إدوارد سعيد وأصول المواجهة الثقافية

ضرورة الاشباك مع النخب الغربية

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

إدوارد سعيد وأصول المواجهة الثقافية

تزامنا مع حرب الإبادة الهمجية لتي تشنُّها إسرائيل على أبناء الشعب الفلسطيني من سكّان قطاع غزة، تستعر جبهة أخرى لا تقلّ شراسة عن القصف والتدمير هي حرب السرديّات بما تنطوي عليه من مواجهات ثقافية ومعرفية وأخلاقية في ميادين السياسة والإعلام تُوظَّف فيها أسلحة التضليل وتحريف الواقع ويُستعان فيها بالخوارزميات والذكاء الاصطناعي في ما يجوز وصفه بسياسة الاستعمار الرقمي التي تقوم على التلاعب بعواطف البشر وتوجيه مواقفهم إزاء ما يدور حولهم في عالم تتراجع فيه القيم على نحو يدفع إلى إعادة التفكير في جملة من المفاهيم التي كنا نعتقد أنها باتت من المسلّمات.

وسط هذا المشهد الكئيب لعالم لم يعد صنّاع القرار فيه يأبهون كثيرا بمواقف ناخبيهم ممّا يجرى خارج حدود بلدانهم، وباتوا يمارسون فيه سياسات كمّ الأفواه وتقييد الحريّات والتغاضي عن خطاب كراهية وإبادة صريح بذرائعية مبتذلة، وسط هذا كله، يبدو بديهيا استحضار سيرة وإرث المفكر والناقد الفلسطيني الأميركي الراحل والذائع الصيت إدوارد سعيد، الذي كان ولا يزال، حتى بعد رحيله، واحدا من أبرز الأصوات التي حفظت لقضية الشعب الفلسطيني مكانتها المستحقة على خريطة النقاش الثقافي والفكري العالمي بما راكمه من إرث معرفي ومن مقاربات إنسانية شجاعة وعميقة لواحدةٍ من أعدل قضايا الزمن المعاصر وأكثرها تعرُّضا للإجحاف.

حرب سرديّات

لولا أن الموت خطف سعيد باكرا، لكان اليوم يُطفئ شمعة ميلاده الثامنة والثمانين في لحظة من أشدّ لحظات القضية الفلسطينية مرارة وبؤسا وانكشافا على انفلاتٍ محموم لقوّة إسرائيل العارية المدفوعة بتواطؤ مراكز صنع القرار السياسي الغربيّ مع حملة جديدة من حملات إبادة للفلسطينيين ماديا ورمزيا، وما يواكبها من مساعٍ لطمس سياقٍ تاريخيّ وإنساني يراد له أن يصبح كأنّه من روايات الأساطير بهدف فرضِ سرديّة تختزل فلسطين وشعبها بفاعل سياسيّ أو عسكريّ.

آمن سعيد بلزوم خوضِ المواجهة الثقافية انطلاقا من وجوب "استحواذ النضال الفلسطيني على اهتمام العالم وأفكاره"

لقد أدرك إدوارد سعيد حساسيةَ المواجهة الثقافية والنضال الحركيّ اللذين رآهما مكوّنَين أساسِيَّين في حرب هي حربُ سرديّات هدفها الهيمنة على الخطاب العام والتحكّم فيه، إذ لا يكتفي الاحتلال، بوصفه امتدادا للإرادة الكولونيالية، بالاستيلاء على الحيِّز الجغرافي لضحاياه، بل لا بدّ من تطهير الرواية منهم، ما يستدعي إعادة كتابة قسريةٍ للتاريخ، مثلما للحاضر والمستقبل. من هنا، آمن سعيد بلزوم خوضِ المواجهة الثقافية انطلاقا من وجوب "استحواذ النضال الفلسطيني على اهتمام العالم وأفكاره"، متسائلا عن سبب عدم بروز النضال الفلسطيني "كصراع أخلاقي عظيم أسوة بنضال جنوب أفريقيا، وفقا لوصف مانديلّا"، وكثيرا ما أكّد كتابة ومُشافهة أنّ مجرّد الحديث عن السلام لا يكفي، بل يتعيّن على النضال الفلسطيني تقديم "الأسس المادية له، الناتجة من رؤية أخلاقية بعيدة حتى عن البراغماتية أو الذرائعية، إذ "يجب أن لا نستحوذ على خيال شعبنا فحسب، بل ينبغي أن نستحوذ على خيال مضطهِدينا أيضا، وأن نتمسّك بالقيم الإنسانية الديموقراطية سبيلا إلى التأثير في السرديّة السائدة للصراع ولتعبئة الرأي العام العالمي والتعاون مع ناشطي السلام في إسرائيل والعالم".

 

اشتباك مع النخب

انطلاقا من اشتباكه المعرفي والمعيشي مع المجتمع الثقافي الغربي ممثَّلا بدوائر النخبة الأميركية، حيث شكَّل المثقفون اليهود نسبة راجحة في صداقاته وعلاقاته المهنية والإنسانية، كان سعيد متنبّها إلى أهمية عدم السماح للارتجال والعنف بتشويه النضال الفلسطيني من قِبَل الدعاية الإسرائيلية التي تساندها شبكات من مراكز الفكر والإعلام في أميركا وسائر العالم الغربي الذي ما فتِئ يتطهّر من عقدة ذنبه إزاء ما فعله في حق مواطنيه اليهود بالتسبّب في كارثةٍ لشعبٍ آخر لا تقلّ فظاعة عن سابقتها.

Getty Images

استنادا إلى ما راكمه من فهمٍ عميقٍ لديناميات الوعي السياسي والفكري الغربي، وهو الفينومينولوجي الذي قضى ردحا من حياته منكبّا على دراسة بنى السلوك والإدراك والتنظير فيها، خاض إدوارد سعيد معركته الثقافية الضروس بثقة واستبسال نادِرَين، ونجح إلى درجةٍ كبيرة في تحدّي ترسانة فكرية وإعلامية مهولة قوامها مراكز بحث ومؤسسات ودول، وصفها بكونها واحدة من "أكبر وأرهب الآلات الدعائية في العالم"، بينما كان هو فردا أعزل إلا من وعيٍ متّقِد ولغةٍ ثاقبة وإيمان راسخ بعدالة قضيته وطابعها الإنساني قبل كلّ شيء.

وقد نجح إدوارد بحسب ما يشير إليه تمُثي برنَن، مؤلّف كتاب السيرة الذاتية لسعيد، الذي صدرت ترجمته العربية بعنوان "أماكن الفكر"، في دفع كثيرين من مؤيّدي إسرائيل إلى مراجعة مواقفهم وآرائهم، حتى أنّ ماري كاي ويلمرز، الشريكة المؤسِّسة ورئيسة تحرير مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" في ذلك الوقت، المعروفة بتأييدها الأعمى لإسرائيل كتبت تقول في إحدى مقالاتها إنّ "لدى الفلسطينيين قضية ذات حجّة مُفحِمة".

 

اليهوديّ الأخير

يشير المؤرّخ المتخصص في التاريخَين اليهودي والإيرلندي إيدان بيتّي إلى أنّ سعيد وبشهادة الصحافي الاستقصائي اليهودي الأميركي إيزيدور فينشتاين ستون استطاع أن يجعل من قضية شعبه المضطهد والمطرود قضية لا تقل حساسية عن قضية يهود أوروبا. حتى أنّ سعيد في سنواته الأخيرة، "التي اتسمت بالكثير من الشجاعة في التعبير"، بحسب ما يلفت إليه بيتّي، بدأ يطلق على نفسه اسم "المثقف اليهودي الأخير"، ورأى أن أنصار إسرائيل ليس لديهم أي فكرة عمّا "يعنيه أن يكون المرء مثقفا يهوديا ملتزما اليهودية الدنيوية والعدالة العالمية"، مشيرا إلى أن جيمس بالدوين ومالكولم إكس كانا رفيقَي روحه.

في مقالة بعنوان "إدوارد سعيد المحاصر بالأعداء" نُشِرت في موقع مجلة "تيارات يهودية"، يشير نوبار هوفسيبيان، وهو أستاذ مشارك في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة تشابمان بكاليفورنيا، وناشرٌ وصديقٌ شخصي لسعيد إلى أنّ الأخير كتب في رسالة غير منشورة تحمل عنوان "رسالة مفتوحة إلى المثقفين الأميركيين اليهود" يقول "يتعيّن علينا إمّا أن نناضل من أجل العدالة والحقيقة والحق في النقد المُخلص، أو أن نتخلى ببساطة عن لقب المثقّف".

نجح في تحدّي ترسانة مهولة قوامها مراكز بحث ومؤسسات ودول، وصفها بكونها واحدة من "أكبر وأرهَب الآلات الدعائية في العالم"

كان سعيد يردُّ على ما اعتبره وباء سوء النية السائد بين طبقة من المثقفين اليهود الأميركيين في أيامه ودعمهم غير المشروط لإسرائيل ولسياساتها القائمة على تجريد الفلسطينيين من الإنسانية وشيطنتهم وتدمير حياتهم. غير أن سعيد، الذي كان محاطا بالأعداء، كما يقول هوفسيبيان، لم يركن إلى اليأس والانكفاء، فكان له من الأصدقاء ما ساعده على احتمال قسوة الاغتراب التي لطالما تحدّث عنها والتي بدأت من اسمه على حد قوله ولم تنته حتى بعد إقامته في أميركا لعقود وحصوله على جنسيتها.

 

العام والشخصي

 كان الشخصي متواشجا مع الفكري بحرارة نادرة في سيرة إدوارد سعيد التي كأنما كانت كناية عن سيرة فلسطين. من أبرز المفارقات التي لازمت حياة هذا المفكر، الذي عاش "خارج المكان" "متأملا في المنفى"، ما يرويه في إحدى مقابلاته قائلا إنه وضَع كلِمتَي "القدس، فلسطين" في مربَّع مكان الولادة في طلب الحصول على جواز السفر الأميركي، وحين وصله الجواز وجد أن إدارة الجوازات كتبت عبارة "القدس، إسرائيل" بدلا من "القدس، فلسطين" فأعاد الجواز مع رسالة اعتراض أجابت عليها إدارة الجوازات بقولها "إن فلسطين لم تعد موجودة"، ليردّ سعيد برسالة تقول "لكنني حين ولدت في القدس، لم تكن إسرائيل موجودة أصلا"، ولم يكن أمام إدارة الجوازات من خيار سوى أن تصدر له جواز سفر يشير إلى "القدس" فقط، مكانا لولادته.

على أنَّ سعيد، الذي عُرف عنه إصراره على استقلالية المثقف ويقظته، كيلا يغدو تابعا للسياسي، أدرك لزوم انخراطه في الحركة الوطنية وفي مقاربة السياسة نقديا واستشاريا وعدم الاكتفاء بالدور التمثيلي، ومن هنا جاءت عضويته في المجلس الفلسطيني بصفة عضو مستقل ترجمة لتطلعاته الحركية وإيمانه بثقافة الاشتباك، قبل أن يستقيل من المجلس احتجاجا على اتفاقات أوسلو التي رأى فيها تفريطا بحقوق الفلسطينيين ورضوخا غير مبرَّرٍ للإسرائيليين. قبل ذلك، كان إدوارد كتب أول كلمة ألقاها ياسر عرفات في الأمم المتحدة سنة 1974 مُضمّنا إياها ما أنه يلقى آذانا صاغية لدى الجمهور الغربي عامة، والأميركي على وجه الخصوص. وكانت تلك من المرات النادرة التي أخذ فيها عرفات بنصيحة سعيد الذي تعمّق افتراقه عن القيادة الفلسطينية ليصل ذروته في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو.

في فلسطين التي توخّاها إدوارد سعيد ونظَّر لها، يقترن التحرر بالديموقراطية والنقد الذاتي ومواجهة الحقائق الصعبة

العنف عجز سياسي

في فلسطين التي توخّاها إدوارد سعيد ونظَّر لها، يقترن التحرر بالديموقراطية والنقد الذاتي ومواجهة الحقائق الصعبة من قبيل أنَّ "زعماءَ نضالنا ليسوا مُنتَخَبين ديموقراطيا كما هي العادة، وأننا نعيد إنتاج الفساد والمحسوبية في كلّ جيل، وهذه كارثة أخرى" كما يصفها سعيد في مجموعة مقالات بعنوان "خيانة المثقفين"، وأننا متقاعسون ولا نبذل ما يكفي لناحية الانخراط مع المثقفين وناشطي السلام والمؤرّخين والأكاديميين اليهود، سواء في إسرائيل أو في خارجها، لتشكيل جبهةٍ غايتها ابتكار مساراتٍ وممكنات إنسانية خارج الاستغلاق العسكري المستحكِم بالنخبة السياسية في إسرائيل، ولطالما دعا إلى التواصل والتفاعل مع شخصيات من أمثال أميرة حاس وجدعون ليفي وديفيد غروسمان وإسحاق لاور وإيلان بابيه وآخرين متسائلا آنذاك عن غياب ترجماتِهم إلى العربية.

Getty Images
ادوارد سعيد عام 2003.

رأى سعيد في العنف عجزا سياسيا، وكان له موقفه النقدي الحذِر من النضال المسلّح، إلا أنه لم يُغفِل التذكير بين الفينة والأخرى بأن المنطقة عرفت الإرهاب في أول أشكاله الحديثة على أيدي العصابات الصهيونية وظهيرها الاستعماري الذي لم يكتف باقتلاع الشعب الفلسطيني من حيّزه الجغرافي، بل أراد من خلال سطوته الثقافية طمس الهوية الفلسطينية وإعادة كتابة التاريخ بتقديم رواية لا مكان فيها لفلسطين والفلسطينيين.

ليس استذكار إدوارد سعيد اليوم من باب التفجُّع أو تكرار الرثاء، بقدر ما هو دعوة إلى إعادة المعركة الثقافية إلى الواجهة والتساؤل عن موقع سردية فلسطين وأهلها في الخطاب الثقافي العالمي، لا سيّما أن عواصم العالم وشوارعها تشهد صحوة ضميرية غير مسبوقة تعكسها حملات التضامن مع الفلسطينيين ورفض المواقف السياسية الرسمية لصنّاع القرار في الغرب. ثمّة حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى استلهام سيرة سعيد وتوظيفها في جهد مؤسّسي فاعل يلتقط هذا الزخم ويبني عليه في مخاطبة الآخر بلغته وبفهم لمحدّدات وعيه.  

font change

مقالات ذات صلة