الخلافات حول الاعتراف بفلسطين... هل ترسم مستقبل التحالف الغربي؟

Eduardo Ramon

الخلافات حول الاعتراف بفلسطين... هل ترسم مستقبل التحالف الغربي؟

لم تشهد معظم اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إثارة تضاهي تلك التي شهدها عام 2025. وكعادته، تصدر الرئيس الأميركي دونالد ترمب عناوين الصحف بخطابه المطول والمشاكس الذي امتد لما يقارب الساعة. ومن بين أكثر تصريحاته صدمة، ضمن قائمة طويلة من العبارات التي أذهلت جمهوره، انتقاده لحلفائه، خاصة في أوروبا الغربية وبريطانيا، قائلا إنهم "في ورطة حقيقية" و"سوف يفشلون" بسبب الهجرة وتبنيهم للطاقة الخضراء. وبينما شهدت الأشهر الثمانية الأولى من ولاية ترمب الثانية توترات حادة في العلاقات عبر الأطلسي، غادر المندوبون القاعة متسائلين عما إذا كان التحالف الغربي نفسه يمر بورطة فعلية.

بدت الخلافات المتزايدة داخل التحالف أوضح في غزة منها في أي مكان آخر، إذ شكّلت محور النقاش الرئيس للجمعية العامة للأمم المتحدة. وتفادى عشرات المندوبين الاستماع إلى خطاب بنيامين نتنياهو، حيث غادروا القاعة قبل صعوده إلى المنصة، بعدما اتهم القادة الأجانب الذين انتقدوه بالخضوع لضغوط "وسائل إعلام متحيزة، ودوائر انتخابية إسلامية متطرفة، وجماهير معادية للسامية". جاء ذلك في أعقاب اعتراف عدد من الحكومات الغربية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، بدولة فلسطين خلال اجتماع الجمعية العامة، وهو ما أثار غضب إسرائيل، وأدى إلى أوضح تباين في الموقف الأميركي منذ بداية حرب غزة. تُرى، ما مدى أهمية هذه الخلافات الجديدة داخل التحالف الغربي بشأن فلسطين؟ وهل تظل خلافات شكلية، أم أنها تمثل بداية لتحول في علاقات تشهد بالفعل توترا متزايدا؟

أين يكمن الخط الفاصل؟

الخلافات بين الحلفاء الغربيين بشأن غزة ليست جديدة. فطوال فترة الصراع، واصلت الولايات المتحدة دعمها الثابت لإسرائيل وحمايتها من الانتقادات، في وقت ارتفعت فيه حدة الإدانات الصادرة عن حلفاء واشنطن تدريجيا. فرضت كل من إيطاليا وإسبانيا واليابان وكندا حظرا على تصدير الأسلحة، فيما علقت المملكة المتحدة 30 من أصل 350 ترخيصا لتصدير الأسلحة، وفرضت عقوبات على وزيرين إسرائيليين من اليمين المتطرف. ورغم رمزيته الكبيرة، خاصة للفلسطينيين، يمكن النظر إلى اعتراف بعض الحكومات الغربية بدولة فلسطين في سبتمبر/أيلول باعتباره نصرا إضافيا.

تعكس التطورات التي أعقبت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة قدرا من التوافق بين الحلفاء الغربيين بشأن غزة، أكثر من كونها دليلا على الانقسام

ظاهريا، يبدو أن الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين تتسع أكثر فأكثر. فقد قال ترمب في خطابه أمام الأمم المتحدة إن "المكافآت ستكون كبيرة جدا لإرهابيي (حماس)" إذا جرى الاعتراف بفلسطين من جانب واحد، بينما وصف وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، تلك الاعترافات بأنها "لا تقدم ولا تؤخر".
لكن بعيدا عن هذه التصريحات المنددة، لم يتخذ البيت الأبيض أي إجراء ضد حلفائه لمخالفتهم توجهاته. وعندما حث سياسيون إسرائيليون نتنياهو على ضم أراضٍ من الضفة الغربية ردا على هذه الاعترافات، أعلن ترمب أنه "لن يسمح بمثل هذا الأمر". جاء ذلك بعد ضغوط مارسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وحلفاؤه في الخليج، حيث لمّحت الإمارات العربية المتحدة إلى أن أي خطوات تصعيدية قد تعرض اتفاقيات إبراهام للخطر، وهي الاتفاقيات التي مثّلت أحد أبرز إنجازات ترمب خلال ولايته الأولى. ويشير انصياع ترمب لماكرون إلى أن الرئيس الأميركي لا يكنّ عداوة جدية لباريس بسبب اعترافها بفلسطين.
فعليا، تعكس التطورات التي أعقبت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة قدرا من التوافق بين الحلفاء الغربيين بشأن غزة، أكثر من كونها دليلا على الانقسام. وتزعم إدارة ترمب أنها باتت قريبة من التوصل إلى "اتفاق" بشأن الصراع، واستغلت الجمعية العامة لمناقشة هذا الاتفاق مع القادة العرب والإسرائيليين والأتراك والأوروبيين. وعلى الرغم من غموض التفاصيل، تشير التقارير إلى أن البيت الأبيض يدعم خطة مثيرة للجدل تقضي بتكليف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير برئاسة إدارة تكنوقراطية مؤقتة خالية من "حماس" في غزة. قد لا تُحقق هذه الخطة أهدافها، لكن إذا كان الهدف هو الدفع نحو وقف لإطلاق النار وتسوية سياسية، فإن الحفاظ على دعم الحلفاء الغربيين سيظل أولوية للإدارة الأميركية، متقدمة على أي خلافات حول الاعتراف بدولة فلسطين.

