عرض مسرحي في القاهرة يضع الجلاد في مواجهة ضحيته

"فاطمة الهواري لا تصالح" ضمن "مهرجان إيزيس لمسرح المرأة"

AFP
AFP
الممثل الأردني غنام غنام يؤدي مسرحية "العودة إلى حيفا" لغسان كنفاني في مسرح الحرية بمخيم جنين، 16 مارس 2011

عرض مسرحي في القاهرة يضع الجلاد في مواجهة ضحيته

في مثل هذا الوقت من عام 1948، وتحديدا في الثامن والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول، كانت فلسطين على أعتاب نفق طويل من الانقسام والشتات، حين اجتاحت قوات الاحتلال بيتا صغيرا في ترشيحا، المدينة التي ارتبط اسمها بفاجعة لا تنسى، بطلتها فاطمة الهواري (1930–2012). شابة في مقتبل العمر تستعد لزفافها، قبل أن تدهمها غارة جوية انتقامية محملة بالدمار، تبدد أحلامها في الهواء، وتفقدها عريسها وذويها، تاركة لها شللا ظل يلازمها بقية حياتها.

بعد نحو نصف قرن، عاد الطيار الذي قاد تلك الطائرة، مصطحبا كاميرات "سي إن إن"، ليعترف بجريمته ويقدم اعتذارا علنيا، لتتجسد أمام الشاشات والتاريخ مواجهة استثنائية بين الجلاد وضحيته.

انطلاقا من هذه الواقعة المأسوية، يغزل المسرحي الأردني الفلسطيني غنام غنام فصلا جديدا في سرديته الفلسطينية، مستعيدا الحدث لا باعتباره يخص امرأة بعينها أو مكانا محددا، بل كظل لوطن يحاول لملمة ذاته، كأنه إيزيس الفرعونية. هذا البعد الرمزي يتقاطع بقوة مع الممارسات الإسرائيلية الراهنة، ليترجمها في عرضه المسرحي "فاطمة الهواري.. لا تصالح"، الذي قدم أخيرا في القاهرة ضمن فعاليات "مهرجان إيزيس لمسرح المرأة"، بعد أن شهد عرضه الأول في "مهرجان الرحالة للفضاءات المغايرة" بالأردن، أغسطس/آب الماضي. يذكر أن العمل تطوعي بالكامل، من بطولة أماني بلعج (تونس)، وأحمد العمري (الأردن)، مع موسيقى ماهر الحلو وإضاءة ماهر الجريا.

يمتد العرض نحو ساعة، وتمتزج فيه السيرة الفردية مع سيرة أوسع تشمل الوطن والذاكرة الجمعية، ليصبح المسرح مرآة للغائبين، أولئك الذين يظهرون بالكلمة أو من خلال جسد يروي ما تعجز عنه الحكايات، ثم يرحلون تاركين طيفا لا يمحى. ليست "فاطمة الهواري" مجرد قصة عن الفقد، بل شهادة على عناد البقاء، السمة الغالبة على القضية الفلسطينية عموما، وعلى إيمان ثابت بأن الفن قادر على ترميم ما تهدم. إنها أيضا تجربة مخرج يواصل الكتابة من حافة المعاناة، مؤمنا بأن المسرح يستطيع أن يعيد الى الإنسان صوته، حتى لو كان هذا الصوت هو آخر ما يمكن سماعه، وسط صمت العالم.

لا تصالح

ينطلق غنام وفريقه من تقليد قديم كان الحكاؤون يحرصون عليه، إذ يبدأون بالترحيب بالجمهور قبل الدخول في الحكاية. لكن ما إن يبدأ هذا التمهيد الودود حتى ينزلق بسلاسة إلى صلب العرض، فيتداخل الترحيب مع الأداء، ويشتبك الممثلون في جدل طريف حول الاسم: أهي "لعبة فرجوية مسرحية"، كما تقول أماني بلعج، أم "لعبة مسرحية فرجوية" كما يؤكد أحمد العمري؟ هنا يتدخل غنام ليكسر الحائط الرابع، ويخاطب أسماء بعينها من المتفرجين من نقاد ومسرحيين لمشاركتهم الرأي في أزمة المصطلح، الأزمة التي تعاني منها غالبية المصطلحات، لذلك يحسم الجدل بين الطرفين مطمئنا إياهم: لعبة مسرحية فحسب. فالمهم هنا ليس الاسم أو التصنيف، بل البطولة الكبرى للحكاية نفسها. رغم بساطة تفصيلة كتلك، إلا أنها تحوي سخرية مبطنة من بعض الفرق الفلسطينية التي انشغلت بالتفرعات الشكلية على حساب جوهر القضية.

