"غاية الأدب تقريب البشر بعضهم من بعض: أن يقرأ شخص ما، في بلد آخر، ما كتبته ويشعر في هذه المناسبة بقربه الشديد مني"، صرحت يوما الكاتبة الإيرانية نسيم مرعشي. تحديد صائب للأدب، لكن بشرط أن تكون ثمرته لذيذة بحيث يصعق طعمها متذوقها ويترك أثرا بليغا في نفسه. وهو تحديدا ما يحدث لمن يقرأ رواية مرعشي الثانية، "تشذيب" (2017)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثا في باريس عن دار "زولما"، تحت عنوان "أم النخيل".
قارئ هذه الرواية لن يُفتن فقط بقصتها المعتمة، وشخصياتها الآسرة، وصرحها المتين، بل أيضا بنثرها الشعري الذي يحفر عميقا داخله، ويشكل خير ركيزة لمعالجة موضوعها الرئيس، أي آثار الحرب الإيرانية – العراقية على سكان إقليم خوزستان العرب، في جنوب غرب إيران. موضوع راهن وجريء، في ضوء الاضطهاد الذي يخضع له أبناء هذا الإقليم على يد النظام الإيراني، تقاربه مرعشي من خلال القدر المأسوي لعائلة واحدة.
تبدأ الرواية بمشهد مؤثر، مشهد أب يدعى رسول ونعرف فورا أنه بات محدودبا وبلا أسنان، بعدما كان طويل القامة وقوي البنية قبل سنوات قليلة. أب يقود سيارته برفقة طفله مزيار، متوجها إلى قرية معزولة بين المستنقعات لاستعادة زوجته نوال التي غادرت المنزل قبل ست سنوات، وكانت المرة الأخيرة التي رآها فيها هو وأطفالهما الثلاثة.
ما الذي حدث كي تغادر نوال عائلتها بلا رجعة؟ سر هذا الهجران لا ينكشف كليا إلا في نهاية الرواية، لكنه يظلل كل صفحة من صفحاتها، لأن مرعشي، التي تؤجل قدر المستطاع لقاء هذين الزوجين من جديد، تعمد في هذه الأثناء إلى كشف قصتهما شيئا فشيئا، بلمسات صغيرة، من خلال ذكريات تفيض من ذاكرتيهما، أو من خلال لحظات من حياتهما تسردها بنفسها.
لعنات
هكذا نعرف من نوال أن "من غبار الطلع كانت تفوح رائحة الربيع في بستان خالها. رائحة الأرض. رائحة شط العرب. رائحة الشمس على سعف النخيل القديمة المقطوعة. رائحة التراب المبلل تحت الشمس. رائحة أشجار نخيل التمر الصغيرة المطابقة لتلك الكبيرة، لكن بحجم مصغر، والتي كانت نوال مولعة بها، تطلق عليها أسماء وتفضّلها على دُماها. رائحة أبناء خالها الذين كانت تقضي معهم أيام العطلات في الركض في بستان النخيل، وكانوا يقطفون في السر التمور غير الناضجة ويتقاسمونها معها. رائحة خالها ووالدها". لكن بعد الحرب، باتت تفوح من غبار الطلع "رائحة موتاها. رائحة الأرض المحروقة".