مفاوضات سعودية للحصول على "شرائح لا تُقدَّر بثمن"

اقتربت المفاوضات في شأن توريد شرائح "إنفيديا" المتقدمة من الوصول إلى خط النهاية

AFP
AFP
الرئيس دونالد ترامب يُلقي كلمة في القمة السعودية الأمريكية

مفاوضات سعودية للحصول على "شرائح لا تُقدَّر بثمن"

على مدى أشهر من النقاشات المكثفة التي أعقبت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى السعودية في مايو/أيار الماضي، اقتربت المفاوضات الأميركية-السعودية في شأن توريد شرائح "إنفيديا" المتقدمة من الوصول إلى خط النهاية. فالمحادثات التي بدأت كبند تقني محدود خلال الزيارة تحولت سريعا إلى ملف استراتيجي بالغ الحساسية، نظرا إلى أن هذه الشرائح تمثل أحد مفاتيح القوة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، وتملك تأثيرا مباشرا في موازين التكنولوجيا والقوة الجيوسياسية.

الصفقة التي أعلنت للمرة الأولى خلال زيارة ترمب تتضمن حصول المملكة على نحو 18 ألف شريحة من الجيل الجديد لمعالجات شركة "إنفيديا" من طراز Blackwell GB300، وهي واحدة من أقوى الشرائح في العالم لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة وتحليل البيانات العملاقة. وتمثل هذه الشرائح أساس البنى التحتية المستخدمة في تدريب نماذج بحجم تلك التي تعتمد عليها شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى مثل "أوبن أيه أي". كما أن هذه الفئة تحديدا تخضع لقيود أميركية صارمة على التصدير بسبب حساسيتها الاستراتيجية وخطر انتقالها إلى أطراف منافسة، في مقدمها الصين.

وخلال الشهور الماضية، شهد الجانبان مفاوضات تفصيلية تناولت الشروط الأمنية والتكنولوجية المتعلقة بمنع أي تحويل مباشر أو غير مباشر للتكنولوجيا، وضمان استخدامها فقط داخل النطاقات المحددة مسبقا. كما جرى بحث آليات الرقابة الأميركية على تشغيل الشرائح داخل المنشآت السعودية، بحيث تستطيع واشنطن إبقاء قدر من السيطرة والمتابعة المستمرة، في إطار سياسة أميركية تسعى إلى تمكين الحلفاء من التكنولوجيا دون السماح بفقدان التفوق الكامل فيها.

شراكات بحثية

تتحرك السعودية على نحو متواز لبناء بنية تحتية عملاقة تواكب هذه الصفقة. إذ تعمل شركة "هيومين" السعودية على إنشاء مراكز بيانات ضخمة تخطط لبدء تشغيل أولها في مطلع عام 2026، بهدف تحويل المملكة إلى منصة إقليمية لصناعة وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة. ومن المتوقع أن تعتمد هذه المراكز على شرائح "إنفيديا" الجديدة لتوفير قدرة حوسبية هائلة تتيح تدريب نماذج لغوية عربية وإقليمية، وتطوير حلول للقطاعات الصناعية والطبية والتعليمية، وتقديم خدمات حوسبة عالية الأداء للشركات والمؤسسات في الشرق الأوسط.

AFP
مؤسس إنفيديا ورئيسها التنفيذي ألقى جينسن هوانغ كلمة خلال مؤتمر إنفيديا جي تي سي السنوي

ومع الاقتراب من بلورة التفاصيل النهائية للاتفاق، يبدو واضحا أن الصفقة تتجاوز مفهوم شراء معالجات إلكترونية أو تعزيز قدرات مراكز البيانات. فهي تعبر عن تحول استراتيجي أوسع في خريطة القوة التكنولوجية في الخليج. كما تشير إلى دخول السعودية رسميا في سباق الذكاء الاصطناعي على مستوى عالمي، في إطار رؤية تقوم على الانتقال من دولة تعتمد على استيراد التقنية إلى دولة تسعى لتصبح مركزا رئيسا لصناعة الذكاء الاصطناعي في المنطقة.

