مأزق كردستان مع تشكيلة البرلمان العراقي الجديد

غياب آلية سياسية واضحة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
احتفال أنصار رئيس الوزراء العراقي الحالي عقب إعلان النتائج الأولية للانتخابات في بغداد في 12 نوفمبر 2025

مأزق كردستان مع تشكيلة البرلمان العراقي الجديد

تبلورت الخريطة السياسية الجديدة في العراق، حسب نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرا، فيما يسود إقليم كردستان مناخ سياسي "قلق". فالنتائج العامة لم تفرز أية كتلة برلمانية "مهيمنة"، تستطع كتل الإقليم أن تتعامل وتتوافق معها على آلية تشكيل مؤسسات السلطة الجديدة، أو تتمكن من التوصل إلى توافقات بشأن الملفات الاقتصادية والسياسية والإدارية العالقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية.

كذلك أظهرت النتائج تقاربا في عدد من المقاعد بين الحزبين الرئيسين في الإقليم، إذ تقدم "الاتحاد الوطني الكردستاني" على حساب قوى المعارضة الرئيسة، ما سيشكل عائقا مضافا أمام قدرة الحزبين الرئيسين في الإقليم على تشكيل الحكومة المحلية المنتظرة منذ عدة أشهر.

تشتت المركز

لأكثر من عقدين كاملين، كان إقليم كردستان يضبط علاقته مع المركز عبر الإصرار على أن "التوافقية" هي أساس العملية السياسية في العراق الجديد. فخلال المفاوضات الماراثونية التي سبقت تشكيل مختلف الحكومات الاتحادية العراقية السابقة، كانت القوى السياسية الكردية تصر على وجود مستويين من التفاوض والتوافق السياسي الواجب حصوله: الأول عمومي، بين مختلف القوى داخل قبة البرلمان، بغية تشكيل الكتلة الأكبر لانتخاب رؤساء الجمهورية والبرلمان وتشكيل الحكومة، حسب العرف السياسي التوافقي/التوزيعي في العراق الجديد. والآخر توافق ثنائي، بين الجهة التي ستشكل الحكومة الجديدة وإقليم كردستان نفسه، حول الملفات العالقة والواجب تفعيلها خلال عمر الحكومة الجديدة.

خلال حكومتي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي (2006-2014)، ومن بعده حكومات رؤساء الوزراء حيدر العبادي وعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي ومحمد شياع السوداني، كان ذلك التوافق الثنائي يمر بسلاسة معقولة، بسبب وجود كتلة برلمانية وازنة راعية وداعمة للحكومة الاتحادية المشكلة، مؤلفة بالأساس من التيارات السياسية العراقية "الشيعية" الثلاث الأكثر شعبية، المجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب "الدعوة"، التي انتظمت خلال مختلف تلك المراحل ضمن مظلة ما عرف بـ"البيت الشيعي". فطوال هذه السنوات، وأيا كانت النتائج التي تحصل عليها الأحزاب الشيعية الرئيسة، ورغم الكثير من تناقضاته الداخلية، فقد كانت تتوالف ضمن تلك المظلة البرلمانية الداعمة والمشكلة للحكومة، وكانت القوى السياسية في إقليم كردستان تتوصل معها إلى توافقات بشأن المسائل العالقة مع الإقليم، وإن كان الإقليم يشكو على الدوام من عدم تنفيذها لاحقا.

لأكثر من عقدين كاملين، كان إقليم كردستان يضبط علاقته مع المركز عبر الإصرار على أن "التوافقية" هي أساس العملية السياسية في العراق الجديد

راهنا، يبدو أن خلق تلك الكتلة الصلبة أمر بالغ الصعوبة. فكتلة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني (الإعمار والتنمية) كان يتوقع لها أن تكون "حاسمة" في تحديد شكل البرلمان الحالي، لم تحصل إلا على 46 مقعدا، أي قرابة 15 في المئة من مجموع مقاعد البرلمان فحسب، ولذلك صار من المستحيل أن تكون قادرة على صناعة "قطب وطني"، عبر التحالف مع القوى السنية والكردية الفائزة، في مواجهة الكتلة "الشيعية" التقليدية، المقربة من إيران. فالتيار الصدري حصل في الانتخابات البرلمانية السابقة على ضعف هذا الرقم تقريبا، وتحالف مع الحزبين الرئيسين في البيئتين السنية والكردية، ومع ذلك لم يتمكن من تكوين الأغلبية البرلمانية، رغم وصول التوتر بين أنصار التيار الصدري ونظرائهم من "الحشد الشعبي" الداعم للقوى الشيعية النظيرة إلى درجة الانفجار.

حسب ذلك، فإن إقليم كردستان، وعبر حزبيه الرئيسين في البرلمان الجديد، سيكون مضطرا للعودة والتفاوض مع الأحزاب الشيعية المؤيدة لـ"الحشد الشعبي"، المنضوية ضمن تحالف "الإطار التنسيقي".

رويترز
موظفو الانتخابات في أحد مراكز الاقتراع، بعد إغلاق صناديق الاقتراع للانتخابات البرلمانية، في الموصل، العراق، 11 نوفمبر 2025.

لكن القوى الكردية ستعاني في ذلك السياق من عدة معضلات جوهرية: فقوى الإطار نفسها مشتتة إلى تيارات شبه متساوية من حيث القوى البرلمانية، فكتل مثل "صادقون"، التي تشكل الواجهة السياسية لـ"عصائب أهل الحق"، و"قوى الدولة" المعبرة عن "تيار الحكمة الوطني" برئاسة رجل الدين عمار الحكيم، وحزب "الدعوة" بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي و"منظمة بدر" بقيادة هادي العامري، حصلت على نسب برلمانية شبه متساوية، تتراوح بين 15-25 مقعدا، وبذا ستحتاج إلى زمن طويل لتتفق على برنامج وخطة سياسية واضحة فيما بينها، وستجد صعوبة في بلورة موقف واحد وواضحة من القضايا العالقة مع إقليم كردستان، وستحاول الكثير منها المراوغة على "التناقضات السياسية الداخلية" لـ"الخصوم"، سواء في إقليم كردستان أو ضمن الأوساط السنية.

المعضلة الأخرى بالنسبة للقوى الكردية ستكون في غياب معارضة داخلية "وطنية" ضمن البرلمان الحالي. فمقاطعة التيار الصدري، والخسارة الواسعة التي منيت بها جميع التيارات المدنية والوطنية في البلاد، بما في ذلك الأحزاب اليسارية والمدