عن خطة ترمب وحال الفلسطينيين وسؤال ما العمل؟

إزاء طي حقبة من تاريخ الشعب الفلسطيني

عن خطة ترمب وحال الفلسطينيين وسؤال ما العمل؟

استمع إلى المقال دقيقة

لم تأت خطة ترمب المتعلقة بوقف حرب إسرائيل الإبادية نتيجة لحظة سياسية عقلانية أو أخلاقية انتابته إزاء فلسطينيي غزة، إذ سبق أن طرح خطة باسم "صفقة القرن"، في ولايته الأولى (2020)، ثم طرح في العام الأول من ولايته الثانية، أي في العام الثاني لتلك الحرب، خطتين، الأولى إنشاء "ريفييرا" في غزة، بعد نقل، وبالأصح تشريد، فلسطينيي غزة (فبراير/شباط)، والثانية خطة الـ20 نقطة، وكل واحدة منها تختلف عن الأخرى.

التشكك في نوايا إدارة الرئيس ترمب ينبع من السياسات التي انتهجها، في ولايته الأولى والثانية، والتي يمكن تمثلها بالأتي:

أولا، هي أكثر إدارة دعمت إسرائيل، وحتى لأكثر الحكومات تطرفا عرفتها في تاريخها.

ثانيا، التنصل من الضمان الأميركي لاتفاقات أوسلو، وتجميد العلاقات مع السلطة الفلسطينية، وتوقيف الدعم لها، مع إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن.

ثالثا، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

رابعا، الاعتراف بشرعية الاستيطان الإسرائيلي في الضفة.

خامسا، في المرحلتين اشتغلت إدارة ترمب على مناهضة الانزياح الدولي نحو الاعتراف بمشروعية حق الفلسطينيين بدولة مستقلة، ومؤخرا قامت بعدم منح الرئيس الفلسطيني تأشيرة دخول للولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

سادسا، تقديم الدعم اللامحدود لإسرائيل، في حربها الإبادية ضد الفلسطينيين، سياسيا وماليا وأمنيا واستخباراتيا وتكنولوجيا، إلى درجة أنها منحت إسرائيل أسلحة تدميرية كانت إدارة بايدن حجبتها عنها.

القصد من التذكير بهذه الحقائق نزع الأوهام، والتعامل بواقعية، وعقلانية، مع التلاعبات أو المناورات السياسية، مع التأكيد على طلب وقف حرب الإبادة الجماعية الوحشية التي تشنها إسرائيل منذ عامين، والتي تمخضت عن نكبة ثانية مهولة للشعب الفلسطيني.

التشكيك في السياسة الأميركية، والطلب الملح لوقف الحرب المدمرة، التي تتوخى كسر شعب فلسطين، ومحو قطاع غزة، وتشريد الفلسطينيين فيه، أو منه، نابع أصلا من فقدان الفلسطينيين السيطرة، وانكشافهم أمام عنجهية إسرائيل، وهذا يشمل "حماس"، التي لم تستطع صد عدوان إسرائيل، ولا وقف تغلغلها في مدن وشوارع غزة، ولا تأمين الحد الأدنى من الحماية للشعب الفلسطيني، ولا توفير ربطة خبز، أو خيمة، للمشردين في غزة.

ثمة إجماع دولي وإقليمي وعربي حول خطة ترمب، ما يفيد بوضع قضية الفلسطينيين قيد الوصاية الدولية، وهذا يشمل إقصاء "حماس"، وأيضا، تهميش السلطة الفلسطينية في الضفة

صحيح أن مقاتلي "حماس" قاتلوا ببطولة، وأوجعوا إسرائيل، أكثر من أي فترة في تاريخها، لكن هذا وذاك لا يغطي، ولا بأي قدر، على هول النكبة الفلسطينية، ولا على دمار قطاع غزة، ولا على واقع تشديد إسرائيل هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وحتى ما يتجاوز ذلك إلى الشرق الأوسط، أي وصولا إلى قطر واليمن وطهران ذاتها، مرورا بسوريا ولبنان والعراق، طبعا كل ذلك بإسناد لا محدود من قبل إلإدارة الأميركية.

تبعا لكل ذلك، ثمة كثير من المصادر التي دفعت ترمب إلى طرح خطته، أهمها، أولا، عزلة الولايات المتحدة إزاء حلفائها في الغرب، بدلالة التصويت في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. ثانيا، انكفاء مشاريع التطبيع مع إسرائيل بعد طرح كثير من الدول العربية المعنية، أن ذلك لن يحصل في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية، ورفض إسرائيل تمكين الفلسطينيين إقامة دولة لهم. ثالثا، التغير في الرأي العام العالمي، وضمنه في الولايات المتحدة، إزاء إدانة إسرائيل، ما جعلها بمثابة دولة مارقة ومعزولة ومنبوذة في العالم، مع انكسار صورتها كدولة تحتكر مكانة الضحية، واعتبارها دولة إبادة جماعية، إضافة إلى صورتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية. رابعا، باتت إسرائيل بمثابة عبء أمنى وسياسي ومالي وأخلاقي كدولة متغطرسة، وعدوانية، في المنطقة، ما أكده نتنياهو باعتقاده بفرض السلام بالقوة، والحلم بـ"إسرائيل الكبرى"، والتعبيران يشكلان مصدر قلق في المنطقة.

