"مخيم الفرنسيين" في إدلب... أول اختبار لملف المقاتلين الأجانب

من القوة الضاربة الى التفكيك التدريجي... وقضية مهمة بالنسبة للحكومة الفرنسية

المرصد السوري لحقوق الانسان
المرصد السوري لحقوق الانسان
مخيم "كتيبة الغرباء" الذي تضم فرنسيين قرب مدينة حارم شمال إدلب في شمال غربي سوريا

"مخيم الفرنسيين" في إدلب... أول اختبار لملف المقاتلين الأجانب

هي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها مخيم "الغرباء" في إدلب بسوريا لحملة أمنية، فالمخيم الذي يقوده الفرنسي ذو الأصول السنغالية (عمر ديابي) المعروف بـ"عمر أومسن" بات يسبب إشكاليات كثيرة لـ"هيئة تحرير الشام" في السنوات الأخيرة، ولذلك شنت "الهيئة" أكثر من حملة لاعتقال عناصر وقيادات فيه بينهم عمر أومسن نفسه، الذي بقي قرابة 18 شهرا في سجون "الهيئة" بعد عام 2020. اليوم الوضع مختلف، فالمخيم الذي يحتوي أفارقة وفرنسيين، قدموا إلى سوريا تدريجيا منذ عام 2013، يواجه الدولة السورية بتوجهاتها الجديدة.

مخيم "الغرباء"، المشهور في إدلب على أنه "مخيم الفرنسيين"، أو مخيم فصيل "الغرباء" الذي يقوده أومسن، يقع بمحاذاة الحدود السورية التركية، في حارم بمحافـظة إدلب، بدأ يتشكل بعد عام 2013، عندما وصل عمر أومسن، تاركا مدينته نيس الفرنسية، إلى سوريا، وبدأ واحدة من أقوى عمليات التجنيد للمقاتلين الأفارقة والفرنسيين، الذين قدموا إلى سوريا للقتال، منهم من انضم إلى "داعش"، ومنهم من بقي مع أومسن في خطه القريب من "جبهة النصرة" حينها. مئات من الفرنسيين والأفارقة وصلوا الأراضي السورية بمساعدة أومسن الذي كان يدير ماكينة إعلامية قوية تستهدف أبناء بلده. وخلال عامي 2014-2015 باتت خرائط القوى الجهادية تتشكل بشكل أوضح، فـ"جبهة النصرة" أظهرت شراسة في مواجهة تنظيم "داعش"، فاختار عمر أومسن "جبهة النصرة" حليفا، وبات الفرنسيون، الذين اختلفت طُرقهم، في مواجهة مباشرة مع بعضهم بعد أن قدموا للقتال ضد "الطاغوت".

المخيم لم يكن ملتزما بسياسة "هيئة تحرير الشام"، وكان عناصره وقادته يحاولون الاستمرار في سياسة العزل الذاتي، وبناء تحالفات مع فصائل أجنبية أخرى في المنطقة

بداية التوتر... إدلب نحو السيادة

المخيم كان مركز عمليات وساحة تدريب للمقاتلين ذوي الأصول الفرنسية والأفريقية، وباتت سمعة أومسن الأقوى بين القوى الأجنبية في إدلب، فهو خبير إعلامي، ويدير مخيما يعج بالفرنسيين الذي يسمعون له ويسيرون على خطاه. كان فصيله "فرنكفونيا" بامتياز، ومع مرور الوقت عزل أهل المخيم أنفسهم عن العالم، علموا أطفالهم، وبنوا قواعدهم الخاصة، لا يشكلون خطرا على الآخرين، ولا يسمحون بتدخل أحد في شؤونهم. أثار ذلك مخاوف "هيئة تحرير الشام"، سيما وأن نموذجا كهذا قد يشجع كثيرا من الفصائل الأجنبية على السير باتجاهه، فحاولت "الهيئة" تخفيف قوة أومسن ورفاقه داخل المخيم أو خارجه، وأصدرت كثيرا من القرارات ذات البعد السيادي في إدلب، منعت التصرف الفردي لأي فصيل دون العودة إلى المركز، وشددت على الجميع بضرورة الالتزام بالقرارات الإدارية والمدنية الصادرة من "الهيئة"، ولاحقا حكومة الإنقاذ، كل ذلك كان في سبيل منع انهيار النظام الذي بدأت معالمه تتشكل في إدلب والذي تقوده "هيئة تحرير الشام".

