المخرج العراقي عباس فاضل لـ"المجلة": صناعة فيلم ليست عملا محايدا

فيلمه الوثائقي "حكايات الأرض الجريحة" حصد جائزة الإخراج في مهرجان لوكارنو السينمائي

ملصق فيلم "حكايات الأرض الجريحة"

المخرج العراقي عباس فاضل لـ"المجلة": صناعة فيلم ليست عملا محايدا

"تهمس الأرض الجريحة: أريد العشب أريد المطر/ أريد سماء بلا طائرات/ وصباحات بلا وداع/ ولا مزيد من الصلوات على حافة القبور"، بين الأيام القاسية التي عاشها اللبنانيون في القرى الأمامية جنوب البلاد أثناء الحرب الأخيرة، واللحظة التي عادوا فيها إلى قراهم (وكثر منهم لم يعودوا بعد) بعد إعلان وقف إطلاق النار، كتب المؤلف والمخرج العراقي الفرنسي المقيم وعائلته في لبنان عباس فاضل هذه الكلمات، التي بدأ وختم بها فيلمه الوثائقي الأحدث، "حكايات الأرض الجريحة"، الذي فاز بجائزة أفضل إخراج في الدورة الأخيرة من مهرجان لوكارنو السينمائي بسويسرا.

هذا الفوز له مكانة خاصة في قلب عباس فاضل، إذ كما قال في حديث لـ"المجلة"، فإن "مهرجان لوكارنو مكان استثنائي، لأنه يولي دائما اهتماما خاصا بالسينما المستقلة وبالأصوات الآتية من أماكن بعيدة. هو ليس مجرد منصة لعرض الأفلام، بل فضاء للقاء بين الثقافات".

وأضاف: "على مر السنين، لاحظت تطورا في اختياراته، خاصة الانفتاح المتزايد على سينمات الجنوب، وعلى الأفلام الوثائقية، وعلى الأعمال التي تطرح أسئلة حول عالمنا، مقارنة بمهرجانات أخرى، لا يكتفي لوكارنو ببريق العروض الأولى، بل يجرؤ على برمجة أعمال صعبة، عميقة، لا تجد مكانا لها بسهولة في غيره من المهرجانات".

يمكن اعتبار "حكايات الأرض الجريحة" عملا ذاتيا، أو منطلقا من تجربة فردية، على اعتبار أنه استكمال لسردية ذاتية يستكشف من خلالها فاضل الفضاء العام، كما في فيلمه السابق، "حكايات البيت الأرجواني"، الذي حصد جائزة لجنة التحكيم في مهرجان لوكارنو أيضا، ورصد فيه يومياته إبان جائحة كوفيد19.

توثيق

يبدأ "حكاية الأرض الجريحة" من اللحظة التي ينتهي إليها: لحظة رجوع أهل الجنوب إلى لبنان بعد الحرب، دفن الضحايا والصلاة عليهم، ثم استكمال الحياة. برزخية يمر من خلالها وقت مستقطع هو زمن العمل لتسجيل وقائع المأساة التي لا يبدو أنها بدأت تماما أو انتهت فعلا.

MAHMOUD ZAYYAT / AFP
أشخاص يتفقدون جرافات وآليات متضررة بعد غارات إسرائيلية على مجمّع صناعي في بلدة أنصارية جنوب لبنان، 4 سبتمبر 2025

نرى كاميرا من السماء تمر على مئات اللبنانيين الذين يشيعون ذويهم المتشحين بالسواد. يتساوى الميت والحي من كل الطوائف اللبنانية تحت أنظار الكاميرا البعيدة. ربما نتساءل عن جدوى كل ذلك، لعلها رسالة استفهامية للسماء أو منبعثة منها لتدين الغباء البشري المتسبب في كل ذلك القتل.

AFP
دخان يتصاعد بعد غارات إسرائيلية على بلدة الخيام قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، 19 نوفمبر 2024

في قلب الشريط السينمائي الممتد زهاء ساعتين نتعرف الى المآسي بمزيد من التفاصيل: خبر مقتل أقدم مصور في مدينة النبطية الجنوبية، ثم حرق المدينة كلها. الفيلم مساحة للحكي عن لحظة حرب متكررة في تاريخ لبنان. لا يهمه الوصول إلى خلاصات، ولا إدانة سياقات حدوث الحرب، لكنه بالضرورة يسجل قباحة القتل والتنكيل الذي تمارسه إسرائيل في لبنان، كما في غزة.

Paul Zimmerman / Getty Images via AFP
المخرج عباس فاضل في مهرجان نيويورك السينمائي بعرض فيلم "Homeland" – 5 أكتوبر 2015

وكما يتحرك فيلم عباس فاضل "وطن: العراق السنة الصفر" (2015) من خلال طفل يتساءل ويحكي، نتوقف في "حكاية الأرض الجريحة" مع طفلة، هي ابنة المخرج نفسه، تثير تساؤلات حول معنى هذا الدمار وحول مستقبل لبنان كله.

