هل قامت السعودية كثورة على العثمانيين؟

مشروع داخلي أصيل استجاب لحاجات المجتمع

Shutterstock
Shutterstock
أبراج ومبانٍ في الرياض، السعودية

هل قامت السعودية كثورة على العثمانيين؟

يشيع بين بعض الكتاب والخصوم أن الدولة السعودية في مرحلتها الأولى لم تكن سوى ثورة على الدولة العثمانية، وأنها منذ لحظة ولادتها حملت مشروع تمرد على الخلافة القائمة في إسطنبول. هذه الصورة، وإن راقت للبعض في سياق الخصومة السياسية والفكرية، فإنها بعيدة عن الحقيقة التاريخية إذا وضعناها في سياقها الواقعي في مطلع القرن الثامن عشر. فالجزيرة العربية في تلك الحقبة لم تكن ساحة يهيمن عليها النفوذ العثماني المباشر، بل فضاء واسعا يعيش في فراغ سياسي مستحكم. لم يكن للعثمانيين وجود فعلي في قلب نجد: لا وال يعين فيها، ولا جيش يرابط في مدنها وقراها، ولا جهاز إداري يسيطر على شؤون أهلها. اقتصرت سيطرتهم على الأطراف، فالحجاز خضع لنفوذهم عبر شريف مكة، والأحساء ارتبطت بولاة البصرة، واليمن عرف بولاة متذبذبي النفوذ، بينما العراق كان بيد ولاة بغداد. أما الداخل النجدي فظل متروكا لأهله، تتقاسمه زعامات محلية وأمراء صغار يتداولون السلطة كلما تبدلت موازين القوة.

وقائع موضوعية

كان هذا الواقع يعني أن كل بلدة أو قرية تحولت إلى ما يشبه الإمارة الصغيرة المستقلة، يحكمها شيخ أو أمير، وتتحدد قوتها بمقدار ما تمتلك من رجال وسلاح وما تعقده من تحالفات قبلية. لكن هذه التحالفات كانت هشة، لا تعمر طويلا، فما يجمع الناس اليوم قد يفرقهم غدا، وما تعقده المجالس قد ينقضه السيف. لذلك عاش المجتمع النجدي في حال دائم من التشرذم والاضطراب. ولم يكن هذا التشرذم مجرد مسألة سياسية عليا، بل انعكس على تفاصيل حياة الناس اليومية. فالأمن كان شبه مفقود، والقوافل التجارية لا تأمن الطريق، والغزوات القبلية تهدد المزارع في حقله، والبدوي في باديته، بل حتى سكان المدن أنفسهم لم يسلموا من الاضطرابات. لم يعرف الناس الاطمئنان الكامل في أي مكان، إذ ظل خطر الغزو أو النزاع قائما في كل لحظة. وهكذا أصبح الأمن رأس المال الأول في عيون الأهالي، والمطلب الذي يبحثون عنه قبل أي شيء آخر.

الثورة تفترض وجود سلطة شرعية قائمة يتم الخروج عليها وإسقاطها، بينما التوحيد يعني الانتقال من حالة التفتت إلى حالة الوحدة

من رحم هذا الواقع المأزوم ولدت الدولة السعودية الأولى عام 1727، لا بوصفها ثورة على قوة خارجية، بل باعتبارها مشروعا داخليا أصيلا استجاب لحاجات المجتمع. لقد قدمت وعدا بسيطا لكنه حاسم: أن يسود الأمن في حدودها. وكان هذا الوعد كفيلا بتغيير موازين الحياة في نجد، لأنه خاطب الهم الأكبر للناس الذين أرهقتهم النزاعات وأتعبتهم الغزوات. ولهذا التف حولها من وجد في قيامها أملا جديدا في الوحدة والاستقرار.

واس
الأحساء تغرق باللون الأخضر احتفالا باليوم الوطني الـ95 للمملكة، "عزّنا بطبعنا"

لم يكن في الأفق إذن صدام مع العثمانيين عند التأسيس، لأنهم ببساطة لم يكونوا موجودين في قلب نجد كي يثور عليهم الناس. لقد ظلت الدولة الناشئة محلية الطابع في بدايتها، منشغلة بتثبيت أركانها الداخلية وتوسيع نفوذها تدريجيا. ولم يظهر التعارض مع العثمانيين إلا بعد عقود، حين اندفعت الدولة نحو الحجاز والأحساء واليمن في أواخر القرن الثامن عشر. عندها فقط بدا للسلطنة أن ثمة قوة صاعدة تهدد مناطق تعدها جزءا من نطاق نفوذها. فالصراع كان لاحقا لاتساع الدولة، لا سابقا لنشأتها، وكان نتيجة طبيعية لمسار توسعها، لا سببا في وجودها.

بين الثورة والتوحيد

إن إدراك هذه الحقيقة يفرض علينا التمييز بين مفهومين: الثورة والتوحيد. فالثورة تفترض وجود سلطة شرعية قائمة يتم الخروج عليها وإسقاطها، بينما التوحيد يعني الانتقال من حالة التفتت إلى حالة الوحدة، ومن الولاءات الضيقة إلى ولاء أوسع يتجاوز القبيلة والبلدة إلى الكيان السياسي الجامع. الدولة السعودية الأولى كانت مشروع توحيد، وليست حركة تمرد. لقد نجحت في إعادة صوغ الولاءات القبلية والمحلية في إطار جديد، وقدمت للناس وعدا بالأمن والإصلاح، وهو ما منحها الشرعية والقدرة على البقاء.

