فنان فلسطيني يعيد بناء الذاكرة من قطع بلاط مدفونة في بحر يافا

رحلة محمد قندس لإعادة تشكيل الأمكنة المفقودة

فنان فلسطيني يعيد بناء الذاكرة من قطع بلاط مدفونة في بحر يافا

في بحر يافا، بين الصدف والأمواج، تطفو قطع من بلاط مزخرف مشبع بالألوان. كانت هذه الحجارة سابقا جزءا من بيوت ومطاعم، ومؤسسات ثقافية فلسطينية، هدمها الاحتلال الإسرائيلي وألقى ركامها في البحر. كل قطعة منها تحمل تاريخا حيا، وذاكرة فلسطينية ممتدة، لا يمكن تجاوزها.

من هنا يبدأ الفنان الفلسطيني محمد قندس، تجربته مع معرضه الثالث "طمم ٣"، ليعيد تشكيل الهوية الفلسطينية بطريقة مبتكرة، عبر تحويل الركام إلى أشكال فنية تحاكي الإنسان والأرض والهوية، ويستحضر الذاكرة كأنها تتجسد الآن.

من مسرح السرايا إلى معهد "قرار"، ومن إدارة المدارس إلى تنظيم المعارض الفنية، ظل قندس يتنقل بين الفعل الثقافي والاجتماعي والفني، لكنه في "طمم 3"، يقدم لغة جديدة تتحدث عن الإنسان، عن هجرته وعودته وحياته اليومية، وعن قدرة الذاكرة على الصمود. ففي ممارسته الفنية، يتحول البحر، الذي يلفظ البلاط، إلى أرشيف حي. زائر المعرض يتوقف أمام كل قطعة، يتأمل، ويطرح أسئلة، ويستعيد القصة في خياله. هكذا تتجسد الحجارة جسرا بين الماضي والحاضر والمستقبل، وما بين الوجود والتذكر، ليتخطى بذلك الفعل الجمالي الفني، إلى إعادة تعريف الهوية وإعادة ترتيب الذاكرة التي لطالما تعرضت للمحو، فهو مرآة لتاريخ طويل من الصمود والتجدد، يؤكد أن الفلسطيني موجود رغم كل أشكال الدمار، يبني بينما العدو يخرب، ويخلق الجمال في أسوأ الظروف.

البلاط ليس مجرد حجارة، إنه ذاكرة حية. إنه الماضي والحاضر ومستقبل وجودنا على هذه البلاد


معرض قندس شهادة على قدرة الفن على إعادة بناء المهدم، وصوغ مشاعر من ذهبوا دون أن يكملوا الرواية، عبر تحويل قطع البلاط إلى لا تحتاج منها العين سوى البداية، للمضي قدما مع أسرار السردية الفلسطينية. فأبناء المكان، كما يظهر في أعمال قندس، قادرون على الاستمرار والإبداع وإعادة إنتاج حضارتهم، مهما طال الخراب واستفحل التوحش.

عمل لمحمد قندس

الذاكرة الجمعية

يصف قندس شعورا أوليا طفوليا، يعود إلى نشأته وإلى ذكريات أجداده، خلال جمعه قطع البلاط من بحر مدينته. يسأل نفسه: ما الذي يفعله هذا البلاط بجانب الصدف؟ لماذا وصل إلى هنا؟ يقول لـ"المجلة": "البلاط ليس مجرد حجارة، إنه ذاكرة حية. إنه الماضي والحاضر ومستقبل وجودنا على هذه البلاد، فهو يروي قصص العائلات وحلم البقاء، رغم كل شيء".

تلك القطع الصغيرة تؤكد هوية الإنسان الراسخة على أرضه، وتفتح نوافذ لحياة سابقة هنا، إذ أنها "تشهد على الوجود الإنساني والاجتماعي والثقافي للفلسطينيين، هناك قطع بلاط كانت جزءا من مؤسسات ثقافية ومطاعم وبيوت. كل لون علامة، وكل زخرفة دليل على ذائقة مجتمع عاش هنا، وكان عاشقا للجمال"، يقول قندس، "كل حجر هو رسالة من الماضي، يحاول مقاومة النسيان، ويبث صدى الوجود الفلسطيني".

عمل لمحمد قندس

من خلال هذه المعارض الفنية يشكّل قندس ما يشبه قطارا يتجول بين المدن الفلسطينية، ويعيد لحمة الأرض المجزأة. يقول: "معرضي لا يقتصر على العرض الفني، إذ يمثل نموذجا ثقافيا يربط المدن الفلسطينية بعضها ببعض: حيفا، يافا، القدس، وغيرها. ويمتد ليشمل المدن العربية، من القدس إلى بغداد، مستحضرا تاريخ الثقافة الإسلامية وزخارفها المعمارية التي ازدهرت في العصور الماضية".

