توقعات "وكالة الطاقة الدولية"... والرسائل المضللة

من "أوهام الحياد الكربوني" إلى مغالطات ذروة الطلب على النفط

المجلة
المجلة

توقعات "وكالة الطاقة الدولية"... والرسائل المضللة

خلال السنوات الأخيرة، كثفت وكالة الطاقة الدولية إصدار إشارات متناقضة أثارت تساؤلات جوهرية عن مدى صدقيتها وسلامة تقريرها الرئيس، "توقعات الطاقة العالمية". فهل تعود هذه التناقضات إلى خلل في نماذج التوقعات المستقبلية أم إلى دوافع سياسية؟ وهل تحولت الوكالة إلى أداة تخدم روايات جيوسياسية متقلبة بدلا من من كونها دليلا محايدا لشؤون الطاقة؟

تحديدا، يطرح إصدار تقرير "توقعات الطاقة العالمية " لعام 2025 هذه الأسئلة، مثيرا الشكوك حول الغاية الأساس مما ورد فيه من توقعات للوكالة.

على مدى السنوات الخمس المنصرمة، أجرت الوكالة تحولات مفاجئة في افتراضاتها الأساسية في شأن ذروة الطلب على النفط، والاستثمار في الوقود الأحفوري، ومسارات الحياد الكربوني. لا تعد هذه التحولات مجرد تعديلات تقنية اعتيادية للنماذج، بل تمثل انقلابات في السرديات التي أثرت بعمق في الاستراتيجيات العالمية للطاقة، وتدفقات الاستثمار، والنقاشات السياسية.

وفقا لسيناريو السياسات الحالية، يتوقع أن يرتفع الطلب على النفط إلى 105 ملايين برميل يوميا في حلول عام 2035، ويصل إلى 113 مليون برميل يوميا في حلول عام 2050

ولم تكن العواقب نظرية فحسب، إذ ساهمت الرسائل المتضاربة التي صدرت عن الوكالة في خلق بيئة دولية تتسم بعدم اليقين. وقد أدى ذلك إلى تأجيل مشاريع حيوية في قطاع المنبع، وأربك الأسواق، وقوض الخطط الطويلة الأجل في كل من القطاعين العام والخاص.

تاريخ من التناقضات ما بين التوقعات وما حدث فعليا

لا تقتصر التبعات على الإضرار بسمعة تقرير "توقعات الطاقة العالمية"، إذ تتعداها إلى تهديد أوسع للثقة التي يضعها صناع السياسات والمستثمرون والمؤسسات في التوقعات المستقبلية للطاقة. في ما يلي ثلاثة من أبرز التناقضات التي تستمر في تقويض الثقة في دور الوكالة كمراقب محايد واستشرافي لمشهد الطاقة العالمي.

في تقرير عام 2023، أكدت الوكالة بوضوح أن الطلب العالمي على الفحم والنفط والغاز "يسير في مسار يؤدي إلى ذروته قبل عام 2030"، وذلك وفقا لسيناريو السياسات المعلنة. ونشرت هذه الرؤية على نطاق واسع في وسائل الإعلام العالمية، واستخدمت كنقطة مرجعية في استراتيجيات التحول الطاقوي، وخطط الحياد الكربوني، وقرارات الاستثمار المؤسسي.

رويترز
صورة جماعية لقادة الدول والوزراء في قمة مستقبل الطاقة، لندن 24 أبريل 2025

كانت حينها الرسالة واضحة: الوقود الأحفوري في طريقه إلى التراجع. لكن في إصدار عام 2025 من التقرير، غيرت الوكالة موقفها بشكل جذري. ووفقا لسيناريو السياسات الحالية، يتوقع الآن أن يرتفع الطلب على النفط إلى 105 ملايين برميل يوميا في حلول عام 2035، ويصل إلى 113 مليون برميل يوميا في حلول عام 2050. وهذا لا يعد مجرد مراجعة طفيفة، بل هو تأجيل كامل لذروة الطلب على النفط لعقدين إضافيين.

هذا التحول المفاجئ بين إصدارين فقط من التقرير، يقوض الثقة في منهجية التوقعات المعتمدة. ما الذي تغير إلى هذا الحد خلال عامين فقط حتى يبرر تأجيل ذروة الطلب لمدة عشرين عاما؟ وهل استند هذا التغيير إلى تحسينات في النماذج؟ أم أنه يعكس إعادة تموضع جيوسياسي؟
في الحالتين، ينطوي هذا التقلب الحاد على تداعيات عميقة.

