10 سنوات على رحيل راوي القاهرة جمال الغيطاني

من مراسل حربي إلى شغوف بالتراث والسرد العربي القديم

Marwan Naamani / AFP
Marwan Naamani / AFP
الكاتب المصري جمال الغيطاني في مكتبه

10 سنوات على رحيل راوي القاهرة جمال الغيطاني

جاء الروائي المصري الراحل جمال الغيطاني (1945-2015)، الذي تصادف اليوم ذكرى وفاته العاشرة، من قرية جهينة بصعيد مصر إلى قلب القاهرة القديمة، حيث الدروب العتيقة والحكايات الآسرة. نشأ وتربى في حي الجمالية، وتعرف الى أزقتها وحاراتها وآثارها، حيث مركز وروح قصص نجيب محفوظ ومسارات شخصياته وعالمه. لذلك لم يكن غريبا أن يكون واحدا من تلاميذه. تشرب جمال الغيطاني ذلك المزاج القاهري الشديد الفرادة والخصوصية. كان من أسرة بسيطة وسعى إلى مساعدة والده فالتحق بالثانوية الفنية، وتخصص في تصميم السجاد الشرقي والصباغة، حتى أصبح مفتشا على مصانع السجاد وواحدا من خبرائه في مصر والشرق الأوسط.

منذ أن تعلم القراءة في المدارس الابتدائية الأثرية، لفت نظره ذلك العالم القديم، حيث دكاكين الكتب وحانات الوراقين المنتشرة في الحسين والأزهر وما تحويه من مؤلفات لأمهات الكتب. وما إن حصل على الشهادة الإعدادية حتى بدأ يتردد على دار الكتب التي كانت قريبة من منزله، يمشي إليها ويمضي هناك ساعات بين الكتب. كان شغفه الأساس كتب التراث، لا سيما الملاحم والسير الشعبية، بالإضافة إلى كتب التراجم والأخبار، والكتب التي تناولت تاريخ القاهرة مثل "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي و"بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس. أسرته تلك الكتب بتفاصيلها وعالمها، فسعى لأن يكتب على نسيجها.

البداية من أدب الحرب

قادته أولى مجموعاته القصصية، "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، التي أصدرها على نفقته الخاصة عام 1969 إلى دخول عالم الصحافة والأدب في الوقت نفسه، فقد احتفى بها كبار النقاد وكتبوا عنها، واعتبروها مجموعة تشير إلى موهبة أدبية واعدة، تناول الغيطاني فيها هزيمة يونيو 1967 بشكل مختلف، واعتمد على أسلوب ابن إياس في عرض وتحليل تلك الهزيمة، بطريقة ماذا لو كان ابن إياس موجودأ بيننا وحكى عن هذه الهزيمة، وسمى إسرائيل بالدويلة الصغيرة التي استطاعت أن تهزم قوى كبرى.

وفي تلك الفترة، طلب الناقد الكبير محمود امين العالم من جمال الغيطاني حينها أن يلتحق بـ"أخبار اليوم"، فكانت بداية عمله في الصحافة، وعمل مراسلا حربيا، وقد أثر ذلك عليه أدبيا، إذ كتب على أثره عددا من القصص القصيرة والأعمال الروائية التي تناولت حرب أكتوبر 1973 وما قبلها، فكتب "الرفاعي" التي كانت أول تأريخ وتركيز على سيرة القائد إبراهيم الرفاعي قائد المجموعة 39 الذي شارك في حروب الاستنزاف حتى قتل في 19 أكتوبر 1973، ويرصد الغيطاني من خلال الرواية دوره القيادي في الحرب، وكيف كان محفزا للجنود على مواصلة القتال حتى تحرير سيناء كاملة.

لم يكتف الغيطاني بما كتبه من قصص عن الحرب، بل اهتم بتوثيق عدد من المعارك والأخبار التي لم يلتفت إليها المحررون العسكريون


لم تكن "الرفاعي" وحدها الرواية التي تناولت الحرب عند الغيطاني، بل كتب أيضا عددا من المجموعات القصصية التي التقطت بعض حكايات الحرب، منها مجموعة "أرض أرض" التي كتب أكثر قصصها قبل حرب 1973، وتناول فيها بعضا من تفاصيل عمليات معارك الاستنزاف في مصر من بورسعيد إلى السويس وسيناء، ولهذا اعتبرها الكثيرون خير شاهد على أدب الحرب ومقاومة النكسة بالكتابة الأدبية المعبرة عن وجدان المجتمع بصدق وشفافية. كذلك جاءت مجموعة "حكايات الغريب" التي يتناول فيها مقاومة أبناء السويس ضد العدوان الإسرائيلي بعد حرب 1973 في ما عرف بالثغرة، من خلال عدد من القصص المتصلة المنفصلة، التي بدا في بنائها وتفاصيلها اعتماده على أسلوب التقرير الصحافي في الكتابة، ولكن يتخلل ذلك التقرير بعض التعبيرات والإشارات الأدبية الدالة التي تعبر عن نفسية شخصياته أبطال العمل من الجنود في ميدان الحرب. ينتقل كذلك إلى التعبير عن ردود أفعال فئات مختلفة من المجتمع المصري أثناء الحرب، فيتحدث عن زوجة القائد وأبنائه وكيف كانوا يتعاملون معه، وكيف تناقلوا أخبار خط سير المعركة، كما يلتقط عددا من الأخبار المتفرقة لمعارك أخرى صغيرة أو حوادث ربما كانت عابرة، ولكنها لا تزال مؤثرة في نفوس وطبائع كل من عاشوا تلك الفترة العصيبة من التاريخ.

غلاف المجموعة القصصية "حكايات الغريب"

لم يكتف الغيطاني بما كتبه من قصص عن الحرب، بل اهتم بتوثيق عدد من المعارك والأخبار التي لم يلتفت إليها المحررون العسكريون، فأصدر عام 1975 كتابين، يرصد في الأول "حراس البوابة الشرقية"، دور القوات العراقية وإسهاماتها الفعالة في حرب أكتوبر، وفي الثاني "المصريون والحرب"، عددا آخر من المشاهدات والحكايات والتقارير الصحافية والأخبار بعين الصحافي وحساسية الأديب، وهو في كل ذلك يسعى  للربط بين الماضي والحاضر ويتناول عددا من أخبار علاقة المصريين بالحروب منذ الدولة القديمة مرورا بالمماليك والعثمانيين وصولا الى العصر الحاضر، وكيف نشأت علاقة الشعب المصري بالجيش الوطني وكيف أثرت فيه طوال الوقت، ويتنقل ببساطة بين الزمان والمكان ليعبر في كل ذلك عن روح الأمة العربية على امتدادها، وكيف اتحدت في مواجهة العدوان.

استعادة الرواية التاريخية العربية

عرفت الرواية التاريخية باستعادة الأمجاد والبطولات العربية القديمة، فكتب الكثيرون عن القادة والزعماء، سواء من العرب أو قدماء المصريين، ولكن الحال اختلف والرؤية تغيرت، لا سيما بعد هزيمة المشروع القومي وما عاشه جيل الستينات في مصر من إحباطات، لذلك تغيرت رؤية وتناول التاريخ عند الكتاب والأدباء، بل إن  الغيطاني عانى مثل كثر من كتاب جيله في فترة الستينات، خاصة من انتموا إلى اليسار، من تجربة القمع والاعتقال، ولارتباطه الوثيق بالتاريخ أخذ يبحث عن الفترة التي يمكن أن تماثل تلك المرحلة التي كان المصريون يعيشونها في تلك الفترة، ووجد ضالته في آخر فترة من حكم المماليك وما كان بينهم من صراعات أدت إلى هزيمتهم الكبرى في مرج دابق عام 1517.

غلاف رواية "الزيني بركات"

رأى الغيطاني أن تلك الهزيمة تشبه ما حدث في نكسة يونيو 1967، فكانت روايته الأولى "الزيني بركات" التي صدرت في 1975 وعدت واحدة من أبرز وأهم الروايات العربية، بل وأصبحت علامة على أدب الغيطاني بعد ذلك، وفيها يقتفي أثر الزيني بركات، كبير البصاصين في ذلك العصر (وهو ما يوازي المباحث أو المخابرات العامة)، وكيف سيطر على الناس بقمعه وطريقة استبداده، وكيف كان حال المصريين معه في تلك الفترة الحاسمة. واستطاع الغيطاني من خلالها أن يرسم صورة واقعية كاملة للبيئة القاهرية في ذلك العصر، وأن يتمثل لغة الناس وطريقتهم، ويقيم عملا روائيا متماسكا ومهما يمزج بين الأدب والسياسة ويكشف عن جوانب المجتمع بذكاء، ويبقى في النهاية نموذجا يقتدى به بعد سنوات، وعلامة فارقة على الرواية التاريخية العربية.

