المأزق الدستوري في فرنسا...عزلة الرئيس ماكرون وفرصة رئيس الوزراء لوكورنو

متوالية الأزمات

المجلة
المجلة

المأزق الدستوري في فرنسا...عزلة الرئيس ماكرون وفرصة رئيس الوزراء لوكورنو

وصف الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران في كتاب صدر عام 1964، الحكم الديغولي حينها بأنه كناية عن "الانقلاب الدائم" (في محاكاة مع عبارة ليون تروتسكي عن "الثورة الدائمة"). وحاليا يمكن وصف العهد الماكروني منذ 2017 بأنه "متوالية الأزمات" وظاهرة لا سابق لها في زمن الجمهورية الخامسة.

في هذا السياق، يخلف سيباستيان لوكورنو، وزير القوات المسلحة السابق، فرنسوا بايرو على رأس الحكومة ولا تبدو مهمته يسيرة، إذ كاد ينسحب فورا من المشهد إثر استقالته بعد أيام من تكليفه الأول، لكن المأزق الدستوري الذي يواجهه الرئيس ماكرون دفعه لإعادة تكليف لوكورنو ومنحه بطاقة خضراء للتصرف، وهذا أتاح له ترتيب تسوية مع "الحزب الاشتراكي" حول عدم استخدام الفقرة 3 من المادة 49 لتمرير القوانين، وتعليق إصلاح التقاعد حتى الانتخابات الرئاسية في 2027، والأرجح أن يسمح ذلك باستمرارية الفريق الجديد وإنجاز الميزانية، أما الإنتاجية والمدى الزمني للاستمرارية فستتوقفان على توازن القوى الهش داخل الجمعية الوطنية والقدرة على استعادة فعالية الحوار في ديمقراطية على المحك.

تداعيات تراجع الماكرونية

منذ بدء تراجع الماكرونية، تبدو الحياة السياسية الفرنسية متجمدة، إذ تتوالى الانتخابات وتتآكل الثقة. لكن رد الرئيس إيمانويل ماكرون أنكر مرارا الإشارة الديمقراطية، كما يثبت ذلك تعاقب ثلاث حكومات منذ حل الجمعية الوطنية في يونيو/حزيران 2024، حيث كان القرار الرئاسي في حل البرلمان وتشكيل الحكومات اعتباطيا وأحاديا من دون احترام التوازن البرلماني، خاصة أن الرئيس لا يملك أكثرية برلمانية أو تيار رئاسي (كما دللت على ذلك خلافات ماكرون مع رئيسي وزرائه السابقين غابريال آتال وإدوار فيليب).

وفي أحدث تطورات مسلسل الأزمات، سقطت حكومة فرنسوا بايرو، في 8 سبتمبر/أيلول الماضي، بسبب خططها لكبح جماح الدين العام. وبدأت صفحة جديدة مع " الولادة القيصرية" لآخر فريق وزاري. وليس من الأكيد أن تكون هذه المرحلة مُبشرة لحل أزمة متعددة الأبعاد على مسافة 18 شهرا من الانتخابات الرئاسية. ولذا كان لوكورنو واقعيا عندما أعلن موافقته على تحمل المسؤولية بدافع الواجب من أجل إتمام وظيفة إعداد الموازنة ومناقشتها أمام جمعية وطنية ممزقة وموزعة بين إحدى عشرة مجموعة سياسية.

منذ بدء تراجع الماكرونية، تبدو الحياة السياسية الفرنسية متجمدة، إذ تتوالى الانتخابات وتتآكل الثقة

يصح تساؤل المتابعين وقلقهم من مخاطر المأزق السياسي-الدستوري، إذ استخدم الرئيس إيمانويل ماكرون صلاحية حل المجلس (المادة 12 من الدستور) وتعيين رئيس الوزراء والحكومة (المادة 8 من الدستور). لكن ذلك لم يحل الأزمة، بل فاقمها ولذا اضطر رئيس الحكومة الجديد لترتيب تسوية مع بعض المعارضة من أجل حماية نفسه من احتمال السقوط في تصويت على سحب الثقة، وبالتالي حماية موقع رئاسة الجمهورية أيضا.

