يمعن الخطاط السوري منير الشعراني في هدم المعايير الكلاسيكية للخط العربي، بجرعات تجريبية عالية، والتحليق بهندسة الحرف نحو فضاء إيقاعي أكثر ديناميكية، وذلك بتصميم خطوط جديدة تضع ما هو سكوني ومستقر في أتون اشتراطات الحداثة بما يشبه انقلابا في المفاهيم والقيم الغرافيكية.
تتجاوز العبارة عند الشعراني هنا التزيين والزخرفة أو التطريب البراني نحو التجريد والتأويل وغواية المعنى، وتاليا هو على مسافة واضحة من موجة الحروفية الاستشراقية أولا، والقفص المقدس لموروث الخط العربي ثانيا. لا مكان هنا للتجويد من داخل الأسوار الصلبة للقواعد، إنما محاولات محتدمة لوضع الخط في مقام موسيقي آخر، على خلفية من العبارات المقتبسة من الموروث الشعري، والأقوال المأثورة، والنفحات الصوفية، وإطلالات خاطفة على نصوص الحداثة الشعرية، بما يجمع "البصر والبصيرة" في فضاء واحد.
متاهة بصرية
في محترف الشعراني الدمشقي، نعيش نشوة الخطوط المتجاورة التي تشكل في مجموعها متوالية معرفية، كمن يدخل متاهة بصرية، نظرا لتعدد الإحالات في العبارة الواحدة، فما كان لينا ومنسابا هنا، يتحول إلى حرف متمرد ونافر، في أقصى حالات الصرامة الهندسية في مقترح آخر.
هكذا يختزل منير الشعراني الزمن بين أشعار امرئ القيس ومحمود درويش، وبين النفري والمتنبي، وبين ابن عربي وأبي فراس الحمداني. لطالما أعاد كتابة عبارة ما بحلول غرافيكية متعددة، وبعيدة عن النسخ والتكرار، وذلك بتأثيث الحرف جماليا، انطلاقا من المعنى الكامن في العبارة المختارة. وإذا باللوحة تذهب إلى مناطق بكر بلمسة مبتكرة في التشجير والتوريق، من دون أن تعلن قطيعتها مع حفريات المعلمين الكبار.