عواقب "الخريف السياسي" في فرنسا… بعد سقوط حكومة بايرو

تكشف الأزمة الحالية عن شرخ عميق بين السلطة التنفيذية والشارع

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متظاهر يحمل لافتة خلال تظاهرة مناهضة للحكومة في ساحة الاحتفالات، ضمن حركة "بلوكوون توت"، في باريس، في 10 سبتمبر 2025

عواقب "الخريف السياسي" في فرنسا… بعد سقوط حكومة بايرو

تجتاز فرنسا منعطفا دقيقا بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو، مما ينذر بحلول "الخريف السياسي" في الولاية الثانية للرئيس إيمانويل ماكرون قبل بدء فصل الخريف. ويمكن أن تطال العواقب ماكرون الذي استبعد حل الجمعية الوطنية كما فعل في 2024، واكتفى بتكليف وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو تأليف الحكومة الجديدة، عله ينجح في مهمة شائكة نظرا لميزان القوى السياسي داخل البرلمان.

تحتدم في موازاة الأزمة السياسية أزمة اقتصادية-اجتماعية تمخض عنها احتجاجات في العاشر من سبتمبر/أيلول ودعوات للإضرابات في الثامن عشر منه، مما يذكر بحركات "السترات الصفراء" التي دمغت بدايات العهد الماكروني.

تتلازم هذه التحديات الداخلية مع وضع إقليمي ودولي دقيق، نتيجة انخراط فرنسا في دعم أوكرانيا ودورها في مؤتمر "حل الدولتين" والتوتر مع إسرائيل. ولذلك تنصب الأنظار على قدرة هذا البلد المركزي في الاتحاد الأوروبي على التصدي لهذه التحديات والحفاظ على استقراره المؤسسي في الداخل وعلى دوره الحيوي في الخارج.

دوافع الاضطراب السياسي

لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، يتم إسقاط حكومة بتصويت على الثقة: 364 نائبا معارضا، و194 مؤيدا، في صفوف الجمعية الوطنية المزدحمة. هكذا رفضت أغلبية ساحقة من النواب تصويت الثقة الذي طلبه رئيس الوزراء. وكان هذا إذلالا إضافيا، بعد أشهر من النكسة تلو الأخرى في البرلمان.

إن فشل الحكومة في تمرير خطط إصلاحية واقعية، مقابل معارضة تقدم بدائل مثيرة للجدل، يجعل مستقبل فرنسا مفتوحا على سيناريوهات خطيرة، من سقوط حكومة بايرو في سابقة ذات عواقب على الاستقرار المؤسسي، إلى اهتزاز موقع ماكرون نفسه. وبين الضغوط الداخلية والتداعيات الأوروبية، قد تجد باريس نفسها أمام لحظة حاسمة تحدد ما إذا كانت ستظل ركيزة أساسية في الاتحاد الأوروبي أم ستتحول إلى نقطة ضعف تهدد استقراره.

يبدو أن فرنسا على موعد مع خريف ساخن ومسلسل طويل من الغضب العارم بسبب إجراءات الحكومة التقشفية ومخاطر الدخول في مرحلة من التوتر الاجتماعي والسياسي.

تكشف الأزمة الحالية عن شرخ عميق بين السلطة التنفيذية والشارع الفرنسي، ففي الوقت الذي يسعى فيه ماكرون لإدارة ما بعد بايرو، يجد نفسه أمام تحدي الشارع الغاضب

لفهم أسباب الأزمة ودوافعها لا بد من العودة إلى الوراء:

أولا، هناك أخطاء إيمانويل ماكرون: حل الجمعية الوطنية في يونيو/حزيران 2024، وقبل ذلك، كان هناك رفضه المشاركة في حملة الانتخابات التشريعية لعام 2022. وقد أدى هذا إلى زعزعة نظام الولاية الرئاسية من خمس سنوات، والذي كان الهدف منه ضمان وجود تطابق أو انسجام بين الأغلبية الرئاسية والأغلبية البرلمانية.

ثانيا: عدم تحمل السياسيين لمسؤولياتهم خاصة أولئك في المعارضة، الذين كأنهم لا يدركون خطورة الوضع الاقتصادي والمالي، أو أولئك في الوسط- الذين يتصرفون كهواة عاديين في خضم المأساة.

