الخطاط منير الشعراني يجمع البصر والبصيرة في معرض وكتاب

متوالية معرفية تربط الماضي بالحاضر

الجهل عمود الطمأنينة

الخطاط منير الشعراني يجمع البصر والبصيرة في معرض وكتاب

يمعن الخطاط السوري منير الشعراني في هدم المعايير الكلاسيكية للخط العربي، بجرعات تجريبية عالية، والتحليق بهندسة الحرف نحو فضاء إيقاعي أكثر ديناميكية، وذلك بتصميم خطوط جديدة تضع ما هو سكوني ومستقر في أتون اشتراطات الحداثة بما يشبه انقلابا في المفاهيم والقيم الغرافيكية.

تتجاوز العبارة عند الشعراني هنا التزيين والزخرفة أو التطريب البراني نحو التجريد والتأويل وغواية المعنى، وتاليا هو على مسافة واضحة من موجة الحروفية الاستشراقية أولا، والقفص المقدس لموروث الخط العربي ثانيا. لا مكان هنا للتجويد من داخل الأسوار الصلبة للقواعد، إنما محاولات محتدمة لوضع الخط في مقام موسيقي آخر، على خلفية من العبارات المقتبسة من الموروث الشعري، والأقوال المأثورة، والنفحات الصوفية، وإطلالات خاطفة على نصوص الحداثة الشعرية، بما يجمع "البصر والبصيرة" في فضاء واحد.

متاهة بصرية

في محترف الشعراني الدمشقي، نعيش نشوة الخطوط المتجاورة التي تشكل في مجموعها متوالية معرفية، كمن يدخل متاهة بصرية، نظرا لتعدد الإحالات في العبارة الواحدة، فما كان لينا ومنسابا هنا، يتحول إلى حرف متمرد ونافر، في أقصى حالات الصرامة الهندسية في مقترح آخر.

هكذا يختزل منير الشعراني الزمن بين أشعار امرئ القيس ومحمود درويش، وبين النفري والمتنبي، وبين ابن عربي وأبي فراس الحمداني. لطالما أعاد كتابة عبارة ما بحلول غرافيكية متعددة، وبعيدة عن النسخ والتكرار، وذلك بتأثيث الحرف جماليا، انطلاقا من المعنى الكامن في العبارة المختارة. وإذا باللوحة تذهب إلى مناطق بكر بلمسة مبتكرة في التشجير والتوريق، من دون أن تعلن قطيعتها مع حفريات المعلمين الكبار.

يروي الشعراني سيرته الأولى ومكابداته بين المنافي والتوقيع باسم مستعار، وكأن آلام العمود الفقري التي يعاني منها اليوم، تأتي رجعا لتلك الرحلة الطويلة


عند هذا المنعطف يستعيد ذكريات صبي العاشرة الذي وقف مبهورا أمام واجهة محل الخطاط بدوي الديراني (1894- 1967)، بالقرب من الجامع الأموي، قبل أن يجتاز العتبة وتتلوث أصابعه بالحبر في تمرينات شاقة على تعلم أنواع الخطوط، وسيرافقه طيف هذا الأب الروحي إلى اليوم كسراج مشع في عتمة اللحظة الراهنة، كلما عبر مكانا أثريا يحمل توقيعه، من دون أن ينسى وصية هذا المعلم الرائد "تعلم القواعد وأتقنها جيدا، ثم افعل ما تراه"، كما سيشعر بالأسى أمام طغيان موجة التلوث البصري بفعل انتشار النيونات واللافتات الإعلانية التي أرخت الستارة على كنوز الخطاطين الأصلاء لمصلحة ما هو استهلاكي وسطحي ومبتذل.

بورتريه منير شعراني

أخذني السرد نحو القصد

في كتابه الجديد "رؤية فنية معاصرة للخط العربي" الذي ساهمت بإصداره "الشبكة اللغوية العربية في الرابطة الدولية للنشر المستقل" بمشاركة خمس دور نشر عربية (الانتشار العربي، دار محمد علي الافي، العين، دار ممدوح عدوان، أطلس)، والذي أبصر النور بمواكبة معرضه الجديد "إيقاعات خطية" في فضاء مسرح حمص القديم بمبادرة من جمعية "تراثنا"، يروي الشعراني سيرته الأولى ومكابداته بين المنافي والتوقيع باسم مستعار، وكأن آلام العمود الفقري التي يعاني منها اليوم، تأتي رجعا لتلك الرحلة الطويلة، في الانكباب على الورقة البيضاء، ودواة الحبر، مأسورا أمام تشكيل عبارة ما، ستكون بوصلته نحو الآخر، بوصفها موقفا نقديا وأيديولوجيا، وشغفا محمولا على رافعة الجماليات الخطية المبتكرة.

