عامان على "7 أكتوبر"... قراءة في الحسابات البرغماتية لمصر

اعتبارات واقعية

المجلة
المجلة

عامان على "7 أكتوبر"... قراءة في الحسابات البرغماتية لمصر

لم تُصدر القاهرة إدانة صريحة لحركة "حماس"، بل قدّمت الهجمات على أنها رد فلسطيني على السياسات الإسرائيلية العدوانية تجاه الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة.

وفي أول تعليق رسمي في اليوم ذاته، وصفت وزارة الخارجية المصرية ما جرى بأنه "رد فلسطيني" على الانتهاكات الإسرائيلية، في موقف يعكس إلى حد ما تعاطف مصر مع القضية الفلسطينية، دون أن يعني ذلك تأييدها لأساليب "حماس" أو للانزلاق نحو التصعيد، استنادا إلى تجارب الحروب السابقة بين غزة وإسرائيل.

لم تنبع معارضة مصر للتصعيد من موقف أخلاقي رافض للمقاومة الفلسطينية، بل من اعتبارات واقعية وحسابات برغماتية. وقد تجلّى ذلك في في تحذيراتها المسبقة لإسرائيل بشأن احتمال تنفيذ "حماس" عملية عسكرية، وهي تحذيرات أكّدتها مصادر مصرية وأميركية، رغم نفي مسؤولين إسرائيليين، في إشارة إلى الجهود التي بذلتها مصر مسبقا لتفادي اندلاع التصعيد.

وتكمن وراء رغبة مصر في تفادي المواجهة مخاوف عميقة من اتساع رقعة الصراع، تحرّكها اعتبارات أمنية وأيديولوجية واقتصادية واستراتيجية.

المخاوف الأمنية

عبّرت مصر مرارا عن قلقها من التصعيد وما قد يترتب عليه من زعزعة لاستقرار المنطقة وتداعيات إنسانية جسيمة.

وفي خضم هذه المخاوف، خشيت القاهرة بشكل خاص من الانزلاق إلى قلب الصراع، بما يحمله ذلك من تهديد مباشر لأمنها، لا سيما في شبه جزيرة سيناء، التي تتاخم كلا من قطاع غزة وإسرائيل. وتُبدي مصر قلقا بالغا إزاء احتمال امتداد الصراع إلى داخل أراضيها.

وقد تحققت هذه المخاوف مع اندلاع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي فجّرت ردا عسكريا إسرائيليا واسع النطاق أودى بحياة نحو 70 ألفا من سكان غزة، ودمّر معظم أرجاء القطاع، وشرّد ما يقارب 2.3 مليون فلسطيني داخليا حتى الآن، فاتحا الباب أمام خطر تهجيرهم خارج غزة.

وقد رفضت القاهرة مرارا أي سيناريو للتهجير الجماعي نحو سيناء، واعتبرته تهديدا صريحا لأمنها القومي.

وحذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرارا من أن تدفقا سكانيا بهذا الحجم قد يزعزع استقرار بلاده، التي تواجه أصلا أزمات اقتصادية وأمنية معقدة.

كما عبّر السيسي عن خشيته من أن يؤدي التهجير إلى تقويض معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979.

عبّر السيسي عن خشيته من أن يؤدي التهجير إلى تقويض معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979

وقد دفعت قضية التهجير العلاقات بين القاهرة وتل أبيب إلى حافة التوتر، وأدّت إلى قيام مصر بتعزيز وجودها العسكري والأمني في سيناء، وهو ما اعتبرته إسرائيل انتهاكا للملحق الأمني من اتفاقية السلام. كما شهدت العلاقات بين القاهرة وواشنطن توترا متزايدا، خاصة بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في فبراير/شباط من هذا العام نيته "تولي إدارة قطاع غزة" وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، داعيا مصر والأردن إلى استقبال لاجئي غزة.

أ.ف.ب
جنود يحرسون موقعا على الجانب المصري من معبر رفح الحدودي مع غزة في رفح في 18 أغسطس 2025

لطالما ناضلت مصر للحفاظ على سيادتها على سيناء، بداية ضد الاحتلال الإسرائيلي لتلك الأرض التي تتجاوز مساحتها مجتمعة مساحة غزة والضفة الغربية وإسرائيل ولبنان، ثم في مواجهة المسلحين المرتبطين بتنظيم الدولة الإسلامية.

