"ما وراء الأغلفة" لإبراهيم زولي... رحلة في مختبر الوعي الأدبي

الكتاب بوصفه مرآة للقرن وأزماته

علاف كتاب "ما وراء الأغلفة"

"ما وراء الأغلفة" لإبراهيم زولي... رحلة في مختبر الوعي الأدبي

يقدم الشاعر والكاتب السعودي إبراهيم زولي في كتابه الجديد "ما وراء الأغلفة: روائع القرن العشرين"، الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت (2025)، قراءات نقدية ذات طابع خاص في رؤيتها وبنائها، تنبع من إيمان عميق بأن الأدب يشكل التاريخ في أكثر صوره حيوية وتأملا، وأنه الذاكرة التي تكتب تحولات الإنسان والكون معا.

يصف زولي القرن العشرين بأنه مختبر للأفكار، زمن تفككت فيه الأيديولوجيات الكبرى وانهارت الإمبراطوريات، وخرج الإنسان من أطره القديمة إلى فضاء جديد تتقاطع فيه الفلسفة بالشعر، والنقد بالسياسة، والفرد بالجماعة. تلك الرؤية تمنح الكتاب بعدا تأويليا يتجاوز القراءة التقريرية إلى تحليل يرى في النصوص الكبرى تجسيدا لمأزق الإنسان الحديث، وسعيا لفهم ذاته في مواجهة التحول المتسارع للعالم.

يتعامل المؤلف مع "الأعمال المختارة" بوصفها كائنات فكرية تنبعث منها أنوار متبادلة، تتجاور داخل فضاء واحد تتقاطع فيه الأزمنة والتجارب. من "زينب" لمحمد حسين هيكل إلى "الأم" لمكسيم غوركي، ومن "زوربا" لنيكوس كازانتزاكيس إلى "بدرو بارامو" لخوان رولفو، ومن "عوليس" لجيمس جويس إلى "محبوبة" لتوني موريسون، تمتد القراءة كرحلة متواصلة داخل الوعي الإنساني. تلك النصوص، كما يسميها المؤلف، تشكل جغرافيا روحية للقرن العشرين، تجمع بين الفكر والخيال، وتعيد رسم خرائط الروح عبر تعدد الأصوات والرؤى.

من الغلاف إلى ما وراءه

يحمل عنوان الكتاب بعدا جماليا يتجاوز سطح العبارة نحو أفق رمزي أوسع، فـ"ما وراء الأغلفة" يشير إلى نزعة الكاتب في العبور من الملموس إلى الخفي، ومن المظهر إلى الجوهر الذي يختبئ داخل النصوص. ففي مقدمة الكتاب يصف زولي الغلاف بأنه السطح الذي يخفي ما يراد السكوت عنه، ومن هذا التوصيف تبدأ رحلته النقدية التي تماثل فعل التنقيب، إذ يتجه نحو الأعماق باحثا عن النبض الأول الذي منح العمل الأدبي طاقته الحية واستمراره في الذاكرة.

في قراءته لرواية "زوربا"، يرى زولي أن كازانتزاكيس كتب عن الروح في ذروة اشتعالها، وهي تخوض صراعا بين التمرد والانتماء، بين الرقص والانطفاء. فزوربا يرقص كي ينجو من فلسفة الخراب، ويخلص الجسد من ثقل الفكرة. هذا التصور الذي يجمع بين التجربة الإنسانية والفلسفية يمنح الكتاب حسا شاعريا يتداخل فيه النقد بالتأمل.

يصف زولي الغلاف بأنه السطح الذي يخفي ما يراد السكوت عنه، ومن هذا التوصيف تبدأ رحلته النقدية التي تماثل فعل التنقيب

أما في قراءته لخوان رولفو في "بدرو بارامو"، فيستكشف الكاتب العالم المكسيكي كقرية تنبض بالحياة والموت معا، حيث تتشابك الأزمنة وتتحول الذاكرة إلى نسيج سردي متكامل، وتغدو القراءة في هذا السياق فعلا بحثيا عميقا عن اللغة التي تشكل الوعي الجمعي وتمنح النص روحه المتجددة.

غلاف رواية"بيدرو بارامو"

يتتبع زولي في "المسخ" لكافكا صورة الإنسان الذي غدا كائنا غريبا نتيجة انكسار المعنى في داخله أكثر من تحوله الجسدي. ويرى أن العالم، كما يصوره كافكا، ازداد قسوة وجمودا حتى انكمش على ذاته. لتتحول القراءة هنا إلى تأمل عميق في الفقد الوجودي، إذ يستيقظ غريغور سامسا ككائن يواجه صمت اللغة وانطفاء قدرتها على التعبير.

علاف رواية "المسخ"

يمتد هذا الوعي المنكسر في تحليله لقصيدة "الأرض اليباب" لإليوت، حيث يرى أن الشاعر أعاد تركيب أنقاض الحضارة الغربية في شكل قصيدة طويلة تماثل صلوات الخراب. النص بالنسبة إلى زولي يمثل شهادة روحية، يقول: "الأرض اليباب" تعكس قلق وحيرة القرن العشرين وتساؤلاته حول المعنى والوجود.

غلاف ديوان"الأرض الخراب"

وفي قراءته "عوليس" لجيمس جويس، يكتشف في تعدد اللغات والأصوات ما يشبه متاهة الوعي، إذ تتحول اللغة عند جويس إلى فضاء يتصارع فيه النظام والفوضى معا. وهكذا يواصل زولي تفكيك مظاهر الحداثة الأدبية، كاشفا عن علاقتها الوثيقة بتحولات الإنسان في مجتمعه وتاريخه.

أصوات الهامش والحرية

في "الجنس الآخر" لسيمون دو بوفوار، يقدم زولي قراءة تتجاوز حدود الفكر النسوي وتمتد إلى فهم الوجود ذاته من منظور المرأة. من خلال هذا الاقتراب، يظهر ميل الكاتب إلى تحليل النصوص بوصفها حقولا فكرية أكثر منها قضايا اجتماعية.

أما في قراءته لرواية "محبوبة" لتوني موريسون، فيرى أن الرواية تفتح أفقا أوسع من موضوع العبودية، إذ تكشف عن ذاكرة تنبعث من تحت الركام وتواصل حضورها رغم محاولات الإلغاء. يقول زولي: "محبوبة تمثل شهادة روحية ووجدانية تصرخ من عمق التاريخ، وتعيد كتابة الألم بلغة الخلاص"، هذا المنظور الإنساني يربط بين المرأة والحرية، ويصل بين الماضي بوصفه جرحا والحاضر بوصفه محاولة للعلاج.

يخصص زولي في كتابه فصولا لأعمال فكرية عربية وعالمية، في محاولة لرسم خريطة التفاعل الثقافي بين الشرق والغرب؛ ففي تحليله لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، يراه نصا مفصليا في إعادة التفكير في علاقة الدين بالدولة، إذ يفتح الباب أمام رؤية عقلانية للمقدس من داخل التجربة الإسلامية ذاتها.

ثم ينتقل إلى كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، فيتناوله بوصفه عملا يقلب الموازين بين المراقِب والمراقَب. بهذه المقاربة، يضع زولي القارئ أمام مفهوم جديد للنقد الثقافي، قائم على الحوار لا الصدام.

يخصص زولي في كتابه فصولا لأعمال فكرية عربية وعالمية، في محاولة لرسم خريطة التفاعل الثقافي بين الشرق والغرب

ويتوقف عند "تكوين العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، فيرى فيه محاولة لتفكيك البنية المعرفية للعقل العربي واستعادته في ضوء التراث. ثم يمر على "تاريخ الجنون" لميشال فوكو، فيقرأه ككشف لطريقة المجتمع في صناعة المختلف، ويرى أن فوكو حول الجنون إلى مرآة للعقل ذاته. بهذا الربط، يؤسس زولي لخطاب نقدي يتجاوز الجغرافيا ويعيد تعريف العلاقة بين الفكر الإنساني وتاريخه.