يتقاطع حديث المخرج مع تلك النقطة عندما يقول: "لا يكفي أن نكرر ما يعرفه الجميع: من هاجم، من صمت، ومن دعم. كل ذلك موثق ولا يزال يوثق. ما يجذبني هو الحياة بعد الحرب: الجروح والخراب، وقبل كل شيء كيف ينهض الناس ويعيدون البناء ويستمرون رغم كل شيء. لم أرد محو الحرب أو إنكار المسؤوليات، لكنني اخترت أن أتوقف عند ما تتركه الحرب في الأجساد والنفوس. وأعتقد أن هذا الخطاب يلمس المتفرج العربي، لأنه يرى في هذه الصور شيئا مألوفا، ألما يشاركه".

Odd ANDERSEN / AFP
المخرج والكاتب العراقي-الفرنسي عباس فاضل خلال حفل توزيع جائزة "كاميرا برليناله"، برلين، 22 فبراير 2024.

ذاتية

لا يمكن فصل هذه الأفلام عن مسيرة المخرج عباس فاضل نفسه. ولد في بابل بالعراق، ودرس السينما في فرنسا، ثم عاد إلى وطنه ليخرج فيلمه الوثائقي الأول، "العودة إلى بابل" (2002)، تلاه فيلم "نحن العراقيون" (2004). أخرج أول فيلم روائي طويل له، "فجر العالم" (2008)، قبل أن يعود إلى عالم الأفلام الوثائقية بفيلم "وطن: العراق السنة صفر" الذي يروي في خمس ساعات ونصف الساعة وقائع الحياة اليومية في العراق قبل الغزو الأميركي عام 2003 وبعده. المشترك دائما في أفلامه هو انطلاقها من سردية ذاتية، وعدم الانشغال بالخطابية العمومية: "الذاتي هو الحقيقة الوحيدة التي أملكها"، يقول، "إذا تكلمت عن الآخرين أخاطر بأن أقع في الخطاب أو التجريد. لكن حين أنطلق من عائلتي، من يومياتي، أكون أصدق. ولا أظن أن تجربتي الشخصية لها قيمة بحد ذاتها، لكنها قابلة للمشاركة.

في فيلمي الأخير مثلا، قد لا يتماهى لبناني آخر، من طبقة اجتماعية أو خلفية أخرى، مع التفاصيل التي يراها، لكنه يتعرف الى المشاعر، الى الجرح. ونعم، هذا يساعدني أيضا في تفادي الرقابة، فالحديث عن الذات وسيلة للالتفاف على الخطاب الرسمي، للقول من دون الحاجة إلى شعارات".

Dia Dipasupil / Getty Images via AFP
المخرج عباس فاضل (يسار) ونيكولاس رابولد في جلسة نقاش فيلم "Bitter Bread" ضمن مهرجان نيويورك السينمائي، 1 اكتوبر 2019

يقول فاضل إنه لا يظن أن فيلما أو كتابا في مقدوره إنقاذ أحد من المأساة "لكنه يستطيع أن يقدم مرآة، فسحة للتفكير، فرصة للتنفس. الجمهور لا يهرع دائما لمثل هذه الأعمال، لكنها تصل في النهاية. أحيانا يكفي عرض واحد في قرية صغيرة، أو كتاب يقرأه بضعة عشرات من الأشخاص، ليكون له أثر أعمق مما يعيشه آلاف المشاهدين أمام تسلية عابرة".

يبدو عباس فاضل مهموما بمحاولات خلق معنى عربي للسياسة، مدركا إيقاع تأثير الحياة العامة على كل ما هو شخصي، من خلال صور وتوليفات لا تبدو مألوفة في الوثائقيات العربية. ثمة هوس لديه بالبقاء على مسافة معينة من موضوعه، فالسردية الذاتية هنا لا تعني خطابا عاطفيا متكئا على الشعارات العامة، بقدر ما تضمر تساؤلا فلسفيا أصيلا يخص المنطقة العربية ومصائر أهلها، بوصفهم أفرادا لا جماعات فحسب.

مواجهة السرديات السائدة

تكمن أهمية مثل هذه الأعمال، لا سيما الوثائقية، بالنسبة إلى فاضل، في كونها "تتيح مواجهة السرديات السائدة، وتذكر أن هناك أصواتا أخرى". وإذ يعرب عن قناعته بأن الوثائقي العربي يعاني من نقص الدعم الإنتاجي والإعلامي، "ومع ذلك، هناك حيوية لافتة. كثير من الأفلام يصنع بإمكانات قليلة لكنها محملة الصدق. ما نفتقر اليه هو شبكة توزيع حقيقية: صالات، ومهرجانات محلية قادرة على إيصال هذه الأعمال إلى جمهورها الطبيعي".

Dia Dipasupil / Getty Images via AFP
المخرج عباس فاضل في عرض فيلم "Bitter Bread" ضمن مهرجان نيويورك السينمائي، 1 أكتوبر 2019

يعتقد عباس فاضل أنه يصعب فصل الفني عن السياسي والاجتماعي، لا سيما في وقتنا هذا، "صناعة فيلم ليست فعلا محايدا. السينما العربية اليوم تعيش لحظة متناقضة، فمن جهة هناك قمع ورقابة وقلة إمكانات، ومن جهة أخرى هناك حاجة ملحة للتصوير لم نعرفها هكذا من قبل".

font change