هل تجاوزت الولايات المتحدة نقطة اللاعودة في أفريقيا؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
إخلاء نازحين في مايدوجوري لمخيماتهم وهو الموعد المحدد لإغلاق حكومة بورنو النيجيرية لجميع مخيمات النازحين، في مايدوجوري في 30 نوفمبر 2021.

هل تجاوزت الولايات المتحدة نقطة اللاعودة في أفريقيا؟

عندما يُلقى النرد، فليس ثمة مجال للاحتمالات أو التراجع. فهل حسم الرئيس دونالد ترمب أمره في التدوينة التي نشرها يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2025، على موقع "تروث سوشيال"؟ عقد الرئيس الأميركي مؤتمرا صحافيا في بالم بيتش في فلوريدا. وعلى الفور استرعى بيانه العاطفي المشحون بالانفعال والغضب، انتباها دوليا. وأبرز ما جاء في البيان:

• يواجه المسيحيون في نيجيريا "إبادة جماعية حقيقية".

• "إذا استمرت الحكومة النيجيرية في السماح بقتل المسيحيين" (دون تسمية أي جماعة محددة)، فقد تلجأ الولايات المتحدة إلى "ضربات سريعة وشرسة" لاجتثاث الإرهابيين الإسلاميين الذين يرتكبون هذه الفظائع المروعة".

• عمليات مكافحة الإرهاب "لن تتوقف عند نيجيريا، بل سنطاردهم أينما كانوا، في الشمال وفي منطقة الساحل".

في نوبة انفعال واحدة، نجح ترمب في دمج الدين والأمن والتدخل الأميركي لتقديم رواية سريعة الاشتعال؛ وهي صيغة مألوفة في واشنطن، إلا أنها تستهدف اليوم حدودا مختلفة: أفريقيا.

وفي اليوم نفسه، أعادت وزارة الخارجية الأميركية إدراج نيجيريا على قائمة الدول المثيرة للقلق بشكل خاص (CPC)، في خطوة جرى تنسيقها مع البيت الأبيض، لتكون رمزا لبداية نهج سياسي جديد. وفي الحقيقة، كانت هذه أول إشارة واضحة على عودة أفريقيا إلى صميم الأجندة الاستراتيجية الأميركية على أرض الواقع.

كان تصريح الرئيس ترمب العاطفي، بلا شك، خطابا بلاغيا يسعى لإحداث تأثير عميق في الجمهور العالمي والمحلي على حد سواء.

صيحة "وجهوا الصواريخ" التي أطلقها ترمب وجرى تقديمها كإشارة واضحة للجوء غير المشروط إلى القوة، تتجاوز البلاغة الخطابية الرنانة

بيد أن مشاعره لم تأت من فراغ بل هي نابعة من قلق حقيقي؛ فتصاعد النشاط الإرهابي "أيقظ ترمب ونبهه": فهو يدرك أن زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل وغرب أفريقيا ليست عفوية بل هي منهجية، وأن الجيوش الوطنية، والهياكل العسكرية الروسية، وكافة أشكال المساعدة الدولية الحالية، غير قادرة على احتوائها.

وكانت جماعات تابعة لتنظيم "القاعدة"، وأبرزها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، أعلنت عن بدء تدخلها في نيجيريا. وقد امتدت هجماتها بالفعل لتطال عدة دول، من بينها بنين وساحل العاج والكاميرون. وهي الآن تسيطر على مساحات شاسعة من النيجر، وتستولي على العديد من المدن، وتبني مؤسسات شبه حكومية في بوركينا فاسو ومالي. وفي مالي على وجه التحديد، تمكنت تلك الجماعات من قطع إمدادات الوقود عن باماكو ومدن رئيسة أخرى، وسيطرت على ممرات النقل الرئيسة.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث إلى وسائل الإعلام لدى وصوله إلى مطار بالم بيتش الدولي في فلوريدا، الولايات المتحدة، 31 أكتوبر 2025

لقد أصبح العامل الديني للإسلاموية المتطرفة أداة جيوسياسية، ومن خلال المقاومة الإقليمية المسلحة للجماعات الإرهابية، ثمة مخاطر بأن تصبح أفريقيا البؤرة المحتملة لظهور "خلافة" جديدة.

ويبدو أن الرئيس ترمب، على الرغم من أدائه الاستعراضي، يدرك حجم التهديد الفعلي: ما لم يوضع حد فوري لهذا التمدد، يمكن أن تدخل المنطقة في دوامة فوضى متصاعدة لا يمكن السيطرة عليها، أو حصرها في تلك المنطقة وحسب، ولكن قد تمتد إلى سائر أنحاء القارة.