ثالثا: هناك الفرنسيون، الذين يدركون صعوبة الوضع لكنهم يرفضون تقبّل العواقب. كما لو كانت فرنسا جزيرة معزولة. وكأنها تستطيع أن تفلت إلى الأبد من القرارات غير السارة في بعض الأحيان، ولكنها مفيدة في كثير من الأحيان والتي تم تنفيذها في بلدان أخرى، مثل إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، والسويد. وهذا يعني أن غالبية الرأي العام تود الحفاظ على ما تسميه "المكاسب الاجتماعية" أيا كان الثمن. 

أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

والأرجح أن احتجاجات الشارع الفرنسي لن تتوقف عند تحركات العاشر من سبتمبر/أيلول الجاري، بل ستكون متبوعة بحراك اجتماعي واسع النطاق، مع إعلان النقابات العمالية الكبرى عن سلسلة إضرابات وطنية على غرار الإضراب الشامل المزمع تنظيمه يوم 18 سبتمبر والذي اختير له شعار "اليوم الكبير". وذلك احتجاجا على إلغاء عطلتين رسميتين وتجميد الإنفاق، باعتبارها إجراءات "قاسية وغير مسبوقة"، ولكونها أيضا تستهدف بشكل مباشر الطبقتين العاملة والمتوسطة.

وتكشف الأزمة الحالية عن شرخ عميق بين السلطة التنفيذية والشارع الفرنسي، ففي الوقت الذي يسعى فيه ماكرون لإدارة ما بعد بايرو، يجد نفسه أمام تحدي الشارع الغاضب، الذي يبدو أنه لن يتسامح أمام سياسة التقشف التي تمس جيوب المواطن الفرنسي.

في هذا السياق، كشف استطلاع رأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام الأربعاء الماضي أن حوالي 63 في المئة من الفرنسيين، يريدون حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، في وقت خطط فيه بايرو قبل سقوط حكومته لخفض الإنفاق بنحو 44 مليار يورو، وهي خطوة تسببت في غضب سياسي واجتماعي واسع.

وصل رفض الفرنسيين للمؤسسات والأحزاب والزعماء السياسيين إلى مستوى غير مسبوق، مع محاولة تسويق استبدال الديمقراطية التمثيلية بديمقراطية استطلاعات الرأي ووسائل التواصل

وفي ظل الانقسامات العميقة التي تعصف بالمشهد السياسي الفرنسي وانزلاق باريس في أزمة ديون شبيهة بتلك التي شهدتها اليونان، يشكل سقوط حكومة في قلب الاتحاد الأوروبي جرس إنذار يعكس هشاشة البنيان المالي والسياسي معا. ورأت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي أن "منطقة اليورو التي طالما قامت على وهم الاستقرار المالي تجد نفسها اليوم أمام قنبلة موقوتة تزداد خطورتها مع كل يوم تحت وطأة الغضب الشعبي والتقلبات الاقتصادية". 

سيناريو إعادة تشكيل المشهد السياسي 

وجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في وضع حرج بعد سقوط حكومة فرانسوا بايرو، ومن أجل تفادي خيار حل البرلمان والانتخابات النيابية المبكرة، وكذلك احتمال تجرع كأس استقالته أو رحيله الباكر، لم يتمهل هذه المرة كما في المرات السابقة، بل حسم الأمر سريعا وكلف وزير القوات المسلحة سيباستيان لوكورنو تأليف الحكومة الجديدة وسط اضطراب سياسي واحتجاجات في الشارع.

لوكورنو الشاب من فريق ماكرون السياسي لكنه يملك هامشا من الاستقلال والمناورة. عقائديا لوكورنو من الديغوليين ومن المتأثرين بوزير دفاع أسبق مميز هو بيار مسمير. 

مهمة الوزير الأول الجديدة ليست سهلة مع وجوب تركيب كتلة حاكمة من اليمين والوسط واليسار الاشتراكي، وهذا يتطلب قبولا يمينيا لتنازلات تعطى للاشتراكيين بخصوص سن التقاعد وخفض فاتورة التقشف. 

وعد لوكورنو بأنه سينفذ قطيعة بالعمق مع أساليب أسلافه وسيكون المحك في التطبيق. 

