يصف علي باشا مبارك (1823-1893)، في الجزء السابع من "الخطط التوفيقية"، الذي خصصه لوصف الإسكندرية في زمنه، مقاهي الإسكندرية وبيوتها، التي رآها عندما زار المدينة، فيقول إن المقاهي البلدية تنتشر في شوارع المدينة وبأكثر حاراتها، وهي لا تزال على وضعها القديم من تصميم ومن مشروبات. لكن كان لافتا بالنسبة إليه أن هذه المقاهي كانت أشبه بنواد ثقافية واجتماعية، مقسمة أروقة للترفيه ولعب البلياردو، وتقديم قوائم طعام متنوعة لا تقتصر على القهوة وحدها، بل تشمل المثلجات والحلويات. كما تميزت بفخامة أثاثها ووجود الصحف الأوروبية والعربية، بل وشهد بعضها عروضا فنية وغنائية، فعلى حد تعبيره كانت هذه المقاهي "يلعب فيها التياترو".
لم يتوقف علي مبارك عند وصفه السريع والعام للمقاهي الأوروبية في الإسكندرية، بل إنه ذكر المشهور منها، وهي كثيرة ربما تتجاوز الستة عشر مقهى، ذكرها كلها بالاسم وحتى ذكر موقعها بدقة، منها "القهوة الفرنسية" بميدان محمد علي، و"قهوة ويجو" في حارة جامع العطارين، و"القهوة الفرنساوية" في حارة إبراهيم، و"القهوة الأمريكانية" في حارة جبارة، و"قهوة بيكانو" في حارة السوق الجديد.
نشرت الطبعة الأولى من هذا الجزء من الكتاب في عام 1889، في الوقت الذي عادت فيه الإسكندرية مدينة معمورة، بعد الدمار الذي خلفه قصف الأسطول الإنكليزي عام 1882، لتنهض من جديد مدينة آمنة ومزدهرة، عامرة بالأجناس والألوان والألسنة. ولعل المقاهي الأجنبية كانت خير شاهد على التنوع والتعايش، الذي تعود جذوره إلى مشروع محمد علي باشا في إعادة إحياء المدينة بعد أن فقدت بريقها لصالح القاهرة.
إذ جذبت جهود الإعمار التي قادها الباشا المصريين والأجانب على حد سواء، ليأتوا حاملين معهم أحلامهم وثقافاتهم المتنوعة وعاداتهم وطرزهم المعمارية. واستمرت المدينة في حالة من الزخم الفكري والثقافي حتى عام 1882، حينما قصف الأسطول الإنكليزي المدينة، لكن التعويضات السخية التي دفعتها الحكومة المصرية، والتي قدرت بنحو أربعة ملايين و250 ألف جنيه مصري، ساهمت في سرعة إعادة الإعمار، ومنحت الأجانب الأمان للاستمرار في الهجرة والتوافد إليها.