قدم في "الزيني بركات" عملا روائيا متماسكا يمزج بين الأدب والسياسة ويكشف عن جوانب المجتمع بذكاء، ليبقى نموذجا يقتدى به بعد سنوات، وعلامة فارقة على الرواية التاريخية العربية


تواصل الإنتاج الروائي للغيطاني بعد ذلك، وكان واضحا حرصه على الاستفادة من كنوز التراث العربي وآثاره، فأصدر في عام 1983روايته الكبرى "التجليات" (التي تتجاوز صفحاتها 800 صفحة) وكانت حدثا فارقا في مسيرة الرواية العربية في ذلك الوقت وأحدثت صدى كبيرا، خاصة لما ظهر فيها من قدرته الفنية على استلهام الثقافة العربية والصوفية، واعتماده على العديد من أساليب الكتابة العربية القديمة بطريقة جعلت الرواية فيها أكثر انتماء لتراثها العربي وبعدا عن النمط الغربي السائد في كتابة الرواية.

في هذه الرواية يسرد الغيطاني بأسلوبه الشيق أطرافا من سيرة حياته والشخصيات التي أثرت في تكوينه الأدبي والفكري والفلسفي، من الحسين عليه السلام حتى ابن عربي وصولا إلى جمال عبد الناصر. ويلاحظ في هذه الرواية استخدام الغيطاني للتصوف كوسيلة لإسقاط حالته الشخصية ومواقفه من المجتمع والنظام في تلك الفترة على شخصيات روايته، وتلك الصراعات التي كانت تقوم في نفسه بين الداخل والخارج، والتي نجد بعضا منها لدى حديثه عن ابن عربي، وفي التناص الواضح مع كتاباته في "الفتوحات المكية" على وجه التحديد، واستطاع من خلالها أن يقدم عملا روائيا فريدا يجمع بين الخيال ويأخذ الكثير من الواقع، ويستلهم الموروث الفكري والأدبي للتراث العربي الإسلامي بشكل عام.

من التاريخ إلى محاولات كشف الواقع

كان التحاق الغيطاني بالصحافة في فترة مبكرة من حياته فرصة للتعرف والاطلاع على الكثير من الخبايا والأسرار الخاصة بالعمل الصحافي في مصر، وبدا له بعد أن تكرس اسمه كواحد من أهم الأدباء المصريين، أن يكشف عن فساد بعض تلك المؤسسات التي اقترب منها، من هنا جاءت روايتاه "حكايات المؤسسة" 1997 ثم "حكايات الخبيئة" في 2001 وما بعدها، حيث يبدو الغيطاني أكثر قربا لتحويل الحكايات الواقعية إلى أساطير، فيدرك القارئ ارتباطها بالواقع من خلال التفاصيل الخاصة بحديثه عن القاهرة والتراتب الطبقي فيها.

Joseph Barrak / AFP
الصفحات الأولى للصحف اللبنانية باللغتين العربية والإنكليزية تتصدرها أنباء مجزرة الأقصر في مصر التي أودت بحياة 58 سائحا أجنبيا، 18 نوفمبر 1997

يتناول في الروايتين حديثه عن "المؤسسة" منذ بدأت وما مرت به من تغيرات وتحولات، ولا يسميها، ولكن يبدو واضحا تناوله المؤسسة الصحافية، وإن كان حديثه العام يمكن أن ينسحب على العديد من المؤسسات الحكومية وما يدور فيها من فساد بين سلطة عليا تمارس كل السيطرة وعاملين موظفين في المكان يستخدم بعضهم لتحقيق مصلحة أصحاب السلطة العليا، فيما يسعى نفر قليل إلى كشف الحقيقة ومحاولة رد الحقوق الى أصحابها.