ويشكل هذا الفهم جزءا لا يتجزأ من رسالته إلى المجتمع الدولي، ويضع في الوقت نفسه الأساس الخطابي والسياسي لإضفاء الشرعية المحتملة على التدخل العسكري الأميركي المباشر في القارة.

إن صيحة "وجهوا الصواريخ" التي أطلقها ترمب وجرى تقديمها كإشارة واضحة للجوء غير المشروط إلى القوة، تتجاوز البلاغة الخطابية الرنانة لتعطي إشارة إلى الاستعداد لشن عمل عدواني وهجومي دون الحاجة إلى انتظار الجهود أو المرشِّحات الدبلوماسية.

تصنيف نيجيريا كدولة مثيرة للقلق بشكل خاص لا يسمح في حد ذاته بالتدخل. بل يمثل من حيث المبدأ أداة ضغط دبلوماسية، تتيح فرض عقوبات وقيود على المساعدات الإنسانية

واليوم نرى أن الدفاع عن الإيمان، إلى جانب مكافحة الإرهاب، يجري دمجهما في مفهوم "مسؤولية الحماية" (R2P) المعاد ابتكاره، حيث يعاد توظيف مفردات الولايات المتحدة الإنسانية العقائدية: فلم تعد مسؤولية الحماية ميثاقا للدفاع عن الديمقراطية وحسب، بل تُستخدم الآن لتبرير تدخلات تُؤطر وتُقدم على أنها مهام دينية ومناهضة للإرهاب في الوقت نفسه.

تعد الشرعية، في هذا السياق، أداة حاسمة: حيث تُحوَّل الأطر الخطابية والمطالبات الأخلاقية إلى خيارات حقيقية يمكن التحكم فيها لاستخدام القوة بما يخدم مصالح استراتيجية ملموسة.

ولا يقتصر الجمهور المحلي على الأوساط الإنجيلية؛ أولئك الذين لطالما نظروا إلى أفريقيا كفضاء تبشيري وساحة رمزية لمعركة الإيمان ضد الفوضى. فالنطاق أوسع بكثير: إنه يشمل جميع الأميركيين الراغبين في استعادة عظمة بلادهم؛ لتكون قادرة على العمل حيث يعجز الآخرون، وحل ما لا يستطيع الآخرون حله، واستعادة الصدارة السياسية والرمزية على الساحة العالمية.

لا ينبغي أن يؤخذ تصريح ترمب، مثل الكثير من التصريحات السابقة، بحرفيته، فهو ليس أمرا بعمل عسكري فوري.

إن تصنيف نيجيريا كدولة مثيرة للقلق بشكل خاص (وهي الخطوة الثانية من نوعها، حيث جرى إدراجها على تلك القائمة للمرة الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2020) لا يسمح في حد ذاته بالتدخل. بل يمثل من حيث المبدأ أداة ضغط دبلوماسية، تتيح فرض عقوبات وقيود على المساعدات الإنسانية.

أما إعلان البنتاغون عن "الاستعداد لعمليات محتملة لمكافحة الإرهاب" في المنطقة فهو صيغة نموذجية تستخدم خلال مراحل السياسة الانتقالية؛ في المرحلة التي لم تتخذ فيها القرارات بعد، ورغم ذلك يجري تفعيل الآليات المؤسسية. وأي تصعيد حقيقي يتطلب توجيها رئاسيا رسميا: "مذكرة رئاسية للأمن القومي"، والتي لا وجود لها حتى الآن.

جاء رد فعل المجتمع الدولي على تصريح الرئيس الأميركي كعمل دبلوماسي حذر يسعى لتحقيق التوازن، مما يعكس قلقا مدروسا

وحتى لو لم يؤخذ تصريح ترمب حرفيا، فلا يمكن لأحد إنكار جديته. فانفعاله لم يكن مجرد نوبة غضب عابرة، بل كان مؤشرا على تحول منهجي: فقد بدأ في أروقة واشنطن العمل الفعلي على صياغة هيكلية جديدة للانخراط الأميركي في أفريقيا.

ووفقا لمصادر مقربة من كل من مؤسسة التراث ومعهد هدسون، فإن موظفي مجلس الأمن القومي (موظفو مجلس الأمن القومي، مديرية أفريقيا) يعدون مذكرة خيارات سياسية؛ وهي وثيقة تحدد مسارات العمل المحتملة، وتشمل العمليات السارية، والاستخبارات، والخدمات اللوجستية، والمهام السرية، والمساعدة العسكرية للشركاء الإقليميين.

