ما الذي يؤخر إنشاء أول محطة نووية في الجزائر؟

29 طنا من اليورانيوم كافية لتشغيل محطتتين بطاقة 1000 ميغاواط لكل واحدة لمدة ستين عاما

المجلة
المجلة

ما الذي يؤخر إنشاء أول محطة نووية في الجزائر؟

في مقابلة تلفزيونية محلية، طرح خبير الطاقة الجزائري مهدي خرفي سؤالا لافتا أثار كثيرا من الجدل، إذ قال: "ما أتعجب منه اليوم هو لماذا لم توظف الجزائر الطاقة النووية لإنتاج الطاقة الكهربائية على الرغم من كونها ضمن خمس دول عربية تقود حاليا مستقبل الطاقة النووية، حيث تحوز كميات تؤهلها مستقبلا لتطوير برنامج نووي سلمي واعد؟".

قبل التطرق إلى الخلفيات والأسباب التي حالت دون استغلال الجزائر للطاقة النووية في تلبية احتياجاتها من الكهرباء، ينبغي استعراض بعض الأرقام والمؤشرات المتعلقة بالقدرة الإنتاجية الحالية وآفاقها المستقبلية.

وفقا لتصريحات حديثة أدلى بها الدكتور خليفة محمد، نائب رئيس تجمعات الصناعات الكهربائية، لقناة محلية على هامش النسخة الرابعة من معرض التجارة البينية الأفريقية، تبلغ القدرة المركبة لإنتاج الكهرباء في الجزائر نحو 26 ألف ميغاواط سنويا، وهي طاقة كافية لتغطية الاستهلاك المحلي بما في ذلك فترات الذروة التاريخية، مثل تلك المسجلة في 22 يوليو/تموز 2025 حين بلغ الطلب 20,500 ميغاواط.

تراهن الحكومة الجزائرية اليوم على اختراق السوق الأفريقية في مجال الطاقة، مدفوعة بقناعة بأن القارة السمراء تواجه أزمة حادة في إمدادات الكهرباء، نتيجة عوامل عدة أبرزها النمو السكاني المتسارع الذي رفع الطلب على الطاقة إلى مستويات قياسية

هذا الفائض سمح للجزائر بتصدير الكهرباء، خصوصا إلى تونس، بكميات تتجاوز 500 ميغاواط يوميا. كما حققت شركة الكهرباء والغاز الجزائرية، "سونلغاز"، خلال عام 2023 مستوى قياسيا من الصادرات تجاوز 219 مليون يورو، من بيع الكهرباء ومعدات وتجهيزات كهربائية متطورة مصنعة محليا.

اختراق السوق الأفريقية

تراهن الحكومة الجزائرية اليوم على اختراق السوق الأفريقية في مجال الطاقة، مدفوعة بقناعة بأن القارة السمراء تواجه أزمة حادة في إمدادات الكهرباء، نتيجة عوامل عدة أبرزها النمو السكاني المتسارع الذي رفع الطلب على الطاقة إلى مستويات تفوق قدرة معظم دول القارة على تلبيته.

رويترز
مقر شركة سونطراك للطاقة في العاصمة الجزائر، 20 نوفمبر 2019

في هذا السياق، نجحت الشركة الحكومية، "سونلغاز"، في تحقيق حضور متزايد داخل القارة، إذ وقعت في يوليو/تموز الماضي في العاصمة البنينية، كوتونو، اتفاقية مع التجمع الطاقوي لغرب أفريقيا تتعلق بإنتاج ونقل الكهرباء، إلى جانب مذكرة تفاهم مع هيئة تنظيم الكهرباء الإقليمية التابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.

كما أبدت إثيوبيا في مارس/آذار الماضي رغبتها في الاستعانة بالخبرات الجزائرية لسد العجز في قطاع الكهرباء، لا سيما في المناطق النائية والزراعية. وأخيرا، حصلت "سونلغاز" على مشاريع جديدة في ساحل العاج وموزمبيق، فيما تطمح إلى توسيع نشاطها ليشمل ليبيا عبر تونس، ومنها إلى مصر التي تواجه بدورها تحديات في توفير مصادر الطاقة لمواطنيها.

نموذج مستدام للطاقة

تعتمد الجزائر حاليا بشكل شبه كامل على الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء، إذ يشكل نحو 99 في المئة من مزيج الطاقة المستخدم في إنتاج الكهرباء. غير أن السلطات تسعى اليوم إلى تبني نموذج مستدام للطاقة يخفف الضغط على الموارد الأحفورية، ضمن رؤية واضحة تهدف إلى رفع حصة الطاقات المتجددة إلى 30 في المئة من مزيج الطاقة الوطني في حلول عام 2035.