كتابة اليوميات وأدب الرحلات

بين هذا وذاك يحلو للغيطاني أيضا أن يتأمل أحواله الشخصية ويدور بين الماضي والحاضرة وبين ذكرياته وأفكاره ويحرص على كتابة كل ذلك بأسلوبه الشيق، بل ويفرد لهذه الكتابة عددا من الكتب التي سماها "دفاتر التدوين" التي يبدو فيها شعوره الشديد بمرور الزمن وضرورة التوقف لتدوين ما مضى من ذكريات ومواقف وأحداث. جاءت هذه الدفاتر في سبعة أجزاء، يبدو حضور اللغة التراثية واضحا في عناوينها، إذ يبدأها بـ"خلسات الكرى" التي يتناول فيها حضور الأنثى في عالمه منذ الطفولة والشباب حتى تنقله بين البلدان ومن عرفها منهن أثناء رحلاته وأسفاره، والثاني "دنى فتدلى" وتذكره لصولاته وجولاته في عوالم النساء التي يسميها "رشحات الحمراء"، وغيرها من الدفاتر، التي يلاحظ فيها تعمده تجاوز فكرة النوع الأدبي بين الرواية والقصة والسيرة الذاتية، فيكتب هذه التدوينات بأسلوب بلاغي متقن ونجد فيها صدى لعلاقاته بالآخرين من خلال أسمائم وصفاتهم والأماكن التي زارها.

غلاف كتاب "الطريق الى الجهات الأصلية"

كما يسجل الغيطاني يومياته أيضا، لكي يحكي عما يمر به في أيامه العادية، والتي لا تبدو للقراء عادية بحال من الأحوال، ويخصص لها طائفة من كتبه يسميها "يومياتي المعلنة"، وتأتي تحت عناوين مثل "آفاق الذاكرة"، "مجرات الروح"، ورحلته عن الحج التي سماها "حمام الحمى"، وغيرها من كتب اليوميات التي بدا فيها تخففه من اللغة التراثية في التفاصيل، وغرامه بالحكاية المرسلة كما يشاء، ربما لا تربط بين الحكاية وما يليها إلا رغبته الخاصة في سردها، والقارئ يكتشف عنده متعة مختلفة هنا ومهارة خاصة في التقاط التفاصيل واستحضارها والتعليق على المواقف والأخبار.

في كتب اليوميات بدا متخففا من اللغة التراثية، مغرما بالحكاية المرسلة، فلا تربط بين الحكاية وما يليها إلا رغبته الخاصة في سردها

وعلى طريقة القدماء أيضا خص الغيطاني الرحلات والأسفار بعدد من الكتب، فوجدنا عنده "مقاصد الأسفار" الذي يتناول فيه عددا من رحلاته في بلاد الشرق والغرب بأسلوبه اللغوي الشيق، وكيف كان يهتم باستكشاف الأماكن وأسرارها والتعرف الى أخبارها بنفسه بعيدا من توجيهات دليل الرحلة أو منظميها، من واشنطن وألمانيا غربا إلى سلوفاكيا والصين وصولا إلى مراكش. بين كل مدينة من تلك المدن يتوقف ليرصد آثار الناس والأماكن، ويعرف القارئ الى العديد من أخبار الناس هناك،.كذلك كتب عن أميركا بشكل خاص كتاب "مدينة الغرباء .. مطالع نيويوركية"، يحكي فيه رحلته هناك أثناء زيارته لابنه ويرصد مشاهداته في الأعوام من 2006 حتى 2009، يحكي فيها شجونه حول تلك الحياة المختلفة التي شعر فيها بالغربة منذ الليلة الأولى. كما يعرض لمقابلات عدد من أصدقائه العرب والمصريين المقيمين هناك وكيف اختلفت نظرتهم الى الحياة عن نظرته، كل ذلك بأسلوب أدبي رشيق.