في هذا الصدد، يشير دينيس بارانجر، أستاذ القانون العام في جامعة بانتيون-أساس في باريس، إلى أنه "في كل مرة استخدم فيها رئيس الجمهورية صلاحياته بموجب المادة 8 من الدستور [بشأن تعيين رئيس الوزراء والحكومة]، أدى ذلك إلى حكومات تتمتع بثقة رئاسية صرفة، وبالتالي خالية من ثقة البرلمان. وتُثبت الحكومات الثلاث التي وُلدت ميتة منذ يناير/كانون الثاني 2024 أن هذا لا يكفي لضمان الاستقرار".

في التفاصيل، تميزت الحكومة الجديدة بتنوع شمل التيار الرئاسي واليمين مع تمثيل اليسار والمجتمع المدني، وتشبه تركيبة حكومة لوكورنو (خريف 2025) تركيبة أول حكومة للرئيس ماكرون في 2017، حيث يشترك جميع الوزراء تقريبا في قاسم مشترك واحد: قربهم أو خضوعهم لمسؤولية رئيس قصر الإليزيه، لكنهم يُجسّدون أيضا هذا الانفصال بين السلطة التنفيذية وتشكيلة الجمعية الوطنية حيث تهتز النواة الماكرونية المشتركة (الحزبان المنبثقان من الماكرونية: النهضة وآفاق، الحزب الوسطي: الحركة من أجل الديمقراطية والحزب اليميني التقليدي: الجمهوريون)، وهكذا في غياب الأغلبية، تتعرض الحكومة لعداء متزايد من الأحزاب في قصر بوربون المُجزّأ، مما سيدفع في لوكورنو، الساكن الجديد لقصر ماتينيون، لنسج ترتيبات بين داعمي الحكومة وبعض المجموعات البرلمانية لتسيير عمله.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الفرنسي المعيّن حديثا ووزير القوات المسلحة السابق، سيباستيان لوكورنو (يمين)، يصافح رئيس الوزراء الفرنسي المُستقيل فرانسوا بايرو (يسار) في ختام مراسم التسليم والتسلم في فندق ماتينيون بباريس، في 10 سبتمبر 2025

واللافت في هذا الإطار أن يبدأ لوكورنو عهده بتلقي الاتهام من معارضيه وبعض داعميه بأنه خضع لـ"وصاية الاشتراكيين" مع موافقته على تعليق العمل بإصلاح التقاعد الذي لطالما راهن عليه ماكرون وفريقه واليمين الفرنسي. يدلل ذلك على المصاعب التي تنتظر الحكومة وعلى صعوبة استمرارها لمدى طويل، مما يعني المزيد من الخسائر الاقتصادية (تشير بعض الإحصاءات إلى خسائر للاقتصاد الفرنسي بقيمة أربع مليارات يورو منذ صيف 2024)، والأدهى إمكان تجاوز آثار عدم الاستقرار السياسي الحالي النطاق الوطني. إذ إن فرنسا هي ثاني أكبر بلد في الاتحاد الأوروبي ولها دور عالمي، ويمكن بسبب عدم  الاستقرار المستدام أن تفقد فرنسا "مصداقيتها كقائد في مواجهة التحديات الجيوسياسية الحالية والمستقبلية"، ويُضعِفها بشكل كبير على الساحة الدولية.