رويترز
نساء يقفن معًا في مخيم الهول للنازحين بمحافظة الحسكة، سوريا، 2 أبريل 2019

إلا أن المخيم لم يكن ملتزما بسياسة "هيئة تحرير الشام"، وكان عناصره وقادته يحاولون الاستمرار في سياسة العزل الذاتي، وبناء تحالفات مع فصائل أجنبية أخرى في المنطقة، فكانت تلك الشرارة التي أشعلت فتيل التوتر بين الطرفين الذي ما زال مستمرا منذ عام 2020. فككت "الهيئة" كثيرا من سلاح الفصيل، لاحقت عناصره، واعتقلت قائده، وأجبرته على الخضوع لسياسة "الهيئة" وحكومة الإنقاذ. ولتخفيف الغضب الذي بدأ ينشأ بين المقاتلين الأجانب حينها، أكدت "الهيئة" أكثر من مرة أن الاعتقال سببه محاوله عمر أومسن إنشاء إمارة في المخيم، والخروج عن سياسة حكومة الإنقاذ. وتزامن ذلك مع عمليات تفكيك قامت بها "الهيئة" في مواجهة "فصائل حراس الدين"، و"أنصار التوحيد"، التركستان، والشيشان.

مما لا شك فيه أن مخيم الغرباء والمقاتلين الفرنسيين في سوريا، قضية ذات اهتمام كبير عند الجانب الفرنسي الذي لطالما تابع هذا الملف الذي يشكل تهديدا أمنيا لفرنسا

حوالي 18 شهرا من السجن والتفاوض انتهت بإخراج أومسن من السجن بشروط. الأخير بات أكثر غضبا من "الهيئة"، واعتبر أن التحركات ضده وضد فصيله كانت بالتنسيق مع المخابرات الفرنسية، إلا أن قوته العسكرية لم تكن بالقدر الكافي لمواجهة التيار السيادي لـ"الهيئة"، فعاد إلى مخيمه، الذي لم يعد فيه إلا النساء والأطفال، وحوالي 400 مقاتل جلهم دون سلاح أو ترك العمل العسكري خوفا من إجراءات "الهيئة". كانت تلك مرحلة تفكيك جزئي لقوته ومخيمه، فـ"هيئة تحرير الشام" و"حكومة الإنقاذ" وضعت نصب أعينها إنهاء وجود المخيم وتفكيك القوة البشرية والعسكرية فيه، وإخراج أهله لدفهم نحو العيش داخل سلطة وقرارات "حكومة الإنقاذ" في إدلب.

انهيار النظام... وتغير الموازين

مع انهيار النظام السوري في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تغيرت المسارات، وأصبحت "هيئة تحرير الشام" حكومة سورية، تجوب العالم، وتحاور القوى الكبرى على مستقبل سوريا، وتدرس خيارات الانضمام إلى التحالف الدولي ضد "داعش"، وتحارب الإرهاب، وتضع نصب أعينها مستقبل المقاتلين الأجانب. كل ذلك أثار مخاوف وغضب أومسن ورفاقه، الذين حافظوا على السردية التي ينشرونها بأن الشرع وحكومته ينسقان مع الحكومة الفرنسية للقضاء عليهم أو تسليمهم إلى الحكومة الفرنسية، هذه السردية باتت أقوى بعد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فرنسا في يونيو/حزيران الماضي.