عموما، فإن اللحظة الدولية والإقليمية والعربية الراهنة تشبه لحظة إصدار "نداء الملوك والأمراء العرب" (1936)، بعد الإضراب الفلسطيني الكبير (ستة أشهر)، وتاليا إصدار بريطانيا (المنتدبة على فلسطين آنذاك) ما سمي "الكتاب الأبيض" (1939)، المتضمن وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإقامة دولة فلسطينية بعد 10 سنوات، وفي ذلك الظرف قامت إسرائيل فقط (1948)، وتم تشريد حوالي مليون فلسطيني، وبقية الحكاية معروفة إلى الآن.

الآن، ثمة إجماع دولي وإقليمي وعربي حول خطة ترمب، ما يفيد بوضع قضية الفلسطينيين قيد الوصاية الدولية، وهذا يشمل إقصاء "حماس"، وأيضا، تهميش السلطة الفلسطينية في الضفة، أو إدخال تغييرات جوهرية على معناها ومبناها، بما في ذلك إجبارها على الانزياح من سرديتها الوطنية الجامعة، تحت اسم تغيير المناهج التعليمية، وصولا إلى تغيير جوهرها من كونها نتيجة حركة تحرر تنحو نحو الحرية والاستقلال وتقرير المصير في دولة مستقلة بتحويلها إلى مجرد جسم إداري لحكم ذاتي، خال من المضامين السياسية، وهذا هو الاسم المستعار لمصطلح إصلاح السلطة الفلسطينية، ككلمة حق يراد بها باطل.

الحل، الآن، يتمثل في تركيز الجهود نحو تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، فهذا أهم شيء، وتاليا، الشروع في إعادة بناء البيت الفلسطيني

يستنتج من ذلك أننا إزاء طي حقبة من تاريخ الشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني، وهي حقبة تفيد بنهاية أو انهيار الخيار العسكري ضد إسرائيل، الدولتي والفصائلي، أي إن ذروة خيار الصراع المسلح ضد إسرائيل، كما تمثلت في "طوفان الأقصى" شكلت أيضا نهاية هذا الخيار، مع كل التداعيات التي نجمت عنها والتي غيرت وجه المشرق العربي.

لعل أهم ما يفترض إدراكه هنا، أن الحديث عن إخفاق الخيار العسكري، لا يعني البتة نجاح الخيار السياسي/التفاوضي، ففي الحالين تم فقدان السيطرة، لأن الوضع الدولي والإقليمي لا يسمح للفلسطينيين باستثمار كفاحهم وتضحياتهم، تبعا لموازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية والعربية السائدة منذ منتصف القرن الماضي، وهي معطيات لا تسمح بحل فلسطيني، مهما كان مستواه.

أما سؤال ما الحل؟ أو ما العمل؟ فهو سؤال متأخر جدا، إذ كان يفترض بالفلسطينيين مراجعة استراتيجياتهم السياسية والكفاحية، وعلاقاتهم ببعضهم، وبالعالم، منذ نصف قرن، وعلى الأقل بعد الخروج من لبنان (1982)، أو بعد الانتفاضة الأولى، وعقد اتفاق أوسلو (1993)، أو مفاوضات كامب ديفيد (2000). إذ تم تضييع عقود على أوهام السلطة، وأوهام الكفاح المسلح، مع فصائل متكلسة، بدل التوجه لصوغ استراتيجيات جديدة، سياسية وكفاحية.

على ذلك يبقى أن الأنسب، أو الحل، الآن، يتمثل في تركيز الجهود نحو تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، فهذا أهم شيء، وتاليا، الشروع في إعادة بناء البيت الفلسطيني، على أسس جديدة، تقطع مع التجربة الماضية، وتبني على إيجابياتها، وتراعي إمكانيات الشعب، من دون أوهام ومبالغات، مع صوغ رؤية جمعية تتأسس على المطابقة بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، وإدخال مضمون جديد للكفاح يقوم على حق الفلسطيني في الحرية والعدالة والمساواة، فهذا هو الخطاب الذي يفهمه العالم اليوم، والذي يقف مع الفلسطينيين من أجله، وهو المتاح، بخاصة في المعطيات الدولية والعربية الراهنة.

font change