وفي حال إتمام الاتفاق، سيكون لهذه الصفقة ما هو أكبر من العائدات التقنية والاقتصادية. إذ ستشكل نقطة تحول في مسار التحول الرقمي في المملكة، وستعيد ترتيب موقعها في المشهد الدولي للتكنولوجيا المستقبلية. ومن المتوقع أن تقود إلى شراكات بحثية واستثمارية وتطويرية أوسع، وتعزز التموضع السعودي كقوة صاعدة في الاقتصاد المبني على المعرفة والابتكار.

لم تنظر واشنطن إلى هذه الشرائح باعتبارها سلعة، بل باعتبارها جزءا من تفوقها السياسي والعسكري والتكنولوجي في نظام عالمي تتصاعد فيه المنافسة مع الصين

منذ الإعلان الأول للاتفاق خلال زيارة الرئيس الأميركي الرياض في مايو/أيار الماضي، دخلت الولايات المتحدة والسعودية في سلسلة طويلة من المفاوضات المكثفة حول توريد شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة من شركة "إنفيديا". ورغم أن الإعلان السياسي أعطى انطباعا بأن التنفيذ يصبح مسألة وقت، إلا أن الجانب العملي لم يكن بهذه البساطة؛ فالموضوع لم يتعلق بمجرد صفقة تجارية لشراء معدات، بل بمراكز الثقل في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، وبسؤال جوهري: من يمتلك القدرة الحسابية التي ستقود الثورة التكنولوجية المقبلة؟

AFP
صورة التقطت في مدينة جدة الساحلية السعودية على البحر الأحمر

الصفقة، التي تتضمن حصول المملكة على نحو 18 ألف شريحة من طراز "بلاكويل" GB300 — وهي واحدة من أكثر الشرائح قدرة في العالم على تشغيل وتدريب النماذج اللغوية الضخمة ومعالجة البيانات الفائقة التعقيد — شكلت نقطة تحول تقنية وسياسية في آن واحد. فهذه الشرائح ليست مجرد عتاد حوسبي، بل تمثل جوهر البنية التكنولوجية التي تعتمد عليها الشركات الأميركية الكبرى التي تقود الذكاء الاصطناعي عالميا، مثل "أوبن إيه آي" و"آنثروبيك". ولهذا السبب تخضع هذه المعالجات لواحدة من أكثر منظومات الرقابة على التصدير صرامة في الولايات المتحدة، لأنها لا تقل حساسية عن التقنيات العسكرية من حيث تأثيرها الجيوسياسي.

ليست سلعة

في هذه الخلفية الحساسة، انخرطت جهات عدة من الجانبين في المسار التفاوضي. فمن الجانب الأميركي شاركت وزارة التجارة بصفتها الجهة المخولة منح تراخيص التصدير، بينما تولى مجلس الأمن القومي تقييم الأخطار الاستراتيجية، وشاركت شركة "إنفيديا" في تقديم تفاصيل الاستخدام العملي وإجراءات التشغيل المسموح بها. أما من الجانب السعودي، فقد شاركت وزارة الاتصالات والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى شركة "هيومين" — الجهة التي تتولى إنشاء مراكز البيانات الضخمة التي ستستضيف هذه الشرائح. وهكذا لم تكن المفاوضات تجارية أو مالية فحسب، بل كانت تقنية وأمنية وسياسية واستراتيجية في الوقت ذاته.

لم تنظر واشنطن إلى هذه الشرائح باعتبارها سلعة، بل باعتبارها جزءا من تفوقها السياسي والعسكري والتكنولوجي في نظام عالمي تتصاعد فيه المنافسة مع الصين. لذلك أصرت على ضمانات صارمة في شأن مكان تخزين الشرائح، والجهات المخولة الوصول إليها، ونطاق الاستخدام، وطبيعة الشبكات التي ستدمج فيها، وحظرت بشكل واضح تضمين أي معدات من شركات صينية مثل "هواوي" في مراكز البيانات المرتبطة بها. التخوف الأميركي كان واضحا: أي فرصة صغيرة لتسريب التكنولوجيا أو فقدان السيطرة، تعني خسارة ركيزة أساسية في ميزان القوى العالمي.

السعودية، في المقابل، لم تعترض على وجود ضمانات، لكنها رفضت أن تتحول تلك الضمانات إلى وصاية على سيادتها التقنية. بالنسبة الى المملكة، هذه الشرائح ليست غاية في ذاتها، بل أداة لبناء قدرة وطنية ذاتية، لا مجرد بنية تحتية تدار من الخارج. رؤية السعودية للذكاء الاصطناعي تتجاوز تشغيل خدمات جاهزة إلى امتلاك القدرة الحسابية اللازمة لتطوير نماذج محلية باللغة العربية وبمتطلبات المجتمع والاقتصاد في المنطقة، وتمكين الشركات والجامعات والهيئات من الاستفادة من بنية تقنية لم تكن متاحة قبل سنوات سوى لدى القوى التكنولوجية الكبرى.

لا يتعلق الأمر بقوة معالجة أكبر وحسب، بل بامتلاك مقومات تطوير نماذج لغوية عربية متقدمة، وتحليل كم هائل من البيانات في قطاعات الأمن والطاقة والطب والتعليم

وفي الأسابيع الأخيرة ظهرت مؤشرات عملية الى هذا التوازن. فقد بدأت واشنطن بالفعل في إصدار تراخيص لتصدير شرائح "إنفيديا" إلى الخليج، ولكن في إطار نموذج تشغيل يحافظ على السيطرة الأميركية على التكنولوجيا. العقود تمنح لشركات أميركية تدير بنفسها مراكز البيانات داخل المنطقة، مما يعني أن القدرة الحسابية تنتقل إلى الخليج، بينما يظل تشغيلها خاضعا لمعايير الرقابة الأميركية. بهذه الطريقة تمنح الولايات المتحدة الحلفاء في الخليج القوة الحوسبية التي يحتاجون إليها، لكنها تمنع في الوقت ذاته انتقال التكنولوجيا إلى الصين أو أي طرف منافس، وتربط توسع الذكاء الاصطناعي في المنطقة بمصالح واستثمارات متبادلة مع الاقتصاد الأميركي.

AFP
ضور ضيوف في القمة العالمية للذكاء الاصطناعي 2020 في العاصمة السعودية الرياض

هذا التقدم في المفاوضات لم يكن نتيجة المحاور التقنية وحدها، بل جاء أيضا من طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن. فالتنسيق العميق بين البلدين في ملفات الأمن الإقليمي، واستقرار الشرق الأوسط، والحرب في غزة، والملف الإيراني والسوري، لعب دورا في تخفيف المخاوف الأميركية وتعزيز الثقة التي تسمح بتبادل تكنولوجيا عالية الحساسية بين الطرفين. ولو كانت المفاوضات مع دولة أخرى لا تتمتع بالوزن السياسي والاستراتيجي نفسه، لكان من شبه المستحيل الوصول إلى هذا المستوى من التفاهم.

تمثل شرائح "إنفيديا بلاكويل" GB300 قمة ما وصل إليه الابتكار في عالم الحوسبة والذكاء الاصطناعي، فهي ليست مجرد معالجات فائقة القوة، بل أشبه بعقل صناعي خارق يشغل أضخم نماذج الذكاء الاصطناعي في العالم. تحتوي كل شريحة على أكثر من 200 مليار ترانزستور مدعومة بذاكرة هائلة تبلغ 288 غيغابايت من الجيل الأسرع عالميا، أي ما يتجاوز بمئات المرات قدرة أقوى الحواسيب الشخصية. هذه البنية تمكن الشريحة الواحدة من تنفيذ مئات المليارات من العمليات الحسابية في الثانية، مما يتيح معالجة غير مسبوقة للبيانات، خصوصا في تطبيقات التعلم العميق وتحليل الصور واللغات.

بقدر ما تحمل هذه الصفقة من أبعاد اقتصادية وتقنية، فهي أيضا رسالة سياسية عالمية

وعندما تدمج هذه الشرائح داخل منصة متكاملة من طراز NVIDIA GB300 NVL72 – التي تضم 72 معالج GB300 إلى جانب 36 معالج Grace CPU متصلة عبر شبكة فائقة السرعة – تتحول المنظومة إلى ما يشبه مصنعا ضخما لإنتاج الذكاء الاصطناعي. القدرة الحوسبية الناتجة، تعادل آلاف الحواسيب العملاقة مجتمعة، وهي التكنولوجيا نفسها التي تعتمد عليها الشركات الأميركية الرائدة مثل OpenAI و Anthropic لتطوير نماذجها اللغوية المتقدمة. وبالنسبة للسعودية، فإن امتلاك مثل هذه المنصات داخل مراكز البيانات الجديدة، يعني بناء عقل صناعي وطني قادر على منافسة القوى التكنولوجية الكبرى، وهو ركيزة أساسية لمشاريع الذكاء الاصطناعي ضمن "رؤية 2030".

مراكز بيانات عملاقة

لا يتعلق الأمر بقوة معالجة أكبر وحسب، بل بامتلاك مقومات تطوير نماذج لغوية عربية متقدمة، وتحليل كم هائل من البيانات في قطاعات الأمن والطاقة والطب والتعليم. فهذه الشرائح تمنح المملكة القدرة على بناء منتجاتها وخدماتها الذكية داخل حدودها، دون الاعتماد القسري على الخدمات السحابية الأجنبية — وهذا ما يعرف بـ السيادة الحوسبية: أي التحكم في البيانات ومعالجتها محليا داخل الدولة، بما يضمن الخصوصية، والأمن، والاستقلال التقني.

وسيتم تشغيل هذه الشرائح داخل مراكز البيانات العملاقة التي تشيدها شركة "هيومين" السعودية، التي تستهدف إنشاء أكبر بنية تحتية حوسبية في المنطقة بطاقة تصل إلى عشرات الآلاف من وحدات GPU. وعند اكتمالها، ستتيح هذه المراكز تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي داخل المملكة للمرة الاولى، بما يغير تموضع السعودية عالميا من مستخدم للتكنولوجيا إلى منتج ومصدر للمعرفة الرقمية.

الأهمية الجيوسياسية لهذه التكنولوجيا، لا تقل عن قيمتها التقنية. فشرائح "بلاكويل" تعد من الفئة المقيدة بالتصدير إلى الصين وعدد من الدول، نظرا لاستخداماتها المحتملة في تطوير الذكاء الاصطناعي العسكري والدفاعي. وبذلك فإن موافقة واشنطن على توريدها للرياض تعكس درجة غير مسبوقة من الثقة الاستراتيجية، وتشير إلى أن المملكة أصبحت لاعبا معترفا به في خريطة الذكاء الاصطناعي العالمية.

وتأتي زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 في توقيت مفصلي يشهد إعادة رسم واسعة لخريطة العلاقات السعودية–الأميركية، ليس فقط في ملفات الأمن والطاقة والاستثمارات، بل في التحول الأكبر: الانتقال من عقود النفط إلى عصر الخوارزميات والبيانات. ومن المرجح أن تكون صفقة شرائح "إنفيديا" أحد أبرز ملفات الزيارة، سواء لإعلان القبول النهائي بالاتفاق أو للمساعدة في تسريع مراحله الأخيرة، في ظل الإرادة السياسية الواضحة من الطرفين لتعميق الشراكة التكنولوجية.

وبقدر ما تحمل هذه الصفقة من أبعاد اقتصادية وتقنية، فهي أيضا رسالة سياسية عالمية. فالسعودية لم تعد مجرد مستهلك للتقنيات القادمة من الخارج، بل قوة صاعدة تبني بنيتها الذكية الخاصة، وتدخل سباق الذكاء الاصطناعي بثقة، لا كدولة إقليمية تبحث عن موطئ قدم، بل كطرف دولي يمتلك أدوات النفوذ الجديدة في عالم يتحدد ميزان القوة فيه بقدرة الدول على التحكم في البيانات وإنتاج الذكاء الصناعي.

font change