الجمال هنا ليس زخرفة بحتة، بل شهادة على الذوق الرفيع، على اهتمام الفلسطيني ببناء الأرض وإظهارها بشكل رائع


انتقل الفن التشكيلي الإسلامي والعربي، كما يوضح قندس من دمشق وبغداد إلى سواحل فلسطين ومصر والمغرب، ليصل إلى الأندلس، حيث تواصلت النهضة الفنية، ولا تزال آثارها شاهدة على حضارة أضاءت العالم بذوقها ورفعتها. 

عمل لمحمد قندس

يخبرنا قندس: "الحضارة ليست كتبا فقط، ولا سياسات، ولا فنونا نظرية، هي بناء ومعمار، تذوق للجمال، قدرة على ترتيب المكان وإظهاره بأبهى صورة، وهكذا فإن البلاط يحكي قصة إنسانية: قصة عودة، وهجرة، وحياة مستمرة رغم الدمار، الجمال هنا ليس زخرفة بحتة، بل شهادة على الذوق الرفيع، على اهتمام الفلسطيني ببناء الأرض وإظهارها بشكل رائع".

بين الخراب والبناء

تكمن المفارقة الكبرى في التناقض بين الزخرفة المعمارية والدمار الممنهج الذي تمارسه آلة الاحتلال. يرى قندس أن هذه المفارقة تمثل لب القضية الفلسطينية، فالإنسان الفلسطيني يصر على البناء، على تشكيل حضارته والتعبير عن لغته وفنه، رغم الحروب المستمرة والخراب. يقول: "الإصرار على البناء هو إعلان حياة، وتحويل الدمار إلى أثر جمالي من جديد".

وعن تفاعل الجمهور مع مشروعه الفني هذا، يقول قندس إن قوامه التبادل المعرفي والراجع النقدي والذوقي: "يتفاعل الجمهور إيجابا مع الأعمال الفنية. يتابع المعارض، يهتم بالتفاصيل ويطرح الأسئلة، بحثا عن طرق جديدة تطرح من خلالها السردية الفلسطينية".

من أعمال محمد قندس

وحول طريقة الطرح المتجددة التي يقدمها، يعلق قندس: "يحتاج الجيل الجديد إلى لغة فنية مختلفة، تحاكي تجربته وتربطه بهويته، عبر مسارات بصرية وحسية خارجة عن المألوف، تتمكن من تقديم مساحة نقدية وجمالية جديدة".
 من خلال قطع البلاط يشكل قندس وجوها وأجسادا وأشكالا فنية، ليقدم سردا بصريا ومحاكاة تعكس الصدمات المتتالية، وتخلق لغة جديدة للوعي الناشئ: "كل وجه وجسد وشكل يعيد تقديم ابن هذا المكان في محيطه الزمني والجغرافي، في تاريخ النزاع والبقاء"، يقول قندس.

وحين سألناه عن المعلم الحضاري الذي يود إعادة بنائه، أجاب دون تردد: "الإنسان، هو المعلم المحوري، البداية والنهاية، القلب الذي يمنح المعالم معناها". أما في ما يتعلق بالمباني الرمزية، فيختار قندس برج الساعة في مدينة يافا. إذ يعتبره رمز الزمن الذي يعيد تقديم الحياة الماضية إلى الأجيال اللاحقة. يضيف: أختار أيضا السفن، التي تمثل الهجرة والعودة والحركة الإنسانية. كلها مرتبطة في نهاية المطاف بإنسان يجمع رموزها ويمنحها معناها الوجودي".
 

يجب أن يتحول الخراب ذاته الى أدوات سرد، وتتحول الصدمات إلى أشكال جمالية تحمل الرسالة الجمعية

البلاط إذن ليس مجرد أثر، إنه لغة تنقل الماضي وتوثق الحاضر وتفتح مساحة لتصور المستقبل. يعلق قندس: "الفن هنا ليس رفاهية، هو ضرورة يحتاج إليها الفلسطيني ليبقى ويثبت أنه استحق الحياة في الماضي، ويستحقها حاضرا ومستقبلا".

من أعمال محمد قندس

يواصل المحتل صنع الخراب لحجب الحق الفلسطيني في الوجود على أرضه، لكن تبقى للفن الفلسطيني محاولات لمواجهة ذلك. يقول قندس: "يجب أن يتحول الخراب ذاته الى أدوات سرد، وتتحول الصدمات إلى أشكال جمالية تحمل الرسالة الجمعية".

يضيف: "زائر المعرض لا يرى بلاطا فقط، بل تاريخا، وحركة، وذاكرة لا تموت، كل قطعة بلاط تحاكي ضحكات وآلام أناس قتلوا أو هجروا من أرضهم. كل زخرفة تشير إلى حياة كانت ولا تزال حاضرة في الوعي الجمعي".

font change