يغزل غنام غنام فصلا جديدا في سرديته الفلسطينية، مستعيدا الحدث لا باعتباره يخص امرأة بعينها أو مكانا محددا، بل كظل لوطن يحاول لملمة ذاته

تبدأ المسرحية من نهاية الحكاية، ذلك اللقاء الذي جمع الطرفين، الطيار الإسرائيلي آبي ناتان، أحد المشاركين في قصف ترشيحا، يقدم روايته من موقع العدو، مستعيدا تفاصيل الهجوم حتى لحظة سقوط البلدة. في المقابل، تستدعي فاطمة الهواري ما حدث لها ولقريتها من طريق العودة بالزمن، "فلاش باك"، أثناء هذا، يحاول الضابط إقناعها بما لا يصدقه عقلها، مؤكدا رغبته الملحة في السلام ومحاولاته المتكررة إلى ذلك: "ركبت طائرة صغيرة يوم 28 /2/ 1966 وهبطت في بورسعيد وطلبت مقابلة عبد الناصر، لدعوته إلى السلام"، وفي منظر آخر يخبرها: "تركت سلاح الطيران وفتحت مطعما في تل أبيب وتابعت دعوتي للسلام، كنت أدعو العرب والإسرائيليين على حد سواء".

AFP
فلسطينيون يغادرون قراهم وأحياء القدس خلال حرب 1948، احتجاجا على الاستيطان وهربا من هجمات "الهاغاناه"

بينما يلتقي الخاص والعام على الخشبة، يذيب العرض الحدود بين الاعتراف الشخصي والتوثيق التاريخي، الذي تنطق به الشخصيتان لا بوصفه مادة جاهزة، بل كخبرة حية مرت بهما. فيما يتدخل غنام بين حين وآخر ليكمل السرد أو يعلق عليه، فيكسر جدار الزمن بين الراوي والحدث. كذلك لم يفت العمل التذكير بالرواية الإسرائيلية الرسمية، التي زعمت بأن الطيران العربي هو من قصف ترشيحا، فيقلب المخرج هذه السردية على الخشبة، ليكشف زيفها عبر مواجهة مباشرة بين الضحية والجاني. أما فاطمة الهواري، فتنهج المقولة الخالدة للشاعر أمل دنقل، لا تصالح، رافضة اعتذار قاتلها، في موقف يلخص مأزق المصالحة المستحيلة.

في موقف مشابه، استنكر دنقل فكرة هذه المصالحة قائلا: "أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى". يستحضر العرض هذا المعنى بداية من العنوان، كأنه يكرر الحكم ذاته بعد أكثر من نصف قرن، مؤمنا – مثل كثير من أنصار فلسطين، بأن الخسارة لا تعوض بالمكاسب الرمزية، وبأن الجرح الإنساني لا يلتئم بالاعتذار، وهو ما يتبلور بالنداء الجماعي الذي يختتم به المسرحية، من خلال القصيدة الشهيرة لمحمود درويش، "أيها المارون بين الكلمات العابرة... أخرجوا من أرضنا".

رغم التزام العمل مسار القصة كما وقعت فعليا، فإنه يفتح النهاية على تأمل إنساني مغاير. ففاطمة تستعيد حقها المعنوي حين تلتقي آبي ناتان مشلولا إثر إصابته بجلطة دماغية، في مشهد يبدو تحقيقا متأخرا للعدالة، لكنها عدالة مشوبة بالمرارة، أقرب إلى القصاص الداخلي منها إلى الانتصار.

أما ماهر الحلو، فقد أحسن توظيف الأغاني الشعبية، قديما وحديثا، في التعبير عن التصاعد الدرامي للأحداث، أو مواقف الشخصيات، حيث لم تكن الأغنية عنصرا زمنيا أو ديكورا سمعيا، بل كانت امتدادا دراميا للفعل، تضيء ما يعجز عنه الحوار أحيانا، لذلك، جاءت الجملة الموسيقية لديه أشبه بديالوغ طويل، يتردد عبر العرض في لحظات مختارة بعناية، ليؤكد التوتر أو يخففه، وليمنح الصمت معنى إضافيا حين يحضر. ولا شك في أن توظيف الفيديو بروجيكتورا في خلفية الخشبة، أضفى على العمل عمقا بصريا ونفسيا معا، إذ تحولت الصور الأرشيفية والمقاطع الفيلمية إلى ذاكرة موازية للمسرحية، تكشف المسكوت عنه أحيانا، وتخفيه أحيانا أخرى، في إشارة إلى قاعدة فلسفية تؤكد "أن تعدد المنظورات لا يضعف الحقيقة، بل يعمقها". 