Marwan Naamani / AFP
الكاتب المصري جمال الغيطاني والممثلة هالة صدقي خلال احتفال لمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من ترميم القاهرة القديمة

كما كتب "أسفار المشتاق"، عرض فيه رحلته إلى المغرب العربي وأيامه في إسبانيا وذكريات الأندلس، وعرض للعديد من العادات والتقاليد المغاربية الثرية هناك، كما تنقل بين المكسيك وألمانيا الشرقية والغربية في لحظة فاصلة قبيل انهيار جدار برلين، كما تحدث عن رحلته الى الاتحاد السوفياتي في ذلك الزمن وتناول المعمار والفن هناك وكيف تأثر به وأعجب به بشدة، وصولا إلى إندونيسيا تلك البلاد التي لا نعرف عنها الكثير، وهو في كل هذه الكتب يتحدث بفنية الأديب وبروح الصحافي الذي يقتفي آثار الأماكن والأخبار.  

ربما لا يمكننا الإحاطة بكل إنتاج الغيطاني الأدبي، ولكن يجب أن نشير إلى أنه  استلهم عوالم الأساطير وطرائق الحكي في "ألف ليلة وليلة" في عدد من رواياته، مثلما فعل في رواية "هاتف المغيب" الصادرة عام 1992 وفيها يقودنا إلى رحلة غرائبية تبدأ بهاتف غريب يتلقاه بطل الرواية ويخوض على إثره مغامرة طويلة، يرسم الغيطاني فيها تصوره لمسار تاريخ البشرية منذ عصر البداوة إلى التحضر والمدنية، وكيف يتعامل الناس في كل فترة من خلال تنقل بطله بين الأماكن وتصوير عالم غرائبي يبدو أقرب ما يكون الى الواقعية السحرية بنكهة عربية خاصة. كما كتب الغيطاني روايات اهتمت بالمكان، بل جعلت من المدينة أسطورة خاصة كما فعل في روايته "شطح المدينة" وكذلك "سفر البنيان"، وغيرها من الأعمال التي ظهر فيها كيف يمزج بين ثقافته الأدبية ودراسته للعمارة في القاهرة وما حولها. 

غلاف كتاب "منتهى الطلب إلى تراث العرب"

هكذا نلحظ أن الغيطاني حاول الإحاطة بكل طرائق وأساليب الكتابة العربية سواء كانت معاصرة أو تراثية، وساهم في كل منها بسهم أو أكثر، فكتب اليوميات والحوليات، واستعاد أدب الرحلة وكتب فيها الكثير من التأملات، واستلهم سير القدماء والمعاصرين وكتبها بأسلوبه الفريد، كما استعاد كتابة "الخطط" التي كانت شائعة في زمن سابق وهي أدب المكان، كتب فيها المقريزي وعلي مبارك وغيرهما، كما استلهم كتابات المتصوفة وأساليبهم الشديدة الشاعرية والخصوصية في عدد من رواياته وقصصه القصيرة. واستطاع أن ينسج لنفسه طريقا خاصا في الكتابة الأدبية والمؤلفات التي أثرى بها المكتبة العربية، سواء في الأدب أو التراجم أو التعريف بالتراث العربي وما فيه من عمق وثراء، حتى أنه سعى إلى تعريف قراء العربية بذلك التراث من خلال كتابه "منتهى الطلب إلى تراث العرب".

توثيق  ذكريات كبار الأدباء

كان من حسن حظ جمال الغيطاني أن اقترب من نجيب محفوظ وتعرف الى عالمه، وسعى لمغايرة أسلوبه في الكتابة، لكنه بقي حريصا على توثيق مذكراته، تلك التي جمعها في ما بعد في كتاب صدر عام 1980 بعنوان "نجيب محفوظ يتذكر" يحكي في مقدمته كيف كان اقترابه من نجيب محفوظ ملهما له كونه رجلا مخلصا للأدب أشد ما يكون الإخلاص، وكيف كانت لقاءاته به تحمل ثراء أدبيا وفكريا كبيرا. في هذا الكتاب نتعرف الى وجوه مختلفة لأديب مصر الكبير نجيب محفوظ وعدد من آرائه الهامة، ويربط بين حياته الشخصية وكتابته ورواياته. يتذكر محفوظ من أيام الطفولة افتقاده لمشاعر الأخوة، حيث كان أصغر الأبناء في عائلته، وذكرياته عن اللعب في سطح البيت والحارات، وكيف أثر كل ذلك عليه في الكتابة وحفظ ورسم تفاصيل عالم الحارة المصرية، ويضع الغيطاني ملاحظاته على مذكرات محفوظ بعد كل فقرة، ليلفت نظر القراء إلى علاقة كل أمر يتذكره بعوالم محفوظ الروائية.

