الفيلم المصري "وفيها إيه يعني؟" يوازن بين النجاح التجاري والقيمة الفنية

تجربة تعيد إلى الأذهان "في شقة مصر الجديدة" لمحمد خان

Rasheedy Films
Rasheedy Films
ملصق فيلم "وفيها إيه يعني؟"

الفيلم المصري "وفيها إيه يعني؟" يوازن بين النجاح التجاري والقيمة الفنية

من آن إلى آخر، ينجح فيلم تجاري مصري، لا لأنه كوميدي، ولا لأنه من أفلام الميزانيات الضخمة، إنما فقط لأنه فيلم جيد، يترك مذاقا حلوا بعد المشاهدة. النجاح المقصود هنا ليس النجاح الدافئ أو العادي، ذلك الذي لا نحس به. إنما النجاح الكبير، الذي يرتبط بالتربع على عرش شباك التذاكر، وبتفاعل جماهير تتطوع هي نفسها لاحقا بالدعاية للفيلم، كأن تكتب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي توصي بعضها بعضا بالمشاهدة. إنه النجاح الذي يمكن أن يغير خريطة صناعة السينما، لأنه يمنح الناس فرصة حقيقية لانتخاب ما تريد، وبالتالي تصحيح البوصلة المتيبسة لصناع السينما.

"وفيها إيه يعني؟"، أحد هذه الأفلام. عرضه في نهاية موسم الصيف وعطلات الدراسة، يوحي ربما بأن منتجيه لم يتوقعوا هذا النجاح الكبير. لعلهم انتظروا نجاحا تجاريا دافئا. ولعل هذا التصور جاء في صالح الفيلم من الناحية التنفيذية. فلا أثر لاستعراض العضلات السينمائية، لا في الإخراج ولا في السيناريو، وخصوصا لا في الأداء التمثيلي. بساطة الفيلم، تجعله جذابا لمشاهدات متعددة، لا لمشاهدة واحدة فقط. ما يمنح الفيلم عمرا أطول، حين يبدأ عرضه على القنوات التلفزيونية والمنصات المتخصصة.

بصمة وجدانية

تأليف مصطفى عباس ومحمد أشرف ووليد المغازي، وبمشاركة دينا ماهر في كتابة الحوار، ومن إخراج عمر رشدي حامد في أول إخراج سينمائي له، يأتي "وفيها إيه يعني" ليقتبس شيئا من نور فيلم "في شقة مصر الجديدة" الذي عرض عام 2007، من تأليف وسام سليمان وإخراج محمد خان. الفيلم الذي ترك بصمة في وجدان من تفتح وعيهم على عرضه، يدور حول أحلام بطلته معلمة الموسيقى نجوى (غادة عادل) في حياة تراعي رقتها، وتصبح امتدادا طبيعيا لإيمانها بالموسيقى والفن. وإذا بغادة عادل، بعد ما يقارب الثمانية عشر عاما، تؤدي في "وفيها إيه يعني؟"، دور ليلى معلمة الرسم والفنانة التشكيلية في العقد الخامس تقريبا من عمرها، آمنت بالحب لكنه خذلها، وها هي تعود إلى بيتها الأول في مصر الجديدة، بعد انفصالها عن زوج غير محب، لتعيش مع والدتها السليطة اللسان لكن الحكيمة نجية (ميمي جمال). من شباكها هناك، تلتقي حبيبها الأول صلاح (ماجد الكدواني)، وقد عاد مؤقتا إلى شقته الأولى في مصر الجديدة، هو الذي صار أبا وجدا حتى، يدق قلبه مرة أخرى للحب القديم.

يحسن صناع "وفيها إيه يعني؟" إلى أنفسهم، حين لا يستغرقون في الحنين تحديدا إلى فيلم خان الجميل. إنهم يذكروننا به، لكنهم ينكبون أيضا على بناء هوية فيلمهم


أولئك الذين عاصروا العروض التجارية لفيلم "في شقة مصر الجديدة"، سيشعرون أن الزمن توقف، بالضبط مثل صلاح حين وقعت عينه على حبيبته. ربما يحسون حتى أنهم انتظروا غادة عادل، طوال تلك الأعوام، حتى تطل مجددا، كما أطلت مع المبدع محمد خان، ولو أنهم لم يعرفوا بهذا الانتظار. مع ذلك، لا يبدأ "وفيها يعني؟" من عند ليلى، أو حكاية الحب القديم. إنما من حياة صلاح مع ابنته ندى (أسماء جلال) المصابة بكل أشكال القلق والوساوس القهرية. هي التي تتحكم به، وبزوجها علاء (مصطفى غريب)، وابنتهما أمينة (ريتال عبد العزيز)، فتمنعهما عن الطعام سوى الصحي منه، والنزهات سوى الرياضية، وحضور الأفراح الشعبية. وكل ما نراهم يطاوعونها في الامتناع عنه ظاهريا، ويمارسونه جميعا في السر.