AFP
الممثل الأردني غنام غنام يؤدي مسرحية "العودة إلى حيفا" لغسان كنفاني في مسرح الحرية بمخيم جنين، 16 مارس 2011

أنا من هناك

"الله يمسيكم بالخير ويمسي الخير فيكم"، بهذه التحية يفتتح غنام حكايته التي تتسلسل من عرض إلى آخر، انطلاقا من فضاء الحكواتي الذي لا يعرف حدودا مكانية أو تقنية. فمسرح الحكواتي، كما يقدمه، لا يحتاج سوى إلى راو ومستمعين، لذلك نراه حاضرا مرة في قاعة مغلقة، وأخرى في ساحة مفتوحة، أو في غرفة صغيرة، حتى لو اقتصر الحضور علي مجموعة فحسب، هناك متسع دائما للحكاية. يتجلى هذا المفهوم بوضوح في عرضي "سأموت في المنفى" و"بأم عيني 1948"، اللذين يعدان من أميز ما قدمه في السنوات الأخيرة، ليس فقط لأنهما يقدمان نموذجا فريدا لمسرح الحكواتي، بل لأنهما يكرسان مفهوما أعمق للفعل المسرحي، يمكن تسميته بـ"مسرح الناس"، الذي يولد من حكايات البشر ويعود إليها.

يذيب العرض الحدود بين الاعتراف الشخصي والتوثيق التاريخي، الذي تنطق به الشخصيتان، لا بوصفه مادة جاهزة، بل كخبرة حية مرت بهما

لذلك دائما ما يترك غنام الباب مفتوحا أمام المشاركة، داعيا الجمهور إلى التدخل في أي لحظة، سواء من يرغب في مقاطعته أو محاورته، أو من يود مشاركته التمثيل، أو الغناء بدلا منه إن استقبح صوته، بل وحتى من يريد أن يروي حكايته بعد العرض تحت العنوان نفسه، "سأموت في المنفى... بدل فاقد". ينطلق غنام من ثيمة الحقيبة بوصفها رمزا للرحيل والاقتلاع، وما تحمله من دلالات تخص كل لاجئ أو مهجر، مستشهدا بمقولة إدوارد سعيد، "على كل فلسطيني أن يكتب روايته"، من هنا يبدأ في استحضار حكايات الذين لم تسجل مأساتهم في التراجيديات الكبرى، عن الشهداء الذين لم يقتلوا بالرصاص، وعن ضحايا المنافي والنكبات والخيانات، مرددا كلمات محمود درويش "أنا من هناك، ولي ذكريات... ولدت كما يولد الناس".

في سياق مشابه، ينتقل بنا السرد إلى جزء آخر من الحكاية، يعود إلى عام 2011، حين سافر من عمان إلى رام الله لتقديم عرضه المونودرامي "عائد إلى حيفا". يتناول كرسيا من بين الحضور ثم يجلس عليه، متخيلا إياه مقعدا في الحافلة، يبدأ في استعادة الرحلة منذ عبور جسر الملك حسين، إلى استراحة أريحا التابعة للسلطة الفلسطينية. على الطريق، يشاهد كل المعالم الشهيرة في طفولته: هذه مدرسة هشام بن عبد الملك الثانوية، وتلك مدرسة البحتري الابتدائية التي درست فيها، وهذا مكتب البريد، وهناك بيتنا.

AFP
مقاتلون عرب مستسلمون خلف الأسلاك الشائكة في الرملة بعد سقوطها خلال "عملية داني" عام 1948

حينها يطلب من السائق أن يتوقف قليلا ليخبرنا: "ثلاث وعشرون درجة كانت ترفع بيتنا عن الأرض." يتذكر آخر مرة نزل فيها تلك الدرجات في الخامس من يونيو/حزيران 1967، حين كان في الثانية عشرة من عمره. ينزل من الحافلة هذه المرة صاعدا الدرجات من جديد، لا إلى البيت فقط، بل إلى طفولته، مستدعيا سيلا من الذكريات التي لم تغادره، وإن غادرها المكان. في المشهد الختامي، يتنبأ غنام بموته في المنفى، متخيلا جنازته التي لن تتمكن ابنتاه من حضورها، كما لم يتمكن هو من حضور زفافهما من قبل بسبب الاحتلال. تنشر عنه ثلاثة أخبار في الصحف الأردنية، قبل أن ينهي عرضه بلمسة سوريالية، متأملا الحياة من داخل قبره، يتابعها تمضي كما هي، بعد أن عاش مزدوجا بين البلدان والهويات، كبدل فاقد.