أ ف ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) يصافح الرئيس السوري أحمد الشرع أثناء لقائهما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك في 24 سبتمبر 2025

مما لا شك فيه أن "مخيم الغرباء" والمقاتلين الفرنسيين في سوريا، قضية ذات اهتمام كبير عند الجانب الفرنسي الذي لطالما تابع هذا الملف الذي يشكل تهديدا أمنيا لفرنسا، وبحسب معلومات "المجلة" فإن هذا الملف تم نقاشه أكثر من مرة بين الحكومة السورية والحكومة الفرنسية بعد سقوط النظام. كما أن مصير المقاتلين والأطفال والنساء أصحاب الجنسية الفرنسية، وخطط الحكومة السورية حيال ملفهم، ووجود مقاتلين من أصول فرنسية في الجيش السوري الجديد، كل تلك القضايا كانت على طاولة المحادثات بين الطرفين.

أومسن ورفاقه علموا أن الاستمرار في الاقتتال سيكون نهاية لهم، فهم اليوم يواجهون حكومة سورية وليس جماعة تدير مساحة جغرافية صغيرة

الحملة الأخيرة التي بدأتها الحكومة السورية لا يمكن النظر إليها خارج سياق العلاقة المتوترة بين "مخيم الفرنسيين" وقادته من جهة، و"هيئة تحرير الشام" ثم الحكومة السورية من جهة أخرى، فالقرار واضح وهو تفكيك المخيم وإنهاء حالة الكانتون "الفرنكفوني" الصغير في سوريا. فهذا الكانتون الصغير باتت مشاكله أكبر من ذي قبل، وكانت تداعياته داخلية زمن "هيئة تحرير الشام"، أما اليوم فتداعياته سياسية. ولإنهاء الملف قامت الحكومة السورية بمحاصرة المخيم يوم الثلاثاء 21 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك "استجابة لشكاوى أهالي مخيم الفردان في ريف إدلب بشأن الانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها، وآخرها خطف فتاة من والدتها على يد مجموعة مسلحة خارجة عن القانون بقيادة المدعو عمر ديابي"، بحسب بيان قائد الأمن الداخلي في محافظة إدلب العميد غسان باكير.

الحصار لم يكن هدفه الاقتحام، بل التفاوض من أجل إخراج الفتاة، وسحب السلاح، وتفكيك المخيم تدريجيا. وهي مطالب رآها أومسن ورفاقه بداية النهاية، فرفضوا ذلك، وبدأوا حملة إعلامية مضادة، تروج لفكرة أن الحكومة السورية تتعاون مع "الطاغوت لقتل المجاهدين". أومسن نشر مقطعا صوتيا اتهم فيه الحكومة السورية بالتنسيق مع المخابرات الفرنسية لقتله واعتقال المقاتلين في المخيم، وتحدث فيه عن تاريخ العلاقة المتوتر مع قادة "هيئة تحرير الشام" سابقا من زاوية أن الأخيرة حاولت التقرب من فرنسا عبر إنهاء قوته ورجاله. كما بدأت قناة "التلغرام" التي يديرها الفرنسيون في المخيم بنشر فيديوهات عن المواجهة التي بدأت صباح الأربعاء في 22 أكتوبر/تشرين الأول، ومحاولة تجييش المقاتلين الأجانب ضد الحكومة السورية، وبث سردية أن الحكومة السورية ستبدأ بالفرنسيين ثم ستستمر حتى إضعاف واعتقال أو قتل كل المقاتلين الأجانب في سوريا.