تمتلك الجزائر احتياطات لا بأس بها من اليورانيوم تقدر بنحو 29 ألف طن، وهي كميات كافية لتشغيل محطتين نوويتين بطاقة 1000 ميغاواط لكل واحدة لمدة تصل إلى ستين عاما

ويجري حاليا تنفيذ برنامج وطني ضخم لتطوير الطاقات المتجددة بقدرة إجمالية تصل إلى 15 ألف ميغاواط، تشمل مرحلته الأولى إنتاج 3,200 ميغاواط موزعة على 20 موقعا عبر مختلف مناطق البلاد. كما تعمل شركتا "سوناطراك" و"سونلغاز" على تنفيذ مشاريع لتحويل مواقع إنتاج المحروقات، بقدرة 1,300 ميغاواط، إضافة إلى محطات الجنوب التي تبلغ قدرتها 50 ميغاواط، إلى محطات تعمل بالطاقة الشمسية.

وتمتلك الجزائر احتياطات لا بأس بها من اليورانيوم تقدر بنحو 29 ألف طن، وهي كميات كافية، وفقا لتصريحات سابقة لوزير الطاقة الأسبق يوسف يوسفي، أحد أبرز الخبراء في قطاع الطاقة الجزائري، لتشغيل محطتين نوويتين بطاقة 1000 ميغاواط لكل واحدة لمدة تصل إلى ستين عاما.

رويترز
جزائري يحمل جهاز لقياس الإشعاع النووي في موقع انفجار قنابل فرنسية في ضواحي مدينة تمنراست جنوب الجزائر، 25 فبراير 2010

وتتركز هذه الاحتياطات في مناطق الهقار وتمنراست الواقعتين في أقصى الجنوب، على بُعد نحو 1981 كيلومترا من العاصمة الجزائرية، ضمن واحدة من أغنى المناطق بالثروات المعدنية في الصحراء الكبرى. وعلى الرغم من هذه المقومات، تم تجميد استغلال مناجم اليورانيوم في المنطقتين منذ عام 2012.

تطوير القدرات النووية الجزائرية

لا يعد المشروع النووي الجزائري وليد اللحظة، بل هو ثمرة عقود من الجهد المتواصل الذي انطلق فعليا عام 1996، حين تم إنشاء مركز بحثي في التكنولوجيا النووية المعروف باسم "محافظة الطاقة الذرية".

وقد أُنيطت بهذه الهيئة مهام رسم سياسة تطوير الطاقة النووية وتقنياتها، وتحديد الاستراتيجيا الوطنية لتنفيذها، إلى جانب الإشراف على وضع وتحديث معايير السلامة النووية والفيزيائية والإشعاعية، وتنظيم مسؤولية المنشآت النووية ومرافق إدارة المواد المشعة وتطويرها بصورة مستمرة.

يواجه البرنامج النووي الجزائري تحديات موضوعية عدة. من أبرزها أمن المنشآت، واختيار مواقع التشييد المناسبة، إلى جانب توفر الموارد المائية، الذي يمثل عنصرا حاسما

عقب ذلك، أنشأت الجزائر مفاعلين نوويين مخصصين للأبحاث وليس لإنتاج الطاقة، في خطوة عززت مسارها نحو تطوير القدرات العلمية والتقنية في المجال النووي.

المفاعل الأول هو "نور"، الواقع في الدرارية بالضاحية الغربية للعاصمة الجزائرية، وتبلغ قوته ميغاواط واحدا، وهو مفاعل أبحاث يعمل بالماء الخفيف ويستخدم اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة، وقد تم بناؤه بالتعاون مع الأرجنتين عام 1989، التي تتولى اليوم تحديث المنشأة وإنشاء مختبر لإنتاج النظائر المشعة المخصصة للاستخدامات الطبية والصناعية. أما المفاعل الثاني، "سلام"، فقد دخل الخدمة عام 1993، ويعمل بـ الماء الثقيل، ويستخدم أساسا في إنتاج المواد الصيدلانية الإشعاعية.

رويترز
جبال صحراء مدينة تمنراست جنوب الجزائر التي تحتوي على إشعاعات نووية جراء التجارب الفرنسية للقنابل الذرية فيها، 13ديسمبر 2013

غير أن تحقيق هذا الطموح ليس بالأمر الهين، إذ يواجه البرنامج النووي الجزائري تحديات موضوعية عدة. من أبرزها أمن المنشآت، واختيار مواقع التشييد المناسبة، إلى جانب توفر الموارد المائية، الذي يمثل عنصرا حاسما، إذ تحتاج محطات الطاقة النووية إلى كميات هائلة من المياه لأغراض التبريد، على سبيل المثل لا الحصر.

