملان روائيان هما "أبناء الأدهم" عام 2016، وكانت آخر إصداراته رواية "أول القرى" عام 2023 عن "مركز الأدب العربي".

عمل جبير المليحان رئيسا للنادي الأدبي بالمنطقة الشرقية لمدة خمس سنوات، كما عمل في مجال التربية والتعليم: معلما ثم مدير مدرسة، ثم مشرفا تربويا، ثم مدير مركز إشراف تربوي، ثم رئيسا لقسم الدراسات والتجارب التربوية.

وفي المجال الصحافي عمل رئيسا لتحرير جريدة "اليوم" بالنيابة، كما عمل مديرا لتحرير جريدة "المدينة" في المنطقة الشرقية والخليج.

في 2015 بلغ عدد الأدباء والقصاص الذين انضموا للموقع نحو 2400 عضو، وتجاوز عدد القصص المنشورة في الموقع عشرين ألف قصة

أشرف المليحان من خلال موقع القصة العربية على إصدار عدد من التجارب القصصية المشتركة للمبدعين فأصدر "قصص من السعودية" وهو الكتاب الأول للمنتدى، في إشراف من وزارة الثقافة اليمنية عام 2004، وتلاه كتاب "قصص عربية" الذي ضم تجارب قصصية لنحو مائة قاص من أنحاء العالم العربي، صدر عن دار "سندباد" بالقاهرة عام 2011.

شبكة القصة العربية

كتب جبير المليحان ملخصا رسالته من إنشاء موقع "شبكة القصة العربية": "دائما يسكننا الحلم... مثل هدهد يقرب المسافات ويقدم البشرى، دائما كنا نحلم ببيت جغرافي كبير لأفئدتنا"، وعن تجربة هذه الشبكة يقول: "كان الهدف من إنشاء الموقع هو نشر النصوص القصصية الخاصة التي أكتبها. تشاورت مع أصدقاء من مبدعي القصة في المملكة، فكان الرأي أن يكون موقعا لنشر القصة العربية بشكل عام. وضعنا أعلام الدول العربية كلها في صفحة الموقع الأولى، بحيث ينشر أي كاتب نصوصه تحت علم بلاده. كانت شروط النشر بسيطة: اسم حقيقي للكاتب، لغة عربية سليمة. عدم التطرق للأديان والمعتقدات والبعد عن المذاهب والتحزبات. الهدف هو نشر القصة العربية القصيرة والتعريف بكتابها.

تكريم المليحان في الدمام

في 2015  بلغ عدد الأدباء والقصاص الذين انضموا للموقع نحو 2400 عضو، منهم 465 قاصا من السعودية، 413 قاصا من مصر، ثم كتاب من سوريا والمغرب وفلسطين والعراق، وهكذا حتى نصل إلى أقل مشاركة عربية وهي دولة موريتانيا بنحو 25 قاصا، وتجاوزت عدد القصص المنشورة في الموقع عشرين ألف قصة.  

المليحان في عيون النقد

كتب عن جبير المليحان وعن تجربته في القصة القصيرة والرواية العديد من النقاد داخل السعودية وخارجها، أشارت في معظمها إلى تفرد البناء القصصي عنده وتجاوزه للأشكال التقليدية في القصة العربية، واعتماده بشكل كبير على التجديد سواء في الشكل أو المضمون،  أفرد له الناقد السعودي علي الدميني دراسة خاصة في مجلة "علامات في النقد" عام 2013  بعنوان "تطور القصة وحداثتها في المملكة" جاء فيها: " تعبر مجموعات المليحان القصصية عن نسيج مترابط من السرد، رؤية وتشكيلا، حتى وإن تمايزت قضاياه وآفاق تعبيره، وأنها قد انحازت منذ البدء إلى سلك طريق حداثتها بتعمد القطيعة مع الشكل التقليدي ابتداء، ثم بتجاوز النموذج القصصي الأكمل الذي فرض حضوره طويلا عبر تجربة موباسان وغوغول في كثير من بلدان العالم، وفي العالم العربي، عبر أبرز كتابها أمثال محمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ وعشرات غيرهم، كما أنه يؤكد ذلك أيضا بالتركيز على فاعلية شعرية القصة، في جل أعماله".

