في مجموعتها القصصية الصغيرة "أقرأ كافكا وكلبتي تحتضر" (دار النهضة العربية، بيروت 2025)، تعود القاصة الفلسطينية شيخة حليوى بقصص تتجاور ككراريس يوميات متوترة، غير أن كل قصة تبني لنفسها جهازا صغيرا يرى ويقيس: شرفة تطل على تقاطع يعيد تشكيل الزمن، شاشة تلتقط نبض الوداع، أشياء عادية تنقلب أدوات للمعنى. الجملة تعمل بقدر اللقطة، تختزل المحيط كي تمنح الزاوية قوة منظمة، فيتحول الحنان إلى قرار ويتقدم الفقد بوصفه طريقة إدارة للحياة، وتمتلك العلامات البسيطة ما يكفي لقيادة السرد: لون يوقف ويمرر، فاصلة تضبط النفس، وفراغ يهيئ انتقالا غنيا عن الشرح.
بدءا من القصة الافتتاحية التي تحمل عنوان المجموعة وصولا إلى "الطابور"، تصعد شبكة من أسئلة العناية والألم وتعيد النصوص ترتيب العلاقة بين الجسد والمدينة واللغة. هنا تعمل الرأفة كخبرة دقيقة في التدبير، وتكتب العدسة قانون المشهد، وتتحرك الضمائر لتوزع السلطة داخل القول، بينما يدير الإيقاع خبرة الانتظار في البدن قبل العقل. هذا كله يصنع تربية نظر، يدعو القارئ إلى الاقتراب بقدر محسوب، ويمنحه أدوات يختبر بها المسافة العادلة بين الرؤية والحكم، بين المواساة والإقرار.
الرأفة حين تصبح إجراء
تضع المجموعة القارئ أمام لحظة تتكرر بصيغ شتى: كيف يعمل الحنان حين يقطع الألم ويعيد رسم حدود العيش، مما يحول الرأفة من إحساس إلى قرار متصل بالعناية والسيطرة الدقيقة على المصير، فتولد دراما الأخلاق الصغيرة في مطابخ البيوت وغرف الانتظار والشرفات. كما تقترح الافتتاحية مشهدا مؤسسا: راوية تقرأ كافكا وكلبتها على حافة الرحيل، حقنة نهاية تدبر بيد ثابتة وزاوية رؤية باردة تكفي لإنجاز الفعل من غير قسوة.
هذا البناء يتكرر على مدار النصوص القصصية ،ولكن بوجوه أخرى. في قصة "احتباس"، نجد الجسد ساحة تنظيم محكم بأدوية وجداول، وفي "العشاء الأخير" ثمة وداع هادئ يوزع حضور الأصدقاء وغيابهم، في حين أن "الوافدة الجديدة" اختبار هوية يطلب من العاطفة تعريفا لا عزاء، أما في "الطابور" فيتخذ الألم هندسة واضحة تقاس بقانون الوقوف الطويل.