رحالة سعودي استكشف أميركا الجنوبية وأستراليا في سبعينات القرن الماضي

"رحلة المسافات الطويلة" لمحمد بن ناصر العبودي

Lina Jaradat
Lina Jaradat

رحالة سعودي استكشف أميركا الجنوبية وأستراليا في سبعينات القرن الماضي

تعد الرحلة محاولة روحية تتصل بالذات، فالخواطر والحالات الوجدانية والأفكار الخاصة لصاحب الرحلة هي التي تطبع عمل الرحالة، وتعبر عن وعيه الثقافي بالنسبة إلى الأماكن التي يزورها، وهذا ما تجسد في الرحلات التي قام بها الكاتب والرحالة السعودي محمد بن ناصر العبودي (1926-2022)، حيث دون مشاهداته من خلال معاينة أماكن رحلته، وتعرفه إلى البلدان والشعوب، التي مر بها، في مخطوطة مكتوبة بخط اليد نشرت بعد رحيله، في رحلته الاستثنائية إلى أميركا الجنوبية وأستراليا في سبعينات القرن الماضي. جاء هذا العمل تتويجا لمسيرة طويلة من الترحال شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، مرورا بقارات عدة، وفي الأخص تلك المناطق التي شهدت وجودا مؤثرا للعرب والمسلمين.

وقد حرصت دار "جداول" على نشر المخطوطة تحت عنوان "رحلة المسافات الطويلة... إلى أمريكا الجنوبية وأستراليا"، في كتاب يقع في 360 صفحة من القطع الكبير(2025)، ليكون إضافة نوعية لأدب الرحلة العربي.

اهتم العبودي بشكل لافت بأحوال المسلمين في البلدان التي زارها، فالتقى قادة مؤسساتهم، ورصد أوضاعهم الاجتماعية والدينية، إلى جانب وصفه الدقيق للمشاهدات اليومية، والملاحظات الإنسانية التي تهم القارئ المهتم بالثقافات الأخرى.

من الرياض إلى العالم والعودة في 37 يوما

انطلقت الرحلة من الرياض إلى باريس، ثم إلى ريو دي جانيرو فبرازيليا، وتوغلت في غرب البرازيل، ثم انتقل الرحالة إلى ساو باولو، إحدى كبرى مدن العالم، قبل أن يعود إلى العاصمة البرازيلية، ثم يتجه إلى ولاية بارانا وعدة مدن في ريو غراندي دو سول وسانتا كاترينا. ومن بورتو أليغري، أقصى جنوب البرازيل، اتجه العبودي إلى بوينس آيرس في الأرجنتين، ثم إلى كاراكاس عاصمة فنزويلا في رحلة جوية استمرت أكثر من عشر ساعات.

ومن هناك، انتقل إلى المكسيك، فوصف معابدها وآثارها كما فعل في كل مدينة زارها، فكان يتحدث عن الأعياد والمناسبات والطريق والناس، ومن ثم انتقل إلى ولاية لوس أنجليس الأميركية، ثم إلى سيدني في رحلته الجوية الأطول التي ناهزت أربع عشرة ساعة. وفي أستراليا، تجول بين مدن عدة، من سيدني إلى العاصمة كانبيرا، ثم عاد عبر سنغافورة وبانكوك إلى نقطة البداية في الرياض.

انطلقت الرحلة من الرياض إلى باريس، ثم إلى ريو دي جانيرو مرورا بالأرجنتين والمكسيك، وصولا إلى أستراليا