وتشير التقارير إلى أن المناقشات بدأت داخل دوائر الخبراء حول إنشاء مجموعة لتنسيق الشؤون الأفريقية تابعة لمجلس الأمن القومي؛ وهي آلية دائمة للتخطيط الاستراتيجي وتنسيق سياسة الولايات المتحدة في القارة.

في هذه المرحلة، يبقى الأمر فرضية أكثر منه حقيقة مؤكدة، إلا أن منطق الأحداث بات واضحا. لا يمكن تحقيق النجاح في قارة تنزلق نحو الفوضى إلا من خلال إنجاز عمل ملموس. وهذا يحتاج هيكلا متكاملا قادرا على الاستجابة السريعة للأزمات، يعمل كنقطة التقاء بين الاستخبارات والدبلوماسية والقوات المسلحة والمتعاقدين العسكريين الخاصين.

رويترز
قوات الأمن النيجيرية تطلق قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين على سوء الإدارة والصعوبات الاقتصادية في أبوجا، نيجيريا، في 1 أغسطس 2024

واليوم، يتبلور أمام أعيننا مسار الاستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا. غير أن هذه الاستراتيجية لم تدون على الورق بعد، فهي ما تزال قيد التشكل، وفي طور التكوين، إذ لم تكتمل آلياتها بعد، ولكنها بدأت في الظهور على أرض الواقع.

إنه ليس نهجا ارتجاليا على الطريقة الروسية: تفاعليا وظرفيا ومبنيا على شبكة من العقود والوسطاء والهياكل العسكرية. بل هو شكل من أشكال العمل البيروقراطي، ومحاولة لإضفاء الطابع المؤسسي على العمل حتى في قلب الفوضى، حيث تُطوَّر الاستراتيجية لتكون قابلة للتكيف، و"قيد التطور والحركة"، ولكنها في الوقت نفسه تحت السيطرة.

وتبنى حول مؤسسات الدولة والهياكل الداعمة للحكومة: مجلس الأمن القومي، والبنتاغون ("أفريكوم"– القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا)، ووزارة الخارجية، ومؤسسة التمويل الدولية للتنمية الأميركية، والمقاولين من القطاع الخاص، والمنظمات الدينية غير الحكومية.

وبدا كأن ترمب أرسل برسالة تحدٍّ وتهديد يقول فيها "أنا قادم إليكم"، وسرعان ما أصبح موقفه هذا مستندا تحتشد حوله الدعاية بين الإسلاميين المتطرفين، الذين قبلوا التحدي: حيث دعا أولئك المتطرفون شعوب غرب أفريقيا إلى التوحد ضد ما يسمى "الصليبيين الأميركيين".

وجاء رد فعل المجتمع الدولي على تصريح الرئيس الأميركي كعمل دبلوماسي حذر يسعى لتحقيق التوازن، مما يعكس قلقا مدروسا.

ظهور الاهتمام الأميركي بمنطقة الساحل قد يزعزع استقرار "النظام" القائم، الذي وفرت فيه روسيا الأمن لعدة أنظمة، من خلال "فيلق أفريقيا"

لقد بالغ خطاب ترمب حول "اضطهاد المسيحيين" في نيجيريا في تبسيط واقع المنطقة إلى سردية باللونين الأبيض والأسود أو صراع بين الخير والشر. وحقيقة الأمر أن هذه الصراعات ليست دينية في جوهرها، بل تعود جذورها العميقة إلى عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وصراع على الموارد الطبيعية.

ومع ذلك، كان رد نيجيريا مدروسا وواثقا. فأبوجا تعترف بحجم التهديد، وتؤكد في الوقت نفسه على سيادتها.

وذكرت وزارة الخارجية النيجيرية أن البلاد "لن تسمح بأي تدخل يهدد سيادتها"، إلا أنها "منفتحة على التعاون مع الشركاء الدوليين في مكافحة الإرهاب".

أ.ف.ب
قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات (MNJTF) ترافق حفارة خنادق، عبر نقطة تفتيش عند مدخل مونغونو، ولاية بورنو، نيجيريا، في 4 يوليو 2025

وعسكريا، ثمة تعاون قائم بين نيجيريا وبين الولايات المتحدة. فمنذ عام 2009، تجاوزت الاستثمارات الأميركية في تحديث القوات المسلحة النيجيرية 650 مليون دولار، وشملت تلك التحديثات الطائرات والأسلحة الدقيقة وتدريب القوات الخاصة. ويواصل المدربون والمستشارون الأميركيون العمل مع الوحدات النيجيرية؛ وتقوم القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) بمراقبة دول شمال أفريقيا، ويجري تزويد البلاد بالدرونات ومعدات الاتصالات وتدريب الضباط.