واس
الأحساء تزدان باللون الأخضر احتفالا باليوم الوطني الـ95 للمملكة، "عزّنا بطبعنا"

في هذا المعنى يمكن القول إن التجربة السعودية الأولى كانت انبثاقا من الداخل لا استجابة لصراع خارجي. لقد انطلقت من حاجة ملحة شعر بها الناس في حياتهم اليومية: الحاجة إلى الأمان وإلى سلطة تضبط العلاقات وتحد من الفوضى. ومن هنا استمدت قوتها ومشروعيتها. أما ما واجهته لاحقا من صدام مع النفوذ العثماني على الأطراف، فذلك كان نتيجة توسعها الطبيعي خارج الإقليم النجدي، لا سببا لوجودها ولا مبررا لتصويرها كثورة منذ البداية. ولو لم يكن هناك عثمانيون في الحجاز والأحساء واليمن، لبقيت الدولة في مسارها الطبيعي نفسه، لأنها لم تبن أصلا على فكرة الثورة، بل على منطق التوحيد وبسط الأمن.

ظلت الدولة الناشئة محلية الطابع في بدايتها، منشغلة بتثبيت أركانها الداخلية وتوسيع نفوذها تدريجيا

لقد كشفت التجربة السعودية الأولى أن قيام الدول في قلب الجزيرة لا يشبه نشأة الدول في بيئات أخرى. فهنا لم يكن ثمة سلطة عظمى يثور الناس عليها، بل فراغ سياسي مهلك احتاج إلى من يملأه. ولم يكن قيام الدولة ثمرة مؤامرة أو حركة تمرد، بل نتيجة داخلية لصيرورة اجتماعية وسياسية استدعت ظهورها. من هذا المزيج بين مطلب الأمن وإطار الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ولدت الدولة التي امتلكت القدرة على البقاء، وظل أثرها ممتدا حتى الحاضر.

Lina Jaradat
نهضة السعودية

استجابة لحاجات الناس

هكذا يتبين لنا أن اختزال التجربة السعودية في صورة "ثورة على العثمانيين" يظلم حقيقتها ويشوه سياقها التاريخي. فهي لم تنشأ رغبة في إسقاط سلطان بعيد الغياب عن نجد، بل استجابة لحاجة ملحة عند الناس، وحافزها الأول كان توحيد مجتمع متفرق وبناء كيان قادر على حمايته. وإذا أردنا تلخيص التجربة بعبارة موجزة، فإن الأنسب أن نقول: إنها كانت توحيدا لا ثورة، بناء لا هدما، واستجابة لحاجات الناس لا صراعا مع قوة خارجية. ومن هنا تبرز أهميتها في تاريخ الجزيرة العربية، إذ مثلت البداية الفعلية لعصر الوحدة والاستقرار، وألقت بظلالها على المراحل التالية، حتى غدت مثالا على قدرة مجتمع محلي أن ينهض من قلب الفراغ ليصنع دولة تمتد وتتواصل عبر الأجيال.

Fayez Nureldine / AFP
فريق الصقور السعوديين للاستعراض الجوي يقدم عرضا في "المعرض العالمي للدفاع 2024" شمال الرياض

مصطلح "الخارجي" في الثقافة الإسلامية ارتبط منذ صدر الإسلام بوصف ذميم يُطلق على من يخرج على الجماعة ويشق عصا الطاعة، خصوصا على من يرفض البيعة ويثير الفتن في المجتمع المسلم. وقد ارتبط هذا المصطلح تاريخيا بفرقة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فصار اسمهم عَلَما على كل من يخرج على الدولة أو يُحدث اضطرابا في وحدة الأمة. ومنذ ذلك الحين، صار وصف "الخارجي" سلاحا لغويا وسياسيا يُستخدم لتجريم الخصوم وعزلهم اجتماعيا، لما يحمله من دلالة على الخيانة وتهديد الاستقرار.

Getty Images
طائرة مقاتلة سعودية من طراز تورنادو GR4S مع إعلان "رؤية 2030"

غير أن هذا الوصف استُعمل في غير موضعه أحيانا، ومن أبرز الأمثلة إطلاقه على الدولة السعودية في مرحلتها الأولى التأسيسية. فبعض خصومها وصفوا أبناء الدرعية ومن التف حولهم من أبناء القبائل العربية، بالخوارج، وزعموا أنهم تمردوا على الخلافة العثمانية وأثاروا الفتن وشقوا عصا الطاعة.

لم تقم الدولة السعودية أصلا على خروج منظم ضد سلطان قائم في نجد، ولم تكن ثورة على العثمانيين، بل لم يكن هناك وجود فعلي للعثمانيين في نجد

إلا أن هذا الوصف لا يصح ولا ينطبق على واقع نشأة الدولة السعودية، لأنها لم تقم أصلا على خروج منظم ضد سلطان قائم في نجد، ولم تكن ثورة على العثمانيين، بل لم يكن هناك وجود فعلي للعثمانيين في نجد، لا قديما ولا حديثا.

NEOM
صورة توضح المخطط التصميمي لمشروع "ذا لاين" في مدينة نيوم المستقبلية على البحر الأحمر

ومن ثم فإن إلصاق تهمة "الخارجية" بها يعكس صراعا أيديولوجيا أكثر مما يعكس حقيقة تاريخية موضوعية.وبرغم إدراكنا لهذا الأمر كحقيقة راسخة، إلا أن في عالم الإعلام، من يشيع، نقلا عن بعض الكتّاب والخصوم أن الدولة السعودية في مرحلتها الأولى لم تكن سوى ثورة على الدولة العثمانية، وأنها منذ لحظة ولادتها حملت مشروع تمرّد على الخلافة القائمة في إسطنبول. هذه الصورة، وإن راقت للبعض في سياق الخصومة السياسية والفكرية، فإنها بعيدة عن الحقيقة التاريخية إذا وضعناها في سياقها الواقعي في مطلع القرن الثامن عشر.

font change