وكان سيناريو التهجير يهدد بانتزاع تلك السيادة إلى الأبد، ولم تكن القاهرة مستعدة في أي حال من الأحوال للسماح بتحول هذا الاحتمال إلى واقع.

أيدولوجية "حماس"

أثار التصعيد الناتج عن هجمات السابع من أكتوبر مخاوف من استغلال الجماعات الجهادية في سيناء لحالة الفوضى، بما قد يعيد إلى الواجهة تهديدات المسلحين المنتمين إلى تنظيم "داعش"، الذين استهدفوا القوات المصرية لسنوات، وسعوا إلى إقامة خلافة إسلامية في هذه المنطقة الواقعة شمال شرقي البلاد.

وكان وجود حركة "حماس" في صلب هذا التصعيد مصدر قلق خاصة للقاهرة، بالنظر إلى العداء المتأصل بينها وبين الجماعة الحاكمة في غزة، التي تنظر إليها مصر على أنها امتداد أيديولوجي لجماعة الإخوان المسلمين.

وتُعدّ العلاقة بين "الإخوان" و"حماس" واحدة من أبرز نقاط التوتر الدائمة في تعامل القاهرة مع الحركة الفلسطينية. وكانت مصر قد حظرت جماعة "الإخوان" في عام 2013 ووصفتها بأنها تهديد داخلي.

ورغم دعم مصر للمقاومة الفلسطينية عموما، فإنها ظلّت تتحفّظ على الطابع المسلح لـ"حماس"، خاصة في ضوء هجمات سابقة، من بينها تفجيرات سيناء عام 2004، التي ارتبطت بجماعات محسوبة على "الإخوان"، واقتحام عناصر من "حماس" للحدود بين غزة وسيناء عام 2008.

تُعدّ العلاقة بين "الإخوان" و"حماس" واحدة من أبرز نقاط التوتر الدائمة في تعامل القاهرة مع الحركة الفلسطينية

وقد زادت هجمات أكتوبر من خطر تمكين أيديولوجيات مشابهة لتلك التي تتبناها "حماس"، ما دفع القاهرة إلى الضغط على الحركة للانخراط في مسارات سياسية بديلة.

وفي الوقت نفسه، عكست دعوات مصر المتكررة إلى وقف إطلاق النار رغبتها في كبح الزخم العسكري لـ"حماس"، دون أن تمس بالديناميكيات الفلسطينية الأخرى غير المرتبطة بالحركة، والتي ترى فيها القاهرة أداة لخدمة القضية الفلسطينية.

وتُصرّ مصر اليوم على استبعاد "حماس" من أي إدارة مستقبلية لقطاع غزة. وكانت قد اقترحت بداية تشكيل لجنة من التكنوقراط الفلسطينيين لتولي شؤون الحكم بعد الحرب، وهي تدعم الآن خطة الرئيس ترمب التي تنادي بغياب "حماس" عن المشهدين السياسي والإداري في غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية.

التداعيات الاقتصادية

فاقمت هجمات السابع من أكتوبر وما تبعها من حروب إقليمية الأعباء الاقتصادية التي تثقل كاهل مصر. وبما أن معبر رفح الحدودي في سيناء يُعد المنفذ الوحيد غير الإسرائيلي لقطاع غزة، فقد تحوّل إلى نقطة اختناق للمساعدات الإنسانية، حيث تولت القاهرة تنسيق عمليات إيصال الدعم في ظل الحصار المفروض على القطاع.

وقد فرض هذا الدور الإنساني ضغوطا إضافية على الموارد المصرية المحدودة أصلا، في وقت أثار فيه بعض المراقبين المحليين تساؤلات حول جدوى تخصيص الأموال لأزمة غزة بدلا من توجيهها إلى تلبية الحاجات الداخلية المتزايدة.