السردية السابقة لذروة الطلب على النفط

في ضوء السردية السابقة التي روجت لها الوكالة في شأن "الذروة قبل عام 2030"، جرى سحب رؤوس أموال كبيرة من استثمارات طويلة الأجل في قطاعي المنبع والمصب، ولا سيما في مجالات التكرير، وتطوير الحقول الجديدة، وتوسعة البنية التحتية. أُرجئت عشرات المشاريع أو تقلصت، خصوصا في الدول المتأثرة بشروط التمويل المناخي الدولي.

ساهم الانكماش الاستثماري في حقول الطاقة، المستند جزئيا إلى رسائل الوكالة، في تقليص الاحتياطات، وارتفاع تكاليف المشاريع، وزيادة تقلبات الأسعار

وقد ساهم هذا الانكماش الاستثماري، المستند جزئيا إلى رسائل الوكالة، في تقليص الاحتياطات، وارتفاع تكاليف المشاريع، وزيادة تقلبات الأسعار. وفي بعض الأسواق، أدى تراجع الطاقة التكريرية إلى اختناقات في إمدادات المنتجات النفطية الأساسية، مما أدى إلى تآكل أمن الطاقة تدريجيا.

الآن، وبعد أن تبنت الوكالة توقعا جديدا بنمو مستمر في الطلب على النفط، تعود الأسئلة بإلحاح:
من سيردم فجوة الاستثمار؟ وهل يمكن سلاسل التوريد العالمية أن تتوسع بالسرعة المطلوبة لتلبية الطلب من دون التسبب باضطرابات؟

رويترز
حقل غاز في مدينة أورسك الروسية، 28 أغسطس 2025

والأهم، كيف لمستثمري الطاقة الذين يعتمدون على رؤى طويلة الأجل أن يثقوا بوكالة تغير رؤيتها الأساسية بهذا القدر خلال فترة زمنية قصيرة؟

أوهام الحياد الكربوني وتقويض أمن الطاقة العالمي

في مايو/أيار 2021، نشرت وكالة الطاقة الدولية خريطة طريقها الشهيرة بعنوان "الحياد الكربوني في حلول عام 2050"، وأثارت العناوين بإعلانها: "باستثناء المشاريع التي جرى التزامها حتى عام 2021، لا يوجد حقول نفط وغاز جديدة معتمدة للتطوير ضمن مسارنا".

فُسّر هذا التصريح الجريء في الأوساط الحكومية والصناعية على أنه إشارة منسجمة مع السياسات بأن الاستثمار المستقبلي في قطاع المنبع للوقود الأحفوري لم يعد ضروريا.

عمليا، قللت الوكالة أهمية الدور الضروري والمستمر للوقود الأحفوري في تلبية الطلب العالمي، على الرغم من الشكوك المحيطة بجهوزية التكنولوجيا الجديدة، وسلوك المستهلكين، والقيود الجيوسياسية. ولا تزال تبعات هذه الرسالة تتردد أصداؤها في قاعات الاجتماعات الوزارية ومجالس إدارات الشركات والأسواق.

افتراضات الوكالة منفصلة عن الواقع، والمسار المرسوم للحياد الكربوني يعبتر"سيناريو أرض الأوهام"

وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان

وكان أول زعيم في قطاع الطاقة العالمي يواجه هذا التصور هو الأمير عبد العزيز بن سلمان، وزير الطاقة في المملكة العربية السعودية، الذي سارع بعد صدور التقرير بشهر واحد، في يونيو/حزيران 2021، إلى انتقاده علنا. وصف افتراضات الوكالة بأنها "منفصلة عن الواقع"، وأطلق على مسار الحياد الكربوني اسم "سيناريو أرض الأوهام".

استندت رؤيته إلى حقائق أسواق الطاقة، لا إلى نظريات على الورق، مسلطا الضوء على فجوات الاستثمار الهيكلية التي تهدد حاليا أمن الطاقة على المدى البعيد. ففي حين كان الطلب على الطاقة يتعافى بقوة بعد جائحة "كوفيد-19"، كانت الوكالة تشير إلى أن جانب العرض ينبغي أن يتوقف.

وقد أثبتت الوقائع لاحقا صحة هذا التحذير. فبعد مرور ثلاث سنوات فقط، تغيرت توقعات الوكالة بشكل كبير.

إقرأ أيضا: مضيق هرمز وامتحانُ النفط

ففي تقرير "توقعات الطاقة العالمية" لعام 2025، تتوقع الوكالة في إطار سيناريو السياسات الحالية أن الطلب العالمي على النفط لن يشهد ذروة قريبة، بل سيرتفع إلى 105 ملايين برميل يوميا في عام 2035، ثم إلى 113 مليون برميل يوميا عام 2050، كما ذكرنا. وحتى في سيناريو السياسات المعلنة، من المنتظر أن يظل الطلب على النفط قويا بشكل عام خلال العقد المقبل.