تهدئة مؤقتة... بشروط

مع نهاية يوم الأربعاء، باتت الأمور تتجه نحو التهدئة بين الطرفين، خصوصا أن المخيم يسكنه الأطفال والنساء، وأي عملية واسعة النطاق ستكون خسائرها كبيرة، وفق حسابات الحكومة السورية. في المقابل أومسن ورفاقه علموا أن الاستمرار في الاقتتال سيكون نهاية لهم، فهم اليوم يواجهون حكومة سورية وليس جماعة تدير مساحة جغرافية صغيرة. خضع بقايا الفصيل "الفرنكفوني" للشروط، وأوقف القتال، ووافق على التفكيك التدريجي للمخيم، وخروج أهله للعيش بين السوريين كأفراد.

عمر أومسن، الرجل الذي تجاوز الأربعينات من العمر، المُصنف كإرهابي عالمي منذ عام 2016، يسكن سوريا منذ أكثر من عشر سنوات

بالنسبة للحكومة السورية، ملف المقاتلين الأجانب يحمل حساسية بالغة، ولذلك اتخذت خطوات من شأنها إضعاف قوتهم الكلية، فوضعت المقاتلين داخل فرق، مشتتين بين مجموعات الجيش السوري، ولا يشكلون قوة فردية أو جماعية داخل فرقة ما، فمن بقي من فصيل "الغرباء" يحمل السلاح قليلون جدا بعد سقوط النظام، وتم دمجهم في "الفرقة 82" في الجيش السوري، إلا أنه في الوقت نفسه أي عملية كبيرة سريعة وغير محسوبة ضد المقاتلين الأجانب ستخلق فجوة أمنية لا تريدها الحكومة السورية في الوقت الحالي، خصوصا مع وجود تيارات خارجة عن سلطة الحكومة السورية غاضبة من توجهات الأخيرة نحو الغرب والدول العربية، ويمكن أن تستغل هذه التيارات أي غضب في صفوف المقاتلين الأجانب لتجنيدهم لصالحها. يُضاف إلى ذلك وجود خلايا تنظيم "داعش" التي تحاول شيطنة الحكومة السورية واستمالة المقاتلين الأجانب لصالحها بحجة أن التنظيم هو من يحميهم. كل العوامل السابقة كانت مؤثرة في توجهات الحكومة السورية نحو الحل التدريجي لأحد أعقد الملفات الأمنية ذات التشابك الداخلي والخارجي في آن واحد.

أ ف ب
صورة جوية لمخيم وطن الذي تم إنشاؤه حديثًا للنازحين داخليًا في قرية كفر جالس في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، في 17 نوفمبر 2021

عمر أومسن، الرجل الذي تجاوز الأربعينات من العمر، المُصنف كإرهابي عالمي منذ عام 2016، يسكن سوريا منذ أكثر من عشر سنوات، وهو الذي كان أحد أبرز الشخصيات التي جندت مئات المقاتلين الأجانب، والذي كان يقود أبرز فصيل أفريقي-فرنسي في سوريا، شباب مهاجرون تتراوح أعمارهم ما بين 20-27 عاما، أقنعهم أومسن بالهجرة إلى سوريا عبر إصداراته التي نشرها باللغة الفرنسية، أشعل الصحافة الفرنسية، وشغل اهتمام الحكومات الفرنسية المتعاقبة. قدراته جعلت سوريا قبلة المهاجرين الفرنسيين، ففي عام 2016 بلغ عدد المقاتلين الفرنسيين في سوريا قرابة 2200 مقاتل، تضاءل العدد مع مرور الزمن، منهم من قتل، ومنهم من عاد، وآخرون تركوا السلاح، ليبقَ منهم عدد قليل جدا لا يشكل مجموعة عسكرية قوية. تاريخ هذا الرجل ونتائج نشاطاته على المستوى العسكري والبشري (العائلات الفرنسية الموجودة في سوريا الآن)، لن يكون خارج اهتمام الحكومة الفرنسية التي فُتحت أبواب العلاقة بينها وبين الحكومة السورية على مصراعيها. كما أنه لن يكون خارج مخططات دمشق نفسها التي اتخذت قرارها: لا فصائل، لا جماعات، ولا قوة إلا قوة الدولة.

font change