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الفرنسي المعين حديثا ووزير القوات المسلحة السابق، سيباستيان ليكورنو، يصافح رئيس الوزراء الفرنسي المستقيل فرانسوا بايرو في ختام مراسم التسليم والتسلم في باريس، في 10 سبتمبر 2025

تتعلق القطيعة في المقام الأول بالتكتم. فإذا كان رئيس الوزراء الجديد لا يرغب في الإفصاح عن نواياه قبل الاستماع إلى جميع شكاوى القوى السياسية والنقابية، فإن خطواته الأولى في ماتينيون تكشف بالفعل عن مدى الصعوبة التي يواجهها في إعادة بناء مناخ الثقة مع الأحزاب والشركاء الاجتماعيين، من أجل اعتماد ميزانية توافقية بحلول الموعد النهائي في 31 ديسمبر/كانون الأول. عدا هذا التحدي المباشر، هناك حائط من الحذر نتيجة مناخ سياسي مسموم وهذا يتطلب المزيد من الحنكة وعدم الظهور بمظهر منفذ رغبات الرئيس ماكرون. 

خلفية الأزمة والمخارج الممكنة 

في خلفية المشهد، تواجه فرنسا في نفس الوقت أزمة نظام وأزمة مجتمع.

لقد وصل رفض الفرنسيين للمؤسسات والأحزاب والزعماء السياسيين إلى مستوى غير مسبوق، مع محاولة تسويق استبدال الديمقراطية التمثيلية بديمقراطية استطلاعات الرأي ووسائل التواصل.

بالرغم من مقارنة ممكنة بين الوضع الحالي وأوضاع الجمهورية الرابعة قبل 1958 حيث ساد عدم الاستقرار الحكومي، يتوجب عدم المبالغة لأنه على عكس ما كان عليه الحال في عام 1958، تمر فرنسا اليوم بأزمة اقتصادية ومالية حادة. ثم، وقتها كان هناك أفق بديل في إمكان عودة الجنرال شارل ديغول إلى السلطة، وشبيه ذلك ليس متوافرا اليوم.

ينفتح أمام رئيس الوزراء الجديد سيباستيان لوكورنو أفق رحب إذا تجاوز الأخطاء التكتيكية لسلفه ونجح في بناء كتلة وسطية واسعة

يستحق فرانسوا بايرو الثناء لمحاولته توعية الرأي العام بالصعوبة البالغة للوضع المالي، مع أنه كان ينبغي على رئيس الجمهورية أن يتخذ هذا الموقف، ومنذ زمن بعيد. لكنه امتنع عن ذلك.

لكن بالرغم من ذلك، لا بد من الاعتراف بأن فرانسوا بايرو أدار دفة الأمور بشكل سيئ للغاية، نتيجة عدم قدرته على إدارة حوار منتج بشكل لا يتطابق مع سمعته كشخصيّة وسطية تاريخيا.

ينفتح أمام رئيس الوزراء الجديد سيباستيان لوكورنو أفق رحب إذا تجاوز الأخطاء التكتيكية لسلفه ونجح في بناء كتلة وسطية واسعة، وفي حال عدم نجاحه في مهمته من الآن إلى آخر السنة، سيفتح الدرب أمام حكومة تكنوقراط لتسيير الأعمال اليومية. 

أ.ف.ب
كتابات جرافيتي على التمثال الذي يزيّن وسط ساحة الجمهورية خلال تظاهرة ضمن حركة "بلوكوون توت" الاحتجاجية في باريس، في 10 سبتمبر 2025

يتصور البعض أنها أزمة نظام الجمهورية الخامسة تحديدا، لكن مؤسسات هذه الجمهورية هي الأقل سوءا، لا سيما لمرونتها الفائقة، مما مكّنها من التكيف مع عدد كبير من الأوضاع السياسية شديدة التباين على مدى ما يقرب من سبعين عاما. وقد شهدت المساكنة والتعايش بين الخصوم واستمرار عجلة الحكم. لكن هذا ليس سببا لعدم التفكير في التحسينات. حسب الخبراء الدستوريين مع تطور النظام الفرنسي إلى نظام ثلاثي أو رباعي القطب، يجدر الاستنجاد بالنمط الألماني من حكومات الوحدة الوطنية حيث إن هناك إلزام التعاون بالحد الممكن لتسيير دفة الحكم.

والمعطى الثاني يتمثل بالتفكير في مدة الولاية الرئاسية، إذ فشل نظام الولاية من خمس سنوات في إثبات فعاليته مثل نظام السبع سنوات سابقا، ولكن يتوجب عدم السقوط في مطب تقصير الولاية الرئاسية وإفراغها من مضمون ديمومتها حسب مزاج اللحظة أو تقلبات الأحداث، مما يمكن أن يضيف مزيدا من الاضطراب إلى عدم الاستقرار.

font change