لماذا قد يؤدي تقسيم غزة إلى تدمير ما تبقى من عملية السلام؟

التقسيم المقترح سيكمل عملية تمزيق المشروع الوطني الفلسطيني

أ ف ب
أ ف ب
صورة جوية تظهر الدمار في مدينة غزة شمال قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025، بعد يوم من سريان وقف إطلاق النار.

لماذا قد يؤدي تقسيم غزة إلى تدمير ما تبقى من عملية السلام؟

عندما خمدت نيران الحرب في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2025، عقب اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تنفّس العالم الصعداء ولو للحظات. فبعد عامين من الدمار المتواصل، استُقبلت الهدنة الهشة في غزة بوصفها نافذة أمل نحو بداية جديدة. لكن ما إن انقشع دخان المعارك، حتى بدأت فكرة مثيرة للقلق تتسلل إلى أروقة القرار في القدس وواشنطن: تقسيم غزة إلى كيانين منفصلين، أحدهما يخضع لسيطرة إسرائيلية دائمة، والآخر يُسلّم إلى سلطة فلسطينية معاد تشكيلها.

روّج أصحاب المبادرة لهذا المشروع باعتباره خطوة واقعية نحو الاستقرار، إذ يسعى إلى ترسيخ ما سعت إليه إسرائيل طويلا على أرض الواقع، أي فرض سيطرة مستدامة على مناطق حيوية من غزة، خصوصا السواحل والمعابر، مع تسليم ما تبقى من كيان فلسطيني مُنهك سياسيا. يرى مؤيدو الخطة أن هذا النموذج سيضمن أمن إسرائيل ويفتح الباب أمام إعادة الإعمار في "المنطقة الفلسطينية". غير أن ما يبدو حلا عمليا قد يتحوّل إلى وصفة لترسيخ الاحتلال، وتمزيق النسيج الوطني الفلسطيني، والقضاء على أي أفق حقيقي لحل الدولتين.

سلام هش على أرض متصدعة

جاء وقف إطلاق النار نتيجة وساطة مطوّلة قادتها إدارة ترمب بمشاركة عدد من الدول العربية، فأوقف القتال واسع النطاق وأفضى إلى إطلاق سراح رهائن إسرائيليين. وقد كشف الرئيس دونالد ترمب في أواخر سبتمبر/أيلول عن إطار سلام من عشرين نقطة، شكّل القاعدة السياسية لهذه التهدئة.

لكنّ هذا الإطار اتسم بالغموض منذ لحظته الأولى، إذ سعى إلى إدارة الأزمة لا معالجتها. فقد ركّز على استقرار غزة متجاهلا في المقابل الضفة الغربية، ما ترك مسألة السيادة الفلسطينية معلّقة. ومن رحم هذا الغموض، وُلد اقتراح التقسيم: محاولة لتثبيت واقع هش عبر تجزئة الأزمة بدلا من حلّها.

وتنصّ الخطة على تقسيم غزة إلى منطقتين: المنطقة (أ) ستظل تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وتشمل المعابر الحدودية الأساسية، ومن ضمنها معبر رفح، إلى جانب أجزاء من شمال غزة ومناطق ساحلية ذات أهمية استراتيجية. في المقابل، تُسند إدارة المنطقة (ب) إلى "لجنة فلسطينية تكنوقراطية" تحظى بدعم دولي محدود، وتخضع لإشراف إقليمي من قبل مصر والإمارات. يصفها المدافعون بأنها "ترتيب أمني مؤقت"، بينما يراها معارضوها مخططا لتفتيت دائم للكيان الفلسطيني.

دبلوماسية بالتفويض... وبالاستثمار العقاري

في الأيام التي تلت الهدنة، زار وفد أميركي رفيع المستوى إسرائيل، ضمّ نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمستشار الرئاسي السابق جاريد كوشنر، إلى جانب رجل الأعمال العقاري والموفد الرئاسي ستيف ويتكوف. ورغم تقديم زيارتهم بوصفها "بعثة تضامن" فقد تزامنت مع دفع تدريجي لفكرة "إعادة تنظيم" غزة.

