رائدة الفن الهندي أربيتا سينغ تحمل ذكرياتها إلى لندن

معرض استعادي في "قاعة سربنتين"

Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
أرپيتا سينغ، معرض "تذكُّر"، قاعة "سربنتين"، لندن

رائدة الفن الهندي أربيتا سينغ تحمل ذكرياتها إلى لندن

"التذكر" هو عنوان المعرض الذي تقيمه "قاعة سربنتين" في جزئها الشمالي الذي يقع عند حدود حدائق "هايد بارك" بلندن للرسامة الهندية أربيتا سينغ التي لخصت رؤيتها في هذه التجربة بجملة اختارتها القاعة لتكون مدخلا الى هذا السفر العجيب الذي لا يخلو من منحى سوريالي في عادات وتقاليد وطقوس العائلة الهندية في حياتها اليومية. تقول سينغ: "يستمد المعرض من ذكريات قديمة انبثقت منها هذه الأعمال. سواء أدركت ذلك أم لا، هناك شيء ما يحدث في صميم حياتي. إنه يجسد كيف تتدفق تلك الحياة".

ومن المفاجئ أن "التذكر" هو أول معرض فردي تقيمه الفنانة المولودة عام 1937 في با ناغار التي تعرف اليوم بولاية البنغال خارج الهند. لذلك كان من الطبيعي أن يضم أعمالا فنية رئيسة مختارة من مختلف مراحل مسيرتها الفنية التي امتدت لأكثر من ستة عقود.

هو معرض استعادي لرسامة زاوجت ما بين حياتها الشخصية بكل منعطفاتها العاطفية النفسية وبين أسلوبها الذي تستلهم من خلاله الفن الشعبي البنغالي والقصص الهندية، ناهيك بالتأثير المباشر الذي مارسته الاضطرابات والحروب على حياة الناس العاديين الذين سعت الرسامة إلى أن تحولهم في رسومها إلى شخصيات تشف عن قوة خيالَي المكان والزمان على طريقة، تذكر أحيانا بتجربة الرسام الروسي ـ الفرنسي مارك شاغال الذي استلهم مرويات الكتب الدينية.

بتقنيات حديثة، قدمت ما لا نعرفه عن الهند، وهي لا توثق حياة الناس العاديين إلا باعتبارها نوعا من التمهيد لولادة علاقة بالعالم الخارجي


قبل أن أرى لوحات سينغ، كنت توقعت أني سأرى فنا هنديا. لا على مستوى الاستلهام المباشر للتواتر الشكلي الذي يعبر من خلاله الهنود طواعية عن شخصيتهم فحسب، بل وأيضا على مستوى تماهي الجانبين الحسي والروحي بحيث يتمكن المرء، حين يرى شيئا، من أن يشم رائحته ويسمع صوته ويتذوق نكهته ويلمس بشرته. أما حين رأيت المعرض فقد تأكدت من أن الرسامة تفوقت على توقعاتي من جهة عمق انتمائها إلى هويتها الهندية. 

Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
أرپيتا سينغ، معرض "تذكُّر"، قاعة "سربنتين"، لندن

لا يحدث إلا في الهند

بغض النظر عن سماتها الأسلوبية، تشخيصية أكانت أم تجريدية، سوريالية أم تعبيرية، وسواء رسمت بالزيت لوحات كبيرة أم أنجزت بالأصباغ المائية والحبر لوحات ورقية صغيرة، فإن إلهامها ظل هنديا مائة في المائة. سأعتبره مثلما سيعتبره غيري هذيانا حلميا هنديا. تحتل موضوعات الأمومة في مختلف مراحلها والأنثى في مواجهة تقدمها في السن وطريقة تعبير المرأة حسيا عن أنوثتها، إضافة إلى العنف الذي تشبع به المحيط، الحيز الأكبر من المعرض. ما نراه في المعرض لا يقع إلا في الهند. أربيتا سينغ تبدع فنا يمكن القبول به في العالم، لا لأنه يقدم تجربة تختزل الهند في لوحات، فليس هناك شيء من الفولكلور، بل لأن سينغ فنانة حديثة بكل المعاني، على الرغم من أنها حافظت على ملامح هويتها الهندية. بتقنيات حديثة، قدمت ما لا نعرفه عن الهند، وهي لا توثق حياة الناس العاديين إلا باعتبارها نوعا من التمهيد لولادة علاقة بالعالم الخارجي لا تمت إلى السينما الهندية بصلة، ذلك لأنها تقدم الحقيقة على الواقع.

Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
أرپيتا سينغ، معرض "تذكُّر"، قاعة "سربنتين"، لندن

في لوحات سينغ يتمكن المرء من الذهاب إلى عمق المشكلات التي تحمل المرأة مفاتيحها. تحرص على أن تكون فنانة حديثة بالمعنى الغربي من خلال معالجاتها الشكلية والتقنية، غير أنها في الوقت نفسه لا تتنازل عن هنديتها. بالنسبة إلى الهنود، ليست هناك مشكلة. هناك فن هندي في مقابل الفن الأوروبي. لا ترغب أربيتا سينغ أصلا في الانتماء إلى الفن الأوروبي، بدليل أنها لم تسع إلى إقامة معرض شخصي لها في أوروبا على الرغم من أن الهنود يشكلون اليوم جزءا حيويا من الحياة في بريطانيا. 

حياة منزلية على حافة العالم

تتذكر أربيتا سينغ، كل ما تفعله أنها تتذكر. لكن ذكرياتها تحضر على سطح لوحاتها على هيئة شذرات متباعدة لا يجمع بينها إلا خيال شعري يقع تحت السطح. لغته هي الخيط الذي يخترق تلك الشذرات البصرية ليلتقطها من عزلتها ويشكل منها كيانا موحدا.

Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
أرپيتا سينغ

من الصعب على الرسام أن يخلق تلك الوحدة الموضوعية من خلال مفردات، كل واحدة منها تملك طاقة عاطفية مكتفية بعزلتها، إلا إذا كان عاش التجربة مرتين. مرة في الحياة المباشرة ومرة أخرى وهو يتخيل وقوعها. ذلك ما فعلته سينغ وهي تستدرج متلقي أعمالها إلى عالم كثيف في أحداثه، عميق في دلالته الرمزية.

لوحاتها تمزج تفاصيل الحياة المنزلية وما تعيشه المرأة من انفعالات وما تتخذه من مواقف وهي تواجه ضغوط العالم وتحدياته

ذكريات الفنانة مزيج من المرويات والوقائع، من الأحداث التاريخية المقلقة ومن مشاهد القرى والمدن، وهذا ما مكنها من الجمع بين تفاصيل الحياة المنزلية وما تعيشه المرأة من انفعالات وما تتخذه من مواقف، وهي تواجه ضغوط العالم الخارجي وتحدياته.

وإذا كانت سينغ ألقت نظرة شمولية موسعة (بانورامية) على محيطها، فإن تلك النظرة ما كان لها أن تحتوي الواقع إلا لأنها انطلقت من نسيج الحياة اليومية التي تعيشها المرأة في الهند بعين صبورة تسجل ملاحظاتها، مرة برضا ومرات بغضب. وما يبدو من نعومة ورقة وانسجام في أسلوب سينغ الفني، لا يخفي حقيقة التجارب الخشنة التي تمر بها النساء، غير أن ما يبهر في تلك الثنائية أن الفنانة أضفت على ما رسمته طابعا حلميا، بدت الحياة معه أشبه بكتاب.

Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
أرپيتا سينغ، معرض "تذكُّر"، قاعة "سربنتين"، لندن

لا جمال من غير المرأة

في سيرة أربيتا سينغ، أنها انتقلت إلى نيودلهي مع عائلتها عام 1946 حيث عاشت وعملت منذ ذلك الحين، وحققت ريادتها بعد الاستقلال، وأثرت في أجيال من الفنانين والمفكرين والمبدعين. بعد تخرجها في الفنون الجميلة في كلية دلهي التقنية عام 1959، عملت مصممة نسيج في مركز خدمة النساجين، التابع لمجلس النول اليدوي في الهند.

Jo Underhi/ Courtesy Arpita Singh and Serpentine.
أرپيتا سينغ، معرض "تذكُّر"، قاعة "سربنتين"، لندن

واجهت الفنانة، بفكرتها عن أهمية الدور الذي تلعبه المرأة في إدارة المجتمع تربية وتنمية وإنتاجا، عالما يميل إلى الفوضى والعنف وتكريس الفقر من خلال تجميد الطبقات على أساس ديني، طائفي. ولم تكتف برسم النساء. لم يكن ذلك محور سؤالها الوجودي. لذلك فإنها رسمت رجالا لكن بطريقة ساخرة من وجودهم السكوني الذي يتميز بسلبيته. حتى في استعراض موقفها من الحرب التي تحتل حيزا مهما في عالمها، فإن ما يتجلى ليس سوى انهيار ذكوري أمام هزيمة الشعارات والمفاهيم المؤقتة.

ليست أربيتا سينغ رسامة نسوية بالمعنى الضيق، فهي رسامة حياة شاملة. غير أنها لا تخفي انحيازها حين يتعلق الأمر بالأمومة والأنوثة. لا تتعلق المسألة بالموضوع بقدر ما تنطوي عليه من إلهام فني. ما أن تظهر المرأة في لوحات سينغ ورسومها الورقية، حتى يزدهر العالم الهش برقة استثنائية، كأن الفنانة تقول "لا جمال في هذا العالم من غير المرأة".

Vadehra-Art-Gallery
أرپيتا سينغ، "مدينتي المصاصة: برج الجوزاء الصاعد "، 2005.

هذيان الأحلام الجميلة

سينغ رسامة تجريدية أيضا. ذلك ما طبع تجربتها في السنوات العشرين الأخيرة. رسومها التجريدية عبارة عن ضربات فرشاة تصنع بقعا تترك فيها خطوطها المتقطعة بصمتها الشخصية، غير أن تلك الرسوم لا تخلو من إشارات إلى الحرب والصراعات الداخلية من خلال كلمات وجمل تبدو ملصقة بطريقة الكولاج، غير أنها في حقيقتها تعبر عن خيال يذهب بفتنته إلى الملاحم الهندية.

يقول الناس إن عملي أشبه بالحلم لأنه ليس ما اعتادوا رؤيته في الحياة الواقعية. لكن بالنسبة إلي، إنه حقيقي جدا


 ذلك ما يمكن اعتباره محاولة من الفنانة لصنع مخيلة جديدة عنوانها "الهذيان". تكمل بلوحاتها التجريدية مسيرتها في النبش في الذاكرة. هناك حيث تتداخل الجوانب السياسية والشخصية والاجتماعية والأسرية في ماضٍ واحد كبير. تقول الرسامة: "يقول الناس إن عملي أشبه بالحلم لأنه ليس ما اعتادوا رؤيته في الحياة الواقعية. لكن بالنسبة إلي، إنه حقيقي جدا. أنا أخلق المشكلة وأحلها، هذا هو نشاطي المباشر".

font change

مقالات ذات صلة