يقول في توصيف منعطفات تجربته: "أخذني السرد نحو القصد، فأضأت على رؤيتي وتجربتي ومنجزي في تطوير الخط العربي وتحديثه بناء على قراءة نقدية مغايرة لتاريخه وتجلياته الإبداعية، ولم يكن دربي معبدا. كنت مدفوعا بقوة الحب والشغف والإصرار، مما مكنني من الوصول إلى أسلوب جديد في معالجة النسخة المغربية للخط المشرقي، أو الخط الكوفي القيرواني، بمقترحات مغايرة، وارتجالات بلا ضفاف".

هكذا امتنع عن تقنين الخطوط المسكوت عنها، وعمل على إحيائها وتطويرها وابتكار بعضها، من دون قيود تلجم اندفاعات الحرف أفقيا أو شاقوليا، دائريا أو مستقيما.

نتأمل طويلا الخرائط البصرية الملتبسة لاكتشاف لغز المحتوى، وفحص المبنى والمعنى، مما يحيلنا على أكثر من مقام قبل أن نتوقف عند عبارة مركزية مستلة من تراث محيي الدين بن عربي، لعلها تختزل جوهر تطلعاته الغرافيكية: "العارف صاحب تجريد". لا تهم هنا مرجعية هذا الخط أو ذاك، فعمليات الإضافة والحذف، وحرية الاشتباك مع النقطة والدائرة وضبط النسب بين امتداد الحروف على السطر، والعلاقة المتبادلة بين الكتل والاستدارات والاستطالات، والوصل والقطع، هي ما يمنح اللوحة نهجها الجمالي، فـ"تقنين الخط وضبطه بالنقاط، ليس كتابا منزلا يحكم بالهرطقة على من لا يتقيد به أو يتجاوزه"، كما يقول.

الكلام شرك

نتوقف مليا أمام حرف الألف باعتباره مرتكزا أساسيا في اشتغالات الشعراني الخطية، وذلك لقدرته على التفرد بين الحروف الأخرى لجهة التجريد والتوريق، ثم تأتي الهمزة على هيئة طائر يحط على شجرة المعنى.
يجرب هذا المصمم المختلف أنماطا من الخط العربي تبعا لتناغم الأحرف في هذه العبارة أو تلك لاختبار أبعادها التشكيلية، وقد يعود إلى العبارة في نوتة خطية أخرى، سواء أكان هذا الخط كوفيا أم ثلثا أم ديوانيا، كأنه لا يستقر على حال، فهو دائم البحث والتجريب والمغامرة.

تقنين الخط وضبطه بالنقاط، ليس كتابا منزلا يحكم بالهرطقة على من لا يتقيد به أو يتجاوزه


صحيح أن الشعراني امتداد لتجارب الخطاطين الكبار، لكنه في المقابل يسعى إلى التجاوز والإضافة لتأكيد توقيعه الشخصي بعيدا من النص المقدس الذي ارتبطت به تجارب معظم الخطاطين القدامى. إذ "بقي الخط العربي نحو خمسة قرون حبيس هذا المنحى الديني، وخصوصا في فترة الحكم العثماني للمنطقة العربية".
هذا المأزق تجاوزه الشعراني عبر كسر قوالب الخط العربي التقليدية، والمزاوجة بين جماليات هذا الخط وقيم التشكيل الحديث، مما فتح آفاقا رحبة ومبتكرة أمام لوحته. روحانية هذه الأعمال ترقى إذن، إلى مستويات تجريدية عالية، لا تتكئ على ما هو مألوف في الزخرفة والحواشي والتوشيحات، بل تنبثق من الداخل بتطويع الخط غرافيكيا، وتكشف المهمل والمخفي بفتنة بصرية آسرة، فتتجاور الأحرف المحبوكة بقوانين هندسية صارمة، على شكل سلم موسيقي يمنحها رنينا خاصا، وتأويلات لا تحصى، عبر التناسب الدقيق بين الخط والنقطة والدائرة، والانحناء والاستقامة، وذلك بقصد "خلخلة الكتلة الجامدة التي خضع الخطاطون والمصممون لها، واستبدال الشكل المربع للنقاط بالدائري ووضعها بلون مغاير، وخلق موسيقى بصرية تغني التصميم والتضاد فيه".