توقف مشاريع واستمرار أخرى

من المهم الاشارة الى انه خلال هذه الفترة التي اتسمت بالرسائل المتضاربة، أوقفت العديد من شركات النفط العالمية، لا سيما في أوروبا، مشاريع في قطاع المنبع أو أجلتها، استجابة لضغوط سياسية متصورة أو بسبب رياح معاكسة في بيئة الحوكمة البيئية والاجتماعية.

في المقابل، واصلت شركات النفط الوطنية وبعض الشركات العالمية في آسيا والولايات المتحدة استثماراتها بوتيرتها المعتادة، إذ لم تتبن بالكامل سردية وكالة الطاقة الدولية في 2021. واليوم، أثبتت الوقائع المتعلقة بالطلب، صواب الذين تمسكوا بمواقفهم، في حين يسعى المترددون إلى اللحاق بالركب.

أمن الطاقة العالمي في ميزان التوقعات

يكشف هذا التحول في رؤية الوكالة عن إشكاليات أعمق: إذ كيف يمكن وكالة أعلنت يوما ما "بداية نهاية" النفط والغاز، أن تتوقع اليوم طلبا قياسيا عليهما حتى منتصف القرن؟ هل كانت خريطة الطريق الأصلية نحو الحياد الكربوني مدفوعة باعتبارات سياسية أكثر من استنادها إلى دقة البيانات؟ هل تجاهلت التفاوتات الإقليمية، ومقايضات أمن الطاقة، والشكوك التكنولوجية؟

فشلت وكالة الطاقة الدولية في توقع انتعاش الطلب، وقللت بشكل كبير الدور المستمر للوقود الأحفوري في تلبية احتياجات مليارات البشر الأساسية من الطاقة

والأهم من ذلك، من يتحمل مسؤولية التشوهات الاستثمارية التي نتجت من تلك التوجهات؟

يمثل ذلك فشلا في تحمل مسؤولية التوقعات، له تبعاته على أمن الطاقة العالمي، ومرونة سلاسل التوريد، وتكلفة نقل الطاقة. وكما حذر الوزير الأمير عبد العزيز بن سلمان، يجب أن تحل الواقعية الاستراتيجية محل التخيلات.فلا يمكن العالم أن يوجه نظام الطاقة العالمي من خلال رؤى خيالية ولدت في أرض الأوهام.

ثمن التوقعات المضللة: من يدفع الفاتورة؟

لم تعد التوقعات المتناقضة للوكالة مجرد أخطاء بسيطة، بل أزمات هيكلية. ولقد عززت خريطة الطريق للحياد الكربوني التي نشرتها الوكالة عام 2021 التصور الخاطئ حول تراجع الطلب على النفط، وواجهت المؤسسات المالية ضغوطا للتخلي عن الطاقة التقليدية. وخلال السنوات الخمس المنصرمة، عمل قطاع الطاقة ضمن قيود مصطنعة، لم تفرضها ديناميكيات السوق، بل توجيهات غير دقيقة.

.أ.ف.ب
مصفاة الأحمدي للنفط، جنوب مدينة الكويت، 10 مارس 2022.

واليوم، باتت تبعات هذه المرحلة ملموسة على مستوى العالم. وأصبح أمن الطاقة أكثر هشاشة من أي وقت مضى. عادت التقلبات إلى الواجهة، وتواجه الأسواق الناشئة صعوبات في الوصول إلى التمويل اللازم للبنية التحتية. ومرة أخرى، يدفع الفقراء في العالم الثمن الأعلى نتيجة فشل توقعات النخب.

هذه ليست مجرد هفوة نظرية، بل أزمة ناتجة من سياسات مضللة. فقد قدمت خريطة الطريق التي طرحتها الوكالة رؤية منفصلة عن واقع الجاهزية التكنولوجية، وظروف العرض، وأنماط الاستهلاك العالمية. ولم تدرك حجم نمو الطلب العالمي على الطاقة واستمراريته، خصوصا في عالم يتسم بتفاوتات إقليمية واختلافات في أنماط الاستهلاك. كما أنها فشلت في توقع الانتعاش في الطلب، وقللت بشكل كبير الدور المستمر للوقود الأحفوري في تلبية احتياجات مليارات البشر الأساسية من الطاقة.

السؤال الملح الآن هو: من سيتحمل مسؤولية الشلل الاستثماري الذي أعقب هذه التوقعات الخاطئة؟
من يستفيد من تغيير معالم الطلب على النفط مرارا وتكرارا؟ لا شك أن أمن الطاقة لا يتحمل عقدا آخر يهدر في توجهات استراتيجية مضللة.

font change

مقالات ذات صلة