خلفيات الأزمة المتجذرة وآفاقها

يعتقد الكثير من الفرنسيين أن سلسلة الأزمات ناتجة عن سوء في الممارسة وعن تفسير خاطئ لاستخدام الصلاحيات. بالطبع، لم تكن هناك مخالفة دستورية عند تعيين ثلاث حكومات غير قابلة للاستمرار منذ 2024 لأنه ليس هناك من قيود على صلاحيات الرئيس في النظام شبه الرئاسي للجمهورية الخامسة. لكن واقعيا، يتوجب على الرئيس في غياب الأغلبية، أن يأخذ في الاعتبار التوازنات السياسية، أي الأغلبية أو احتمالات تشكيل أغلبية في الجمعية الوطنية، وإلا فإن قراراته ستؤدي إلى إخفاقات فادحة وإضعاف كبير للنظام. بعبارة أخرى، إن غطاء الشرعية الناتج عن الانتخاب بالاقتراع العام المباشر لا يكفي بأي حال من الأحوال لرئيس الجمهورية ليكون الرجل القوي في النظام: فهو يحتاج إلى أغلبية برلمانية لدعمه، أو على الأقل، تحتاج "حكومته" إلى اليقين من عدم تعرضها للرقابة.

تكمن المشكلة في تصرف الرئيس كرجل النظام القوي. ومما لا شك فيه أن عدم التقدير الجيد وعدم استيعاب حقيقة الواقع السياسي، جعل سيد الإليزيه معزولا تماما، وهذا دفع البلاد إلى حالة غير مسبوقة من الجمود المؤسسي. لقد وعد الشاب ماكرون الفرنسيين بالتغيير فإذا بنا أمام الوجوه نفسها، المنطق نفسه، والمآزق نفسها.

بيد أن المسؤولية التي تنكب بنسبة كبيرة على الرئيس ماكرون، تخص كذلك الكثير من السياسيين ونزعات "الأطماع الحزبية" .

المسؤولية التي تنكب بنسبة كبيرة على الرئيس ماكرون، تخص كذلك الكثير من السياسيين ونزعات " الأطماع الحزبية"

وإزاء المشهد السياسي المشتت والمتصدع وصعود تيارات التطرف يمينا ويسارا، أخذت اللامبالاة تسود عند شريحة كبيرة من الناخبين، ويتهم الكثير منهم الطبقة السياسية بالصمم الديمقراطي مع تغليب المصالح الفئوية وفشل الحياة السياسية، ويصل الأمر ببعض الخبراء للتحذير من مخاطر "عيب استراتيجي في سياق حرب هجينة في أوروبا"، وهناك خشية عند بعض الدوائر في اعتبار "احتمال صعود اليمين المتطرف وزعزعة الاستقرار الداخلي أسلحة هامة للقوى الأجنبية المتربصة وخاصة روسيا". ولهذا يمكن للفوضى السياسية في فرنسا أن لا تكون أزمة ديمقراطية فحسب، بل تهديد وجودي لأمن الفرنسيين والأوروبيين.

أ.ف.ب
تظاهرة في ساحة الجمهورية، ضمن حركة احتجاج "بلوكوون توت" (لنمنع كل شيء)، في باريس، في 10 سبتمبر 2025

وتغلب الضبابية على المشهد السياسي الفرنسي ويبقى مستقبل حكومة لوكورنو مرهونا بالكثير من المتغيرات. وفي هذا الوقت، تسود البلبلة استعدادا للانتخابات الرئاسية إذا تمكن الرئيس الفرنسي من الصمود وإكمال ولايته حتى ربيع 2027. وليس من الضروري أن تصدق استطلاعات الرأي الحالية التي تشير إلى تقدم اليمين المتطرف لأن الوقت لا يزال مبكرا ولأن لعبة التحالفات يمكن أن تقطع الطريق عليه مرة جديدة. لكن ذلك لا يعني ارتسام تغييرات تسمح بسهولة وصول شخصيات بديلة أو قادرة منبثقة من أكثرية متجانسة.

في العمق، يتطلب الخروج من الصمم الديمقراطي الإدراك بأن التوعك الفرنسي ليس مجرد لحظة ارتباك فحسب. بل إنه نتيجة أزمة ثقة عميقة، نابعة من شعور مُستمر بالإقصاء الديمقراطي. ولهذا يتوجب تغيير قواعد الممارسة السياسية حتى تعود الأمور إلى نصابها ولا نصل إلى الكسوف الفرنسي.

font change