وأنما يرى آن مهمة الإبداع تكمن في ابتعاده عن استلهام الحدث السياسي والتركيز على الإنصات إلى أعماق دلالاته وتجلياته التي يرصدها في الواقع اليومي

علي الدميني

يضيف الدميني: "تأثر المليحان في مرحلة البدايات من تجربة حداثة القصة التي أنتجها قصاصون عرب متأثرين بمدارس أدبية جديدة في العالم. وبالرغم من طغيان الشعور القومي والعروبي في تلك المرحلة على رؤية المبدعين في الشعر والقصة، إلا أن جبير احتفظ باشتعالاتها وقسوتها في وجدانه الثقافي، فيما نأى بمسيرته الإبداعية عن الانفعال المباشر بها أو استحضارها في نصه، وكأنما يرى آن مهمة الإبداع تكمن في ابتعاده عن استلهام الحدث السياسي والتركيز على الإنصات إلى أعماق دلالاته وتجلياته التي يرصدها في الواقع اليومي وعبر تصوير المشاعر المسحوقة للفرد والجماعة على السواء" .

غلاف "سيرة الصبي"

وعن مجموعاته "سيرة صبي" وجيم" كتب الناقد المغربي إبراهيم الكراوي يقول: "إن أبرز تجليات بلاغة القصة القصيرة عند المليحان هو بنية العنوان «ج. ي. م» باعتباره علامة تكشف انفتاح النص وتخييل لغة القصة. ومن ثم، فالتخييل الكابوسي والحلمي في هذه النصوص، يشتغل كآلية تعري تناقضات الواقع، فضلا عن المفارقة التي تسم فضاء اليومي، والثنائيات التي تجسد أبعاده ودينامية شخوصه. أما عنوان المجموعة الأخرى "سيرة الصبي. قصص وحكايات" فيخلق جدلا على صعيد تمثل الجنس الأدبي، مستشرفا أفقا يعيد من خلاله المؤلف قراءة تقاطعات تمثيل الجنس الأدبي".

وعن الرمزية في قصص المليحان كتب الناقد المصري محمد صالح البحر: "يهب الرمز قصص جبير المليحان قيمتين جماليتين تمثلان العمق الفكري والفني للقصص التي تبدو سهلة في قراءتها الأولى، وممتلئة بالسخرية، كما تمثلان أداته الحادة لفضح العالم، والإشارة إلى زيفه وجهله ومآسيه التي تكبل حياة الإنسان فيه، تتمثل القيمة الأولى في تجهيل الأماكن، والأسماء، وعدم تحيين الزمن والاكتفاء بالإشارة إليه، ليوسع من دلالة الرمز، ويكسب المضمون صفة الشمولية والعموم، كما يكسبه القدرة على إمكانية الحدوث في كل مكان وزمان، وأنه الإنسان في كل الأوقات والأماكن، بذات المآسي والقدرة على التكرار.

تتمثل القيمة الجمالية الثانية في قدرة الرمز ذاته على التعدد في الشكل داخل كل نص، وانتقاله المتدرج من الشكل الدال المباشر، إلى حدود العبث واللا معقول

محمد صالح البحر

وتتمثل القيمة الجمالية الثانية في قدرة الرمز ذاته على التعدد في الشكل داخل كل نص، وانتقاله المتدرج من الشكل الدال المباشر، إلى حدود العبث واللا معقول".

وعن روايته "أبناء الأدهم" كتب الروائي السعودي فهد العتيق: "يسعى الكاتب في هذه الرواية أن يشق في الصحراء عدة دروب وحكايات فرعية جديدة، في الطريق نحو زمان ومكان وتاريخ قديم يتجدد، نحو جبل أجا وسلمى التاريخي، فهذا النص الروائي بلغته السلسة المتدفقة يقود القارئ إلى أن يعايش تجربة حياة مختلفة وجديدة".

غلاف "أبناء الأدهم"

لم يتوقف جبير المليحان حتى آخر أيام مرضه قبيل وفاته عن متابعة النشاط الأدبي والقصصي العربي، فالمتابع لحسابه على منصة "إكس" يلاحظ متابعته ونشره لكل جديد في عالم القصة العربية، سواء مقالات نقدية أو متابعات صحافية أو جوائز أدبية على امتداد العالم العربي.

font change

مقالات ذات صلة