في رحلته هذه كان العبودي باحثا ميدانيا يجمع بين عين الجغرافي ووعي الأنثروبولوجي. فمن خلال توثيقه لأحوال العرب والمسلمين وتفاعله مع مؤسساتهم، قدم مادة إثنوغرافية غنية تسجل تفاصيل الحياة اليومية والطقوس والممارسات الاجتماعية، لكنه لم يقف عند حد الوصف، بل انتقل إلى مستوى التحليل الإثنولوجي حين قارن بين هذه المجتمعات ومجتمعات إسلامية عربية، وحاول فهم آليات تكيفها مع محيطها الثقافي، عندما ركز اهتمامه على كيفية بناء المساجد وتأسيس الجمعيات الإسلامية المحلية ودور المؤسسات الديبلوماسية في دعم هذه النشاطات. وفي هذا المعنى، قدم العبودي أدب الرحلة كجسر ثقافي بين "الإثنوغرافيا" من خلال التسجيل الدقيق للعادات والطقوس واللغة والعلاقات الاجتماعية. و"الإثنولوجيا" عبر مقارنة الثقافات واستخلاص الأنماط المشتركة والاختلافات الجوهرية.

وقد نجح العبودي في "رحلة المسافات الطويلة" في الجمع بين هذين البعدين، فوصف المدن والطقوس والدور الاجتماعي للمساجد والجمعيات (إثنوغرافيا)، وفي الوقت نفسه حلل طبيعة التواصل بين الأقليات المسلمة والمجتمعات المضيفة، وتأثير البيئة الجغرافية على الهوية الثقافية (إثنولوجيا).

أيمن ذو الغنى ويكيبيديا
الرحالة محمد بن ناصر العبودي

بين العبادة والذاكرة

استطاع العبودي أن يقدم لنا توثيقا دقيقا لثقافة سكان أميركا الجنوبية وعاداتهم وطبيعة بلادهم، حيث عاش بينهم فترة من الزمن، ومكنته معرفته بلغتهم من أن يوثق مختلف جوانب حياتهم.

 Ratib Al Safadi/Anadolu via Getty Images
عيد الفطر، مسجد أبي بكر الصديق، ساو باولو

فيصف في إحدى زياراته، ما شاهده في حي سان برناندو، حيث كانت أولى فقرات الجولة في ذلك اليوم، الذي خصصه لزيارة المؤسسات والجمعيات الإسلامية في مدينة ساو باولو، فكانت زيارة مسجد أبي بكر الصديق في حي سان برناندو الذي زاره في جولة سابقة له إلى المنطقة، حيث كانت أرض المسجد في ذلك الوقت زراعية ليس فيها عمارة. ويسمى المكان سان برناندو على اعتبار أنه كان قديما بلدة منفصلة عن مدينة ساو باولو، لكن العمارة بينهما اتصلت بعد ذلك.

يقول المؤلف: "تقع أرض المسجد في مكان مرتفع، مما سمح برؤية قبة المسجد وصومعتيه من مسافة بعيدة"، ويوضح أن "الصومعة هنا هي المنارة ولكنها المربعة غير المدورة، وهو شكل المآذن الذي تطور في الأندلس والمغرب العربي، حتى صاروا في المملكة المغربية وبعض بلدان أفريقيا الغربية يبنون هذه المآذن على هذا الشكل المربع ويسمونها صومعة. أما قبة المسجد فإنها ليست كبيرة ومميزة كجامع سانتو أمارو".

لم يقف العبودي عند حد الوصف، بل انتقل إلى مستوى التحليل الإثنولوجي حين قارن بين هذه المجتمعات ومجتمعات إسلامية عربية، وحاول فهم آليات تكيفها مع محيطها الثقافي


أما بالنسبة إلى البناء فهو "قوي ومن الإسمنت المسلح، أسفله قاعة واسعة فيها مقر جمعية أبي بكر الصديق، وهي مفروشة ومهيأة لذلك، ويصلون فيها حاليا، أما الطابق الثاني وهو المسجد الرئيس فإن العمل لا يزال جاريا فيه".