كيف تحكي حكاية؟

ولأن معظم شخصيات مسرحياته، إن لم يكن جميعها، مأخوذة من الواقع، كان غنام يضطر أحيانا إلى استبدال بعض الأسماء بأخرى متخيلة، خصوصا حين يتعلق الأمر بشخصيات لا تزال مطلوبة لدى سلطات الاحتلال. يشير إلى ذلك مثلا في مستهل مسرحية "بأم عيني 1948"، مؤكدا أن جميع الأسماء الواردة في العرض حقيقية في ما عدا ثلاثة. على أن هذا لم يمنعه من مواصلة لعبته المفضلة مع الجمهور، فيدعوهم إلى مشاركته في تمرين إحماء سريع قبل بدء العرض، كما يقول مازحا لأن الوقت دهمه. لم يكن هذا الإحماء سوى ترديد جماعي للكوبليه الشهير من أغنية محمد عبد الوهاب "أخي جاوز الظالمون المدى". 

هكذا ظل غنام يجمع بين هويتين، الأردن وفلسطين، داخل إطار عربي أوسع، وهي الثيمة الأكثر حضورا في أعماله

يستمد العرض عنوانه من كتاب "بأم عيني" للمحامية الإسرائيلية فليتسيا لانغر، المعادية للصهيونية. الكتاب الذي يضم مرافعاتها عن عدد من الفدائيين الفلسطينيين أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية، في فترة كان من الطبيعي أن تخسر فيها لانغر معظم القضايا التي تتولاها، غير أنها نجحت في تحقيق بعض الانتصارات الرمزية، منها، إلغاء قرار الحاكم العسكري إبعاد المناضل بسام الشكعة. تقول لانغر في مقدمة كتابها: "أنا اليهودية، أنا سليلة العائلة اليهودية التي فقدت عائلتها في المحرقة النازية، شاهدة على ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بأم عيني".  

AFP
مشهد عام لمدينة معلوت ترشيحا شمال إسرائيل، 7 أبريل 2024

في عروض المونودراما، كثيرا ما يهدد الإيقاع خطر التكرار أو الفتور، خصوصا أن العرض بكامله يقوم على الحوار والحكي الفردي، غير أن غنام يتفادى هذا المأزق بذكاء ملحوظ، من خلال إدماج جمهوره في اللعبة المسرحية وتوريطه طيلة الوقت. فإلى جانب التصاعد الدرامي الذي ينتقل بسلاسة من الشخصي إلى العام، بل وإلى بعض الحضور أحيانا، ينجح في توظيف انتقالات تلقائية بين الحكايات والمواقف، كأن يرحب بوافد جديد، أو يوجه سؤالا عابرا لأحد الجالسين، أو يستدعي اسم شاعر مثل توفيق زياد ليحث جمهوره على ترديد مطلع قصيدته الشهيرة "أناديكم، أشد على أياديكم"، في تحية إلى شعب يقاوم نيابة عن الجميع، كما يقول، بينما يمهد في الوقت نفسه للمقطع التالي من الحكاية.

مشاهد برتبة شاهد

ولد غنام صابر غنام عام 1955 في مدينة أريحا، بحارة البيادر، إحدى الحارات التاريخية في فلسطين. بعد النكبة وما تلاها من تهجيرات، نزحت أسرته إلى الأردن، حيث تعود أصوله إلى كفرعان، التي ظل يعتبرها امتدادا لذاكرته الأولى. لذلك كان كثيرا ما يستدعي اسمه ليشرح ازدواجيته الفنية والإنسانية معا. فإذا سئل عن كيفية الجمع بين الإخراج والكتابة أجاب مازحا، "واحدا لهذا، وآخر لذلك"، في إحالة رمزية على اسمه المزدوج. هكذا ظل غنام يجمع بين هويتين، الأردن وفلسطين، داخل إطار عربي أوسع، وهي الثيمة الأكثر حضورا في أعماله، توازيا مع انشغاله الدائم بقضية شعبه.

font change

مقالات ذات صلة