هل ثمة مشاكل في الأفق؟


لكن ماذا لو لم يؤد كل ذلك إلا إلى إخفاء التصدعات داخل التحالف عبر الأطلسي بشأن إسرائيل وفلسطين؟ وماذا لو فشل أي اتفاق من هذا القبيل أو لم يرَ النور أصلا؟ حينذاك، يلوح خطر حقيقي بأن تعود تلك الخلافات إلى السطح مجددا. وعلى عكس ترمب، يرزح معظم القادة الغربيين تحت ضغوط داخلية تدفعهم إلى اتخاذ مواقف أكثر انتقادا لإسرائيل، ويسعون بجهد لإنهاء الصراع. ومن ثم، فإن الاعتراف بدولة فلسطين يمثل بداية فقط وليس نهاية المسار. وإذا استمرت الحرب واستمر ارتفاع أعداد القتلى الفلسطينيين، يُتوقع أن يتخذ هؤلاء القادة المزيد من الخطوات.
بعد أن أعلنت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة مؤخرا أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة، بدأ الأوروبيون، على وجه الخصوص، دراسة فرض عقوبات إضافية. واقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين تعليق بعض جوانب اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ما يحرم البضائع الإسرائيلية من امتياز الوصول إلى الأسواق الأوروبية. 

"المجلة"

ودعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى معاملة إسرائيل كما عوملت روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، ومنعها من المشاركة في المسابقات الرياضية الدولية. ويتعرض الاتحاد الأوروبي لكرة القدم لضغوط من قبل أعضائه، خاصة تركيا، لطرد المنتخب الوطني الإسرائيلي والأندية الإسرائيلية من مسابقاته. وفي حال الإعلان عن مثل هذه العقوبات، أو إجراءات مماثلة، سيواجه قادة غربيون مثل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر مطالب بتوسيع نطاق تحركاتهم ضد حكومة نتنياهو. وهو ما قد يشعل غضب ترمب، إذ أعلنت وزارة الخارجية الأميركية بالفعل أنها ستقف في وجه أي محاولة لمنع إسرائيل من المشاركة في كأس العالم لكرة القدم 2026، الذي تستضيفه الولايات المتحدة بالشراكة مع دول أخرى. 
وبما أن لترمب علاقات وثيقة مع رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو، فقد يدفع نحو تجاوز أي حظر قد يفرضه الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. وإذا واصل ترمب تقديم نفسه كمدافع دولي عن إسرائيل، فسوف يشعر حلفاؤه الغربيون بأن أيديهم مقيدة في ممارسة الضغط على نتنياهو، ما قد يؤدي إلى تصاعد الانقسامات داخل التحالف الغربي.

أثار هجوم إسرائيل على قادة من حركة "حماس" في قطر غضبا في صفوف حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، دفعهم إلى ممارسة ضغوط على البيت الأبيض للحد من تغول نتنياهو

مع ذلك، لا شيء يشير إلى أن مثل هذا الرد من البيت الأبيض أمر حتمي. فرغم دعم ترمب القوي لإسرائيل حتى الآن، فإن المعروف عن الرئيس الأميركي أنه من الصعب التنبؤ بتصرفاته. وقد أثار هجوم إسرائيل على قادة من حركة "حماس" في قطر غضبا في صفوف حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، دفعهم إلى ممارسة ضغوط على البيت الأبيض للحد من تغول نتنياهو. وقد تكون خطة وقف إطلاق النار الأخيرة ثمرة تلك الضغوط، ولكن إذا فشلت، فسيتعين على ترمب أن يقرر ما إذا كان الدعم غير المشروط لإسرائيل يستحق العواقب. ربما يُبدي استعدادا لقبول المزيد من الانقسام مع أوروبا، بل ومع دول الخليج أيضا، لكن من غير المستبعد أن يستنتج، وهو المعروف بحساباته التجارية الصرفة، أن نتنياهو لا يقدّم له ما يكفي مقابل هذا الدعم.
تلوح أمام ترمب ثلاثة خيارات في المرحلة المقبلة. أولا، الاستمرار في دعم إسرائيل، بصرف النظر عن الضرر الذي قد يلحق بالتحالف الغربي. ثانيا، الضغط على إسرائيل بقوة لوقف الحرب ومنع اتساع رقعة الانقسامات. ثالثا، السماح بوجود الخلافات دون أن يجعلها محور استراتيجيته في علاقاته مع الحلفاء. ويبدو واضحا أنه يميل إلى الخيار الثالث حتى الآن. لا يخفى أن لترمب مشاعر قوية تجاه إسرائيل، لكن، وكما أظهر خطابه في الأمم المتحدة، فإن نظرته إلى الحلفاء الأوروبيين لا ترتبط حصرا بالوضع في فلسطين، بل تعكس آراءه الشخصية ومجموعة من العوامل الأخرى. وربما يستخدم ترمب الخلافات حول غزة لتبرير مواقفه المتشددة تجاه أوروبا. بيد أن غزة ليست سوى عَرَض جانبي لانقسام أعمق في التحالف الغربي.

font change