مثبطات بيئية وأمنية

ولتوضيح هذه المعوقات، يشرح الخبير الاقتصادي سليمان ناصر طبيعة المثبطات التي تعيق توجه الجزائر نحو الطاقة النووية، قائلا في حديثه الى "المجلة" إن "هناك ثلاثة تحديات رئيسة تحتاج لتمهيد الطريق أمام الطاقة النووية لتسهم في إنتاج طاقة نظيفة وموثوق بها. يتمثل التحدي الأول في اختيار الشركاء الاستراتيجيين، فقد اعتمدت الجزائر سابقا على خمس دول لمرافقتها في تحقيق حلم البرنامج النووي، وهي: روسيا، الصين، فرنسا، الولايات المتحدة، والأرجنتين. لكن الملاحظ في الفترة الأخيرة أن دور فرنسا قد تراجع بسبب الأزمة السياسية الحادة بين البلدين، لصالح روسيا والصين والأرجنتين".

وفي خطوة مهمة على صعيد هذا الملف، اجتمع وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، محمد عرقاب، مع وانغ يونغ، مدير المؤسسة الصينية للصناعة النووية في الخارج، لمتابعة علاقات التعاون القائمة بين المؤسسة ومحافظة الطاقة الذرية الجزائرية. وتركز اللقاء بشكل خاص على مجال الطاقة النووية السلمية واستخداماتها في الأغراض الطبية، وآفاق تطويرها.

أكثر من 80% من سكان الجزائر يتركزون على الشريط الساحلي، وهو ما يتعارض مع شروط بناء المحطات النووية التي تتطلب مواقع بعيدة عن التجمعات السكانية لتقليل الأخطار المحتملة المرتبطة بالحوادث النووية والإشعاعات

سليمان ناصر طبيعة، خبير الاقتصادي

كما وقعت وزارة الطاقة والمناجم الجزائرية مذكرة تفاهم مع "روساتوم"، الشركة الحكومية الروسية المتخصصة في الطاقة النووية، للتعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية. وتنص مذكرة التفاهم على مواصلة العمل المشترك حتى عام 2025، ضمن مجموعة واسعة من المجالات تشمل الطاقة النووية، مفاعلات الأبحاث، والتعاون في دورة الوقود النووي.

الحاجة الى كميات مياه ضخمة

ويأتي التحدي الثاني متعلقا بمعضلة المياه، كما يوضح الخبير ناصر طبيعة: "الجميع يعلم أن المحطات النووية تحتاج إلى كميات هائلة من المياه. ومن المعروف أن أحد مفاعلي الجزائر، مفاعل سلام (وهو مفاعل بحثي بقدرة 15 ميغاواط يخضع للمراقبة الدورية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية)، يقع في عين وسارة، على بعد 200 كيلومتر جنوب العاصمة. وهذه المدينة تقع في مناطق داخلية، والمعروف أن المدن الداخلية تعاني غالبا من شح المياه".

رويترز
ألواح شمسية لتوليد الطاقة، في صحراء جنوب الجزائر 25 نوفمبر 2018

وعن إمكان إنشاء محطات نووية في المدن المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يضيف الخبير: "هذا الخيار يواجه تحديا أعمق، إذ إن أكثر من 80 في المئة من سكان الجزائر يتركزون على الشريط الساحلي، وهو ما يتعارض مع شروط بناء المحطات النووية التي تتطلب مواقع بعيدة عن التجمعات السكانية لتقليل الأخطار المحتملة المرتبطة بالحوادث النووية والإشعاع، وضمان أمن المنشأة".

السواحل الجزائرية مناطق ذات نشاط زلزالي

وتتماثل هذه التحديات مع ما أشار إليه وزير الطاقة الجزائري السابق يوسف يوسفي، غير أنه أثار نقطة أخرى مهمة، مفادها أن السواحل الجزائرية مناطق ذات نشاط زلزالي وذات كثافة سكانية عالية. وأضاف أنه في حال إنشاء محطة نووية في منطقة داخلية بعيدة عن الساحل، سيظهر حينها تحدي توفر المياه.

وجاءت هذه الملاحظة تعقيبا على الأخطار التي أثارها انفجار أحد المفاعلات النووية في اليابان عام 2011، حين تسبب زلزال توهوكو وأمواج تسونامي المصاحبة في تعطيل أنظمة التبريد، مما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة، وانصهار نوى ثلاثة مفاعلات، وانبعاث مواد مشعة، في أكبر كارثة نووية منذ تشيرنوبل.

ووفقا للخبراء الجيولوجيين، فإن شمال الجزائر معرض لنشاط زلزالي مستمر، وهو ما أكده عالم الجيولوجيا الجزائري عز الدين بوضياف في تصريحات لصحيفة "الوطن" الجزائرية في مارس/آذار 2021، مشيرا إلى أن "الدراسات الجيولوجية تشير إلى إمكان تعرض سواحل الجزائر لخطر تسونامي، كما هو الحال بالنسبة لبعض الدول الأوروبية".

font change