وتعرّض قطاع السياحة المصري، الذي يسهم بنسبة 13 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويؤمن فرص عمل لنحو 10.5 في المئة من القوى العاملة، لتهديد مباشر جراء الحرب، وسط مخاوف من أن تؤدي الاضطرابات الإقليمية إلى تراجع عدد الزوار القادمين إلى المواقع الأثرية في جنوب البلاد ومنتجعات البحر الأحمر مثل شرم الشيخ والغردقة. وقد شكّلت هذه المخاطر الاقتصادية الممتدة أحد دوافع مصر لمعارضة التصعيد.

أ.ف.ب
شاحنات محملة بالمساعدات لغزة، تنتظر على الجانب المصري من معبر رفح، 18 أغسطس 2025

في السياق ذاته، زادت تعقيدات الحرب واتساع رقعتها مع تورّط أطراف إقليمية مثل ميليشيا الحوثي في اليمن، من حدة المصاعب الاقتصادية المصرية. إذ أدّت الهجمات الحوثية على حركة الشحن التجاري في البحر الأحمر إلى تعطيل الخطوط الملاحية القريبة من قناة السويس، ما حرم البلاد من مصدر حيوي للعملات الأجنبية.

ووفقا لما أعلنته الحكومة المصرية، فقد تراجعت إيرادات قناة السويس بأكثر من 50 في المئة، وهو تراجع يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي ويدفع القاهرة إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، من بينها الاقتراض من المؤسسات الدولية وبيع أصول تملكها الدولة.

حل الدولتين

جاءت معارضة مصر الشديدة للتصعيد الذي أعقب هجمات السابع من أكتوبر مدفوعة أيضا بمخاوف من أن يُقوّض هذا التصعيد إمكانية إقامة دولة فلسطينية ضمن إطار حل الدولتين.

وفي أول تعليق له بعد أيام من الهجمات، وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نصيحة لسكان غزة بعدم مغادرة أرضهم، محذرا من أن أي مغادرة ستكون "بتذكرة ذهاب بلا عودة". ومن خلال هذا التحذير، عبّر السيسي عن خشيته من إفراغ غزة من سكانها، معتبرا أن الهجمات منحت حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة فرصة نادرة للقضاء نهائيا على حل الدولتين.

وقد تزامن ذلك مع توسّع إسرائيل في مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية، ووضع خطط لإعادة توطين غزة، وهي خطوات جعلت من إقامة دولة فلسطينية مستقلة أمرا شبه مستحيل.

وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نصيحة لسكان غزة بعدم مغادرة أرضهم، محذرا من أن أي مغادرة ستكون "بتذكرة ذهاب بلا عودة"

ويستند دعم مصر لحل الدولتين، القائم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل على حدود ما قبل عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إلى مزيج من الاعتبارات.
فباعتبارها فاعلا إقليميا رئيسا، ولها حدود مباشرة مع غزة، فضلا عن توقيعها أول معاهدة سلام عربية مع إسرائيل، ترى القاهرة في هذا الحل المسار الأكثر واقعية لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وضمان أمنها القومي، والتماهي مع أولوياتها على المستويين الداخلي والدولي.

وتعتبر مصر أن استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دون حل يشكّل أحد أبرز عوامل زعزعة استقرار المنطقة، وهو ما ينعكس تهديدا مباشرا على أمنها.

وإلى جانب التهديدات الأمنية والاقتصادية، عزّزت هجمات أكتوبر من مخاوف مصر بشأن التصفية النهائية لهذا الحل.

ومن خلال تمسكها بخيار الدولتين، تحافظ مصر على مصداقيتها أمام الحلفاء الغربيين والدول العربية، وتكرّس نفسها لاعبا محوريا في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، بما في ذلك أحدث جولات التفاوض التي استضافتها في منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر، والتي توصّل خلالها الطرفان إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار، يشمل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين (أحياء وأمواتا) وانسحابا تدريجيا للقوات الإسرائيلية من غزة، ضمن إطار خطة السلام التي طرحها الرئيس ترمب.

وتُعد هذه البنود جزءا من خطة ترمب المؤلفة من 20 نقطة بشأن غزة، غير أن مصر ترى في الخطة فرصة تمهّد الطريق لسلام إقليمي شامل، لا يمكن تحقيقه في نهاية المطاف دون قيام دولة فلسطينية وفق الأسس التي تتمسك بها.

font change

مقالات ذات صلة