وإذا بنا حيال هجنة بصرية، وحساسية شعرية، ونزعة جدلية تنطوي على عمارة حروفية متماسكة تتيح مجالا رحبا أمام التصاميم الحديثة، خصوصا بما يتعلق بتطوير الخط الكوفي من طريق مضاعفة أطوال بعض أجزاء الحروف صعودا أو هبوطا، وتجنب إقحام الحشوات لاستكمال الشكل وإغلاقه.

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

متواليات بلاغية وغرافيكية

بعيدا من التقنية وتناغم الكتل والفراغات في قاعدة اللوحة وعمقها الهندسي، يتفرد هذا الفنان بانحيازه إلى العبارة التي تفتح على ما بعدها في متواليات بلاغية وغرافيكية في آن واحد، ودعوة صريحة للتمرد على الفصل الجائر بين الخط العربي والتشكيل.

عبارة مثل "التيه يبدأ منك"، الواردة في متن ملحمة جلجامش، تلخص رحلة جلجامش وأنكيدو في البحث عن عشبة الخلود كحمولة فلسفية، لكنها تعتمد بصريا على الطواف الدائري لمنعرجات الرحلة باللونين الأسود والأحمر. وفي حال تأملنا عبارة من طراز "إن المحب لتبدو منه أسرار" (عباس بن الأحنف)، نلاحظ كيف تتكون الكتلة على شكل قلب في قاعدة اللوحة، بينما يظهر مطلع القصيدة مثل هلال في أعلاها، ثم يختتم النص بقمر مكتمل.

في الشام مرآة روحي

ويصوغ الشعراني عبارة "ألا أيها الليل الطويل ألا انجل"(امرؤ القيس) على هيئة أقواس متجاورة ومغلقة على قفص من الأسرار الغامضة، وفي رؤية ثانية يخضع العبارة نفسها لمقترح بصري مختلف، فيما تتيح عبارة "في الشام مرآة روحي"، أو "ما أنا إلا خطاي" لمحمود درويش، التجوال في فضاء مفتوح على البهجة والشغف اللوني. وتعيننا "شاخصات" أخرى على اقتفاء أثر المعجم الشخصي للفنان وموقفه من شؤون اللحظة الراهنة، إذ لا فرق بين حكمة الأمس وتجليات اليوم، مثل "آفة الرأي الهوى" (أكثم بن صيفي)، و"فقد الأحبة غربة" (السجاد)، "الجهل عمود الطمأنينة"(النفري)، و"لا عذر في غدر" (أبو حيان التوحيدي)، و"ما أبتغي جل أن يسمى" (المتنبي)، و"الكلام شرك" (وليد خازندار)، فيما يختصر غلاف كتابه بقول مأثور "كن كيسا وكريما وكليما وكتوما"، مستثمرا تكرار حرف الكاف ككتلة هندسية صارمة في توضيب المحتوى.

يتفرد هذا الفنان بانحيازه إلى العبارة التي تفتح على ما بعدها في متواليات بلاغية وغرافيكية في آن واحد


ومن ضفة أخرى، يستثمر منير الشعراني قوة الملصق في إعلان موقفه المضاد من حرائق المنطقة واضطراباتها، "لا للقتل"، "أوقفوا الإبادة"، " لا للحصار"، "لا للصمت"، وذلك استجابة وانحيازا لإشارة من ابن عربي "كل فن لا يفيد علما، لا يعـــول عليه".

شجرة مثقلة بثمار الأسلاف

في تقويم تنويعات هذا المشغل الاستثنائي، نبقى في منطقة الحيرة من جهة، والغبطة الشعرية، من جهة ثانية، فمنير الشعراني، واحد من الخطاطين العرب القلائل الذين أزاحوا الغبار عن نفائس الخط العربي، وفتحوا مسارب جديدة للكلمة كي تتنفس هواء آخر خارج جدران المتاحف والدواوين الرسمية، كما ترك بصمة واضحة على غلف الكتب في تصميمات تتحلى بجاذبية بصرية تنطوي على منطق جمالي ساحر يستمد نسغه من شجرة مثقلة بثمار الاسلاف.

font change

مقالات ذات صلة