وقد أدت هذه التدابير إلى إرساء بنية أساسية تتيح التعاون على النحو المنشود ويمكن تنشيطها في أي وقت دون الحاجة إلى اتخاذ قرارات تتصدر عناوين الصحف.

وفي السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، صرح ممثل الاتحاد الأوروبي لدى نيجيريا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، غوتييه مينيو قائلا: "موقفنا هو موقف تضامني مع نيجيريا... نحن نحترم سيادة نيجيريا والتزامها الدستوري بالحياد الديني".

ربما لا ينبغي أن نقرأ ضبط النفس الذي يبديه الاتحاد الأوروبي على أنه حياد، فهو في حقيقة الأمر يعكس اعترافا بالهيمنة الأميركية.

وفي السابع من نوفمبر 2025، وعلى خلفية التصريحات الأميركية حول عملية محتملة في نيجيريا، دعت وزارة الخارجية الروسية إلى "الالتزام الصارم بالقانون الدولي".

أما بين دوائر المحللين القريبة من المقاولين العسكريين الروس ووزارة الخارجية، فتسود وجهة نظر مختلفة: فظهور الاهتمام الأميركي بمنطقة الساحل قد يزعزع استقرار "النظام" القائم، الذي وفرت فيه روسيا الأمن لعدة أنظمة، من خلال "فيلق أفريقيا"، وسيطرت على الخدمات اللوجستية المعدنية، وكانت تحل تدريجيا محل فرنسا والولايات المتحدة.

في الرابع من نوفمبر 2025، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بيانا أكد فيه المتحدث باسمها، ماو نينغ، ما يلي: "باعتبارها شريكا استراتيجيا شاملا لنيجيريا، تدعم الصين على الدوام الحكومة النيجيرية في قيادة شعبها على مسار التنمية المناسب لظروف البلاد الوطنية. ونحن نعارض بحزم أي دولة تستخدم الدين أو حقوق الإنسان كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو التهديد بفرض عقوبات أو استخدام القوة".

تشير فطرة دونالد ترمب السياسية وخبرته، ونصائح مستشاريه إلى أن أفريقيا ليست مجرد قضية هامشية، بل هي اختبار للنظام العالمي

وردّت وسائل الإعلام الصينية أيضا على تصريح ترمب بطريقة مدروسة ولكن محددة. فقد وجهت وسائل الإعلام الرائدة الناطقة باللغة الإنكليزية،  مثل "غلوبال تايمز" و"تشاينا ديلي"، رسالة مشتركة فحواها أن واشنطن لا تعود إلى أفريقيا من أجل أفريقيا نفسها، وإنما للسيطرة على جزء كبير من الجنوب العالمي ومواجهة النفوذ الصيني.

وفي أوساط المحللين الصينيين المتخصصين، ثمة رأي يسلط الضوء على أن أي تسوية محتملة مع الولايات المتحدة في القارة ستكون أهون الشرور مقارنة بخسارة الاستثمارات الاستراتيجية في ظل فوضى الإرهاب. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى هذا الرأي على أنه اتفاق أمني محتمل بين الولايات المتحدة والصين يسعى في نهاية المطاف إلى تقسيم مناطق النفوذ وإرساء "توازن جديد للمسؤوليات بين القوى العظمى".

وتشير فطرة دونالد ترمب السياسية وخبرته، ونصائح مستشاريه إلى أن أفريقيا ليست مجرد قضية هامشية، بل هي اختبار للنظام العالمي؛ مساحة تتصادم فيها القوى المتنافسة: الدين والأمن، الموارد والأيديولوجيا، النفوذ والحضور.

وفي ضوء هذه الصورة لا يبدو تصريح ترمب كإعلان حرب أو "حملة صليبية" جديدة، بل هو إشارة إلى عودة الولايات المتحدة إلى الساحة الأفريقية.

وكما قال ونستون تشرشل: هذه ليست بداية البداية، بل هي مجرد مقدمة للمقدمة. ومع ذلك، فهي تحمل رسائل واضحة تمثل نهاية التقاعس الأميركي في الساحة الأفريقية.

لم يُلقَ النرد بعد، لكن الحجر سقط في بحيرة السياسة العالمية.

وبدأت التموجات بالتوسع على الفور؛ لتمتد من واشنطن إلى أبوجا، ومن باماكو إلى موسكو.

ويبقى السؤال: إلى أي عمق ستمتد هذه التموجات، وهل ستتطور إلى أمواج عاتية؟

font change