يبدأ الفيلم من هذا القلق، ثم ينتقل متكئا على مواقف كوميدية، إلى الحياة في شقة مصر الجديدة - وهي هنا تتحول الى مجاز عن ماض يستحق الحنين – وإلى انبعاث قصة حب تخضع لشروط الزمان والمكان الجديدين. في الواقع، يحسن صناع "وفيها إيه يعني؟" إلى أنفسهم،  حين لا يستغرقون في الحنين تحديدا إلى فيلم خان الجميل. إنهم يذكروننا به، لكنهم ينكبون أيضا على بناء هوية فيلمهم، وينبغي أن يساير روح هذا العصر وشروطه.

Imdb
غادة عادل، خالد أبو النجا، وأيمن صلاح في فيلم "في شقة مصر الجديدة"

النص السينمائي

أحد عوامل قوة السيناريو هنا، هو استيعابه روح هذا العصر السريع، وقدرته على نقدها أيضا. تمثل شخصية ندى، الابنة القلقة، النموذج المثالي للمرأة العصرية. إنها الشابة الناجحة كزوجة وأم وابنة. لديها شروط لكل شيء، ولا تتخلى بسهولة عن معاييرها للحياة الصحيحة. تضع خططا طويلة الأجل، تبدو ناجحة نظريا. إنها أيضا الوفية التي تلخص في جملة حوارية ذكية كل مخاوفها: "المفروض لما اللي بنحبهم يمشوا حياتنا تقف". إن القلق المستمر، أو الخوف، أحد شروط عصرنا الحالي الذي تفوق على السرعة وانتقل إلى الخفة التي لا تحتمل، وسيطرة الذكاء الاصطناعي.

Rasheedy Films
من فيلم "وفيها إيه يعني؟"

يمنح الفيلم شخصية ندى مساحة لإضحاكنا، على أنفسنا اليوم قبل أي شخص، نحن المهووسين بالإنجاز والركض الذهني بين الواجبات، ثم الركض الحقيقي في ماراثون يثبت لنا صحتنا وبالتالي كمالنا مقارنتنا بالآخرين. تجسد ندى الجانب المسيطر على شخصية صلاح، جانب الخوف، والاطمئنان إلى حياة الدعة والرفاهية كما يوفرها العصر الجديد، مع أنها تخدر في النهاية الشعور. لهذا تبدو عودة صلاح إلى حي مصر الجديدة، عودة إلى الجانب الأكثر حيوية من شخصيته. الجانب الأكثر أصالة لكن هشاشة كذلك، الذي لا يعرف السعادة بمعيار زمننا، بما تنطوي عليه من جانب استعراضي.

لا يحكم "وفيها إيه يعني؟" على أبطاله بل يشرح ببساطة هذا الصراع في شخصيات أبطاله، بين نصفي الحب والخوف


إلى هذا، لا يحكم "وفيها إيه يعني؟" على أبطاله، لا الابنة القلقة، لأن مرد قلقها صدمتها حين فقدت أمها وهي لا تزال طفلة. ولا بطله صلاح الذي أضاع حبه القديم، كي يذهب لبناء مستقبله، معتقدا أنه يفعل الصواب. بل يشرح ببساطة هذا الصراع في شخصيات أبطاله، بين نصفي الحب والخوف.