من صخور التاريخ إلى فضاء الاستكشاف

يواصل العبودي في رحلته استكشاف الأمكنة، محاولا توثيق العلاقة بين المكان والتاريخ، حيث يصل إلى المنطقة الأثرية، أو منطقة المعابد في المكسيك، وتسمى أيضا منطقة تمبولو، وكانت أولى مشاهداته مدرجات تلال جبلية متطاعنة سويت حتى صارت كالمعابد، وهي من "آثار قبيلة هندية مكسيكية من السكان الأصلاء الذين كانوا موجودين في المنطقة، قبل وصول المكتشفين الأوروبيين إليها، واسم القبيلة التي بنتها التيكا". ويشرح الكاتب أن غالبيتها "مدرجات عريضة منحوتة في تلال صخرية صغيرة تشرف على منبسط واسع من الأرض مخصص للاجتماعات والاحتفالات الدينية، بحيث يتسع لأكثر من مائة ألف شخص مع دوابهم كالخيل".

shutterstock
هرم القمر، تيوتيهواكان، المكسيك

وجاء في الكتاب "تحيط تلك المعابد بهذه المنطقة المتسعة إحاطة تامة، وقد أقاموها بدافع ديني أو سووها بزعمهم أن ذلك من أجل آلهتهم، وذكروا أنهم كانوا يعظمون الشمس والقمر أيضا إلى درجة العبادة، أو ما يقرب من ذلك. وإنها بنيت في حدود عام 560 قبل ميلاد المسيح".

 

رحلات العبودي بين التوثيق والتأمل

للعبودي كتب عدة في أدب الرحلات، من أبرزها: "في أفريقيا الخضراء" (1966)، و"رحلة إلى جزر مالديف: إحدى عجائب الدنيا" (1981)، و"داخل أسوار الصين" (1992).

يبرز الكتاب أن هذا الأدب ليس مجرد سرد مشاهدات عابرة، بل هو مزيج بين التاريخ والأنثروبولوجيا والأدب، حيث قدم العبودي أدب الرحلة بلغة سلسة وسرد شيق، يجمع بين دقة التوثيق وعمق التأمل، مقارنا بين البيئات الجغرافية المتنوعة والرؤى الإنسانية المختلفة. فجاء كتابه سجلا حيا للمشاعر والأفكار، ومرآة عاكسة لتفاعل الذات مع الآخر. وكان المؤلف حريصا على توثيق كل ما يراه ويسمعه، مزودا قراءه معلومات تاريخية واجتماعية قيمة، ومبرزا دور الجمعيات الإسلامية والسفارات في دعم المجتمعات المسلمة.

قدم العبودي أدب الرحلة بلغة سلسة وسرد شيق، يجمع بين دقة التوثيق وعمق التأمل، مقارنا بين البيئات الجغرافية المتنوعة والرؤى الإنسانية المختلفة


في تجواله في مدينة دورادس، يقصد محمد العبودي بيت رئيس الجمعية الإسلامية زكي أحمد جبارة فيجد عنده بعض من أعضاء الجمعية في حي كان في طرف المدينة فأصبح بالقرب من مركزها، واستراح في بيته بعد تناول شراب من عصير البرتقال الطازج، ولقيمات حارة مما صنعه أهل البيت، حيث سيذهب بعد ذلك إلى الصلاة أولا ثم يعود لتناول طعام الغداء.

يقول العبودي: "ذهبنا إلى جامع دورادس، وهو المسجد الوحيد في المدينة، فوجدنا الأخوة مجتمعين لأداء صلاة الجمعة، وكان الأخ الشيخ نور الدين السيد قد قدم لتوه معي، فخطب خطبة جيدة لم يطل فيها، تضمنت الحث على تقوى الله ومراقبته ومعرفة واجب المسلم في العمل بالإسلام".

 بهذا يكون أدب الرحلة عند محمد بن ناصر العبودي تجاوز كونه مجرد وصف للأماكن، إلى كونه توثيقا لتجربة إنسانية غنية، وسجلا لتطور الفكر وتحول الرؤية، وعاملا يدفع القارئ إلى إعادة النظر في ثوابته، ومحفزا له على عيش التجربة بشغف.

font change

مقالات ذات صلة