لم يكتف الغيطاني بما ذكره من ذكريات نجيب محفوظ في هذا الكتاب، بل أحب أن يضيف إليه أبعادا أخرى جمعها في كتابه "المجالس المحفوظية"


لم يكتف الغيطاني بما ذكره من ذكريات نجيب محفوظ في هذا الكتاب، بل أحب أن يضيف إليه أبعادا أخرى جمعها في كتابه "المجالس المحفوظية" يلتقط فيه عددا من المقولات والحوارات البسيطة التي كان يدونها أثناء لقائه بمحفوظ على مقاهي القاهرة المختلفة، ونجد في تلك الحوارات عددا من التعليقات على أحداث عامة، مثل الحرب مع إسرائيل، أو حوادث خاصة مثل وفاة والد جمال الغيطاني، وبعض الأخبار النادرة عن رواياته، مثل أنه كتب رواية بطلها لاعب كرة قدم ولم يكملها، وكذلك رواية عن الريف ولكنه لم يتحمس لها، كما يتحدث عن ذكرياته مع السينما، والغناء ونجومه لا سيما عبد الوهاب وأم كلثوم، وغير ذلك من الموضوعات والنقاشات الثرية.

 توفيق الحكيم

لم يكن محفوظ فحسب من سعد الغيطاني بصحبته، واستطاع أن يوثق عددا من ذكرياته، بل حالفه الحظ أن التقى توفيق الحكيم أيضا، فكتب"توفيق الحكيم يتذكر"، ولكن الغيطاني في مقدمة الكتاب يذكر كيف أن الفارق كان كبيرا بين الاثنين، وكيف كان يعتبر نجيب محفوظ في مكانة الأب، بينما يرى توفيق الحكيم دوما بمنزلة "الجد" بطبقة صوته الفريدة داخل معبد ظليل ينطق بالحكمة على حد تعبيره. ولكن القدر يسمح له بصحبة الحكيم أياما يحكي له فيها عن بداياته وطفولته، والصعوبات التي واجهته في بداية حياته، وكيف تأثر بكفاح والده وتحمله للمسؤولية منذ وقت مبكر، ثم ينتقل إلى حكاية بداية شغفه بعالم الكتابة والأدب والسينما، بدءا بتأجير الكتب والروايات لقراءتها إلى استقطاع قروش من مصروفه الشخصي لكي يستجيب لغواية مشاهدة الأفلام في ذلك الوقت المبكر، حتى انتقل للدراسة في القاهرة، وهناك تفتح لديه شغف جديد وهو الولع بالمسرح، وذكرياته مع ثورة 1919 ومشاركته فيها، حتى سجنه، وفي تلك الفترة تشكل وعيه بشكل أكبر بالهوية المصرية وأهمية أن يكون الأدب معبرا عن المجتمع المصري بشكل كبير.

يزخر الكتاب بالعديد من الحكايات والمواقف والطرائف التي يحكيها الحكيم عن حياته بكل أريحية وبساطة، لعل أجملها ما يتعلق بطفولته وأيام الدراسة في بدايات نشأته وعلاقته بالقراءة والكتابة، ويبدو من انتقاله بين الحكايات حرصه على أن يوثق أطرافا من حياته ربما لم يكتب عنها من قبل ولا يعرفها قراء توفيق الحكيم من أعماله الأدبية العديدة. في آخر هذا الكتاب وتلك المحاورات، يترك الحكيم لجمال الغيطاني مسودة رواية بدأ كتابتها عام 1944 ولم يكملها.

هكذا قدم لنا الغيطاني من خلال عمله بين الصحافة والأدب مذكرات مهمة لاثنين من أهم أدباء مصر في العصر الحالي، واستطاع أن يوثق مرحلة وازنة من الحركة الأدبية المصرية اجتماعيا وثقافيا، وأن يضع بين هذا وذاك لمساته وملاحظاته الصحفاية التي تضيء للقارئ بعض الأمور التي يمكن أن تغيب عنه.

font change

مقالات ذات صلة