الحداثة كلعبة لغوية وفكرية

يتضح في هذا الكتاب أن زولي ينظر إلى الحداثة بوصفها تحولا في بنية الإدراك قبل أن تكون تحولا في الشكل. في قراءته لمسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، يكتب أن المسرحية تطرح سؤال الزمن المؤجل، حيث الانتظار فعل ميتافيزيقي يختبر قدرة الإنسان على البقاء في الفراغ، أما في تناول "المياه كلها بلون الغرق" لإميل سيوران، فيرى أن الكاتب الروماني كتب فلسفة اليأس، إذ جعل من اللغة ملجأ ضد عبث الوجود.

ثم يصل إلى رواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، فيعتبرها مختبرا للمعنى، حيث تتحول المكتبة إلى كون رمزي، والنص إلى لعبة معرفة لا تنتهي. ويرى رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز ملحمة الزمن الدائري، حيث يعود فيه كل شيء ليبدأ من جديد.

ينظم زولي كتابه في ثلاثين فصلا تتوزع بين الأدب والفكر والفلسفة. كل فصل يبدأ بمقطع تعريفي موجز بالعمل، ثم يقدم قراءة تمتزج فيها الرؤية الجمالية بالفكرية. البنية أقرب إلى الرحلة منها إلى الدراسة الأكاديمية، إذ يتحرك من نص إلى آخر وفق خيط خفي من الأسئلة: معنى الحرية، عزلة الإنسان، علاقة الشرق بالغرب، وسؤال الهوية الثقافية.

اللغة التي يعتمدها الكاتب ذات طابع شعري متزن، تنبض بالإيقاع والصفاء. فهي لغة نقدية محملة الدهشة، تنسج المعنى عبر الصورة والمجاز، وتجنح أحيانا إلى التضمين الشعري. يقول المؤلف إن "كل عمل في هذه القائمة يحمل في طياته دعوة للتأمل في الإنسان ومصيره"، وهو بذلك يختصر منهجه في الكتابة، حيث يلتقي النقد بالشعر في فضاء واحد من الحضور الجمالي والعمق التأملي.

يبدو "ما وراء الأغلفة" امتدادا لروح الشاعر، الذي عرف بدواوينه "رويدا باتجاه الأرض" (1996)، و"الأجساد تسقط في البنفسج" (2006)، و"تأخذه من يديه النهارات" (2008)، و"حرس شخصي للوحشة" (2015)، و"أغان سيئة السمعة" (2022)، فالمسافة بين القصيدة والنقد في تجربته قصيرة، كلاهما محاولة للإمساك بالجوهر، وهو ما نلمسه في هذا الكتاب من وعي نقدي يتغذى من التجربة الشعرية ذاتها، حيث تكتب القراءة بوصفها إبداعا موازيا للنص.

يشير المؤلف إلى أن "القرن العشرين انتهى زمنيا، لكنه يقيم في وعينا ما دام الأدب شاهدا عليه"

يعيد زولي قراءة تلك الأعمال داخل وعيه الخاص، متأملا سر خلودها وأثرها في تشكيل وعي القرن. وتمنح هذه الرؤية الكتاب طابعا يجمع بين الموسوعي والتأملي، إذ يختبر حدود النقد في اقترابه من الفلسفة، ويكشف كيف يتداخل الفكر مع بلاغة الشعر في بنية واحدة منسوجة بالحس والمعرفة.

يشير المؤلف إلى أن "القرن العشرين انتهى زمنيا، لكنه يقيم في وعينا ما دام الأدب شاهدا عليه"، وهي فكرة تكشف جوهر مشروعه. فالأدب يقرأ كحياة تتجدد في الحاضر وتواصل حركتها في الوعي الإنساني.

font change

مقالات ذات صلة