Rasheedy Films
مشهد من فيلم "وفيها إيه يعني؟"

رسائل "أبلة تهاني"

أما قصة ليلى، فحكايتها كأنما هي فيلم داخل الفيلم. إنها بمعنى ما نجوى، بطلة محمد خان، الشابة التي حفظت رسائل أبلة تهاني معلمتها الغائبة، وتحثها على تصديق الفن والحب. وهي لم تتخل عن هذه القناعات، إنما تخلت عنها هذه القناعات. ليلى الخمسينية اليوم لا تزال تحتفظ بصلتها بالفن، ومهمتها كمعلمة رسم للأطفال تجدد بحثها عن الدهشة. وقد احتفظت من عالم خان بالبراءة، التي تجعلها أشد استعدادا لتصديق فكرة الحب القديم في مقابل تردد صلاح بين عالمين. إنها تستحق اعتذار الحياة عن خذلانها في السابق.

Rasheedy Films
أحد مشاهد "وفيها إيه يعني؟"

توزيع الإضاءة في الفيلم، وينسب الى مدير التصوير أحمد جبر، يبرز في أكثر من مشهد خلسة وعلنا هذا الدور المنير الذي تلعبه ليلى، لا سيما في حياة صلاح. مثلا إضاءة وجهها حين تتصالح مع صلاح نفسيا، وهو يصلح لها شباك المطبخ. الإضاءة التي تحاكي ضوء النهار على وجهها، كأنها تحرض المتفرج على الإيمان بأنها شمس هذا العالم الجديد الذي ينادي البطل. غادة عادل الممثلة، تذكر مخرجي ومنتجي وحتى كتاب السينما اليوم، بأنها طاقة كبيرة، لا تزال غير مكتشفة بالكامل.

مع ذلك، لا يمكن سوى القول بأن جميع الممثلين في الفيلم أدوا أدوارهم بطريقة السهل الممتنع، من غير أن يشعر أحد بتفوقه على الآخرين. وراء هذا بالتأكيد رؤية المخرج وقيادته الذكية لفريق ممثليه، وفي مقدمتهم بالطبع ماجد الكدواني، مع أنه البطل نظريا للفيلم. على الملصق يلتف حوله الجميع. وبالنسبة إلى السيناريو هو الشخصية الأساس. إنه حين يطل على الشاشة يجلب معه السكينة والطيبة، التي تتسم بها شخصية صلاح.

لكن هل هذا يعني أن الفيلم خال من العيوب؟ أو أنه عمل مكتمل؟

Rasheedy Films
من"وفيها إيه يعني؟"

عيوب تغتفر

في بعض اللحظات بدت الموسيقى المصاحبة لخالد حماد، مثلا أعلى من حوار الممثلين، وكان دخولها زاعقا، لا سيما في الجزء الأول من الفيلم. كما الفيلم احتاج إلى قرارات مونتاجية أكثر حسما مما رأيناه فعلا على الشاشة. بعيدا من الحسابات التجارية، كان يمكن مثلا التخلي عن كل ما يتعلق بظهور المطرب أحمد سعد، بأغنيته وفقرتها الشعبية. لأن أغنية حميد الشاعري في الجزء الثاني من الفيلم "نسرح في زمان"، تخدم أكثر الحالة الوجدانية. كما أن الشاعري، مطرب يثير الحنين إلى زمن غنائي آخر، كان أقل صخبا واستعراضية من الزمن الذي يعبر عنه أحمد سعد. إنه فقط الاعتقاد السائد بأن أغنياته تميمة نجاح تجاري للأفلام. مع أن نجاح "وفيها إيه يعني؟" يرجع إلى أسباب أهم بكثير، من هذا التصور السطحي.

نجاح الفيلم يقول إن السينما المصرية قادرة على التخلص من هذا الركود الذي تعاني منه أفلامها منذ أعوام


لا يعني هذا أن الفيلم يعيش في الماضي، أو أنه أسير حالة الحنين. على العكس يحرص السيناريو، على تمثيل أربعة أجيال، وفقا لما يسمح به زمن الفيلم السينمائي. صحيح كان يمكن التوسع أكثر في حكاية ليلى، أو استكشافها بشكل مواز لحكاية صلاح. إلا أن "وفيها إيه يعني" يملك هذه الميزة، التي تجعلنا نرى هفواته الفنية، لكننا لا نستطيع سوى أن نتسامح معها. لقد منحنا كل شيء الأمل والحنين ومتعة المشاهدة. الفيلم الذي ينتصر للحب في كل زمن، يقول نجاحه إن السينما المصرية قادرة على التخلص من هذا الركود الذي تعاني منه أفلامها منذ أعوام، و'ن الجمهور العربي لا يزال ينتظرها ويراهن عليها.  

font change

مقالات ذات صلة