زيارة فانس، عكست بوضوح رغبة واشنطن في إعادة الإمساك بخيوط الملف. فخلال وجوده في القدس، أكد مجددا "وقوف الولايات المتحدة بثبات إلى جانب احتياجات إسرائيل الأمنية" مع دعوته إلى "إطلاق جهود إعادة الإعمار ضمن إطار يضمن عدم عودة (حماس)". وقد اعتُبرت تصريحاته دعما حذرا لفكرة التقسيم، حيث تتولى إسرائيل الشؤون الأمنية، بينما يُناط بالفلسطينيين إدارة الإعمار تحت رقابة خارجية.

 أ ف ب
وزير الخارجية الاميركي ماركو روبيو اثناء زيارته مقر مركز التنسيق المدني والعسكري في جنوب اسرائيل في 24 اكتوبر

أما زيارة روبيو، فاتسمت بوضوح سياسي أكبر. إذ أبدى خلال لقاءاته مع مسؤولين إسرائيليين إعجابه بـ"النهج الواضح في فصل الأمن عن الحوكمة"، في إشارة مباشرة إلى قبوله بمنطق التقسيم الوظيفي.

اتسمت زيارة روبيو بوضوح سياسي. إذ أبدى خلال لقاءاته مع مسؤولين إسرائيليين إعجابه بـ"النهج الواضح في فصل الأمن عن الحوكمة"

في الوقت ذاته، اجتمع كوشنر وويتكوف– وهما من مهندسي اتفاقيات أبراهام ومن أبرز الوجوه في الدبلوماسية الاقتصادية لإدارة ترمب– مع مستثمرين إسرائيليين وإماراتيين لمناقشة سبل إعادة إعمار ما سُمّي بـ"المناطق الآمنة المحددة" في غزة. وتمحورت مقترحاتهما حول "ممرات استثمارية" و"مناطق اقتصادية خاصة"، في انسجام تام مع المنظور التقسيمي الجديد، حيث تتولى إسرائيل المهام الأمنية، ويُموّل المشروع الشركاء الخليجيون، فيما يُمنح الفلسطينيون دورا إداريا شكليا.

 أ ف ب
فلسطينيون قرب المباني المدمرة في خانيونس في 25 أكتوبر

الرسالة لم تكن بحاجة إلى كثير من التفسير. فمبادرة الاستقرار التي ظهرت بعد الحرب بدت وكأنها تجربة دقيقة في تفتيت منظّم، تتقاطع فيها المصالح الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية لتشكيل نظام جيوسياسي جديد، قوامه السيطرة من دون احتلال معلن، والإدارة من دون سيادة حقيقية.

مخاطر التقسيم: ثلاث خطوط صدع


قد يبدو تقسيم غزة خطوة واقعية في ظاهرها، غير أن عواقبها المحتملة ستكون مدمرة على المستويات الاستراتيجية والسياسية والإنسانية.

1. الوهم الاستراتيجي: أمن بلا استقرار
من منظور إسرائيلي، قد يمنح الحفاظ على "منطقة أمنية" داخل غزة شعورا زائفا بالأمان من دون تحقيق استقرار فعلي. فمثل هذا الترتيب سيفرض على القوات الإسرائيلية مهمة شرطية مفتوحة الأمد، ويجعلها عرضة لهجمات متكررة من السكان الذين تُفرض عليهم السيطرة. كما ستسارع "حماس"– أو أي بنية مسلحة تخلفها– إلى استغلال واقع التقسيم لتأكيد روايتها بأن إسرائيل تسعى إلى احتلال دائم، مع توظيف "المنطقة الفلسطينية" كأداة للدعاية والتجنيد.
بدلا من تهدئة الأوضاع، قد يؤدي هذا النموذج إلى تأجيج النزاع، إذ حذّر مخططون عسكريون إسرائيليون من أن العودة إلى شكل من أشكال الاحتلال الجزئي قد تقود إلى ما وصفوه بـ"فيتمنة غزة"، أي انزلاق نحو صراع منخفض الحدة لكنه طويل الأمد، يستنزف الموارد ويقوّض الشرعية السياسية.

2. التفكك السياسي: نهاية الوحدة الفلسطينية
بالنسبة للفلسطينيين، سيعمّق تقسيم غزة إلى منطقتين– إحداهما إسرائيلية والأخرى فلسطينية– الانقسام القائم أصلا بين غزة والضفة الغربية، ويفاقم من تآكل مفهوم الكيان السياسي الفلسطيني الموحّد. وسيتحول القطاع إلى فسيفساء من الجيوب المنعزلة، لكل منها راع خارجي ومراكز نفوذ داخلية متنافسة.
وسيقع عبء إدارة المنطقة (ب) على عاتق سلطة فلسطينية في موقع ضعف، تمارس إدارة شكلية في ظل إشراف إسرائيلي صارم، منزوعة السيادة والمصداقية. أما بالنسبة لـ"حماس" والفصائل الأخرى، فسيشكّل هذا الواقع دليلا إضافيا على أن الانخراط في المسار الدبلوماسي لا يفضي إلى التحرر، بل إلى احتواء منظّم ومشروط.
وباختصار، فإن التقسيم المقترح لن يؤدي فقط إلى تكريس الانقسام، بل سيكمل عملية تمزيق المشروع الوطني الفلسطيني، انتقالا من احتلال مباشر إلى تفتيت ممنهج دون أفق للتحرير.

عبّرت مصر، التي لطالما رفضت تحميلها عبء غزة، عن معارضة قاطعة لتثبيت أي تقسيم رسمي. موقف القاهرة واضح: لا للتهجير، ولا لوجود إسرائيلي دائم في غزة

3. الفخ الإنساني: غيتو باسم جديد
على المستوى الإنساني، تبدو التداعيات أشد قسوة. إذ سيُبقي التقسيم المقترح نحو 1.8 مليون فلسطيني داخل منطقة مكتظة ومحصورة، معزولة جغرافيا، تعتمد بشكل كامل على المساعدات الخارجية، وتبقى تحت تهديد دائم بتجدد التصعيد العسكري.
وستنحصر جهود الإعمار في "المناطق المعتمدة"، بينما تُهمّش مساحات واسعة من شمال غزة وتصنّف كمناطق عازلة أمنية. وتخشى الوكالات الإنسانية الدولية من أن يؤدي هذا النموذج إلى ترسيخ عزل غزة، إذ يُستبدل الحصار القائم بانقسام دائم، جغرافي وسياسي.
كما عبّر أحد مسؤولي الأمم المتحدة بشكل غير رسمي: "هذا احتلال... لكن بالجغرافيا".

الحلقة المفقودة: الضفة الغربية


لا يمكن النظر إلى منطق تقسيم غزة بمعزل عن التطورات الجارية في الضفة الغربية. ففي أغسطس/آب، وافقت إسرائيل على خطة الاستيطان المثيرة للجدل المعروفة باسم ""E1 التي تُقسّم الضفة إلى شطرين وتُقوّض التواصل الجغرافي، ما يجعل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا شبه مستحيل. وقد أشاد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بهذه الخطوة، واصفا إياها بأنها "المسمار الأخير في نعش وهم الدولتين".
تتماهى خطة "E1" مع مقترح تقسيم غزة في السعي لتحقيق ما عجزت عنه الحرب: تفتيت دائم للأراضي الفلسطينية إلى كانتونات معزولة. تتحول غزة إلى كيان يعتمد على المساعدات، فيما تُحوّل الضفة إلى فسيفساء من المستوطنات. وفي الحالتين، يبقى مفهوم السيادة الفلسطينية حبيس الخطاب، مجرد عنوان بلا مضمون.

ردود الفعل الإقليمية: شركاء على مضض


تفاوتت المواقف الإقليمية تجاه فكرة التقسيم. فقد عبّرت مصر، التي لطالما رفضت تحميلها عبء غزة، عن معارضة قاطعة لتثبيت أي تقسيم رسمي. موقف القاهرة واضح: لا للتهجير، ولا لوجود إسرائيلي دائم في غزة.
أما قطر وتركيا، الساعيتان للحفاظ على الدور السياسي لـ"حماس"، فترفضان خطة تُجرّد الفلسطينيين من وحدة أراضيهم. في المقابل، أبدت الإمارات، رغم حيادها العلني، اهتماما بمشاريع إعادة الإعمار داخل "المنطقة الفلسطينية"، ما يعكس استعدادا برغماتيا للانخراط في حال توافرت ضمانات أميركية بالإشراف.
وبالنسبة إلى واشنطن، فإن إدارة هذه التناقضات الإقليمية تُمثل اختبارا حقيقيا للدبلوماسية الأميركية. إذ إن اعتماد إدارة ترمب على وسطاء ذوي خلفيات سياسية– من فانس وروبيو إلى كوشنر وويتكوف– يمنح العملية زخما إعلاميا، لكنه يفتقر إلى الاتساق الاستراتيجي. فحين تُدار الدبلوماسية من خلال الأفراد بدلا من المؤسسات، تُصبح النتائج عرضة للتجزئة وتعكس الانقسامات التي تسعى إلى معالجتها.

لن يؤدي تقسيم غزة إلى استقرار، بل إلى ترسيخ عدم الاستقرار. سيُحوَّل القطاع إلى صورة مصغّرة عن الضفة الغربية، مفككا، عسكريا، تديره أطراف بالوكالة

أحدث وقف إطلاق النار في غزة انفراجا إنسانيا مؤقتا، لكنه لم يُحدث اختراقا سياسيا. فقد جمّد الصراع من دون معالجة أسبابه الجذرية، ويواجه اليوم خطر التحوّل إلى تقسيم فعلي.

رويترز
مسلحون من حركة "حماس" يوم تسليم الرهائن الاسرائيليين في غزة في 13 اكتوبر

في حال طُبّق، فإن تقسيم غزة لن يُمثّل حلا، بل انتكاسة تاريخية. يتحوّل فيه النزاع من مواجهة سياسية إلى ترسيم جغرافي، حيث تُستبدل المفاوضات بخطوط على الخريطة. النتيجة لن تكون سلاما، بل شلل دائم: منطقتان، سلطتان، واحتلال واحد.

من هدنة قصيرة إلى طريق مسدود


عندما أُعلن عن وقف إطلاق النار، وصفه كثيرون بـ"هدنة مؤقتة لالتقاط الأنفاس" في مسار الصراع، وقفة قصيرة تسمح بإعادة التفكير. غير أن مقترح التقسيم حوّل تلك الوقفة إلى طريق مسدود.
لن يؤدي تقسيم غزة إلى استقرار، بل إلى ترسيخ عدم الاستقرار. سيُحوَّل القطاع إلى صورة مصغّرة عن الضفة الغربية، مفككا، عسكريا، تديره أطراف بالوكالة. وسيفقد الفاعلون الفلسطينيون المعتدلون ما تبقى من صدقيتهم، في حين يزداد نفوذ المتطرفين، وتُصبح أي مفاوضات مستقبلية بشأن حل الدولتين حلما بعيد المنال.
كما حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخرا: "وقف إطلاق النار ليس سلاما– بل فرصة لصنع السلام". وتحوّل هذه الفرصة إلى تقدم حقيقي يتطلب مقاومة إغراء الحلول السريعة التي تُضحّي بالعدالة لصالح إدارة مؤقتة. والتقسيم هو أحد هذه الحلول: مغر، لكنه سطحي، ومآله الفشل.
المهمة المطروحة أمام صانعي السياسات ليست في تقسيم غزة، بل في إعادة دمجها– سياسيا، واقتصاديا، وجغرافيا– ضمن إطار أوسع يشمل الضفة الغربية، ويقود إلى سيادة فلسطينية حقيقية. فأي تسوية أقل من ذلك، لن تجلب سوى حلقة جديدة من العنف، ووقف إطلاق نار آخر، ووهم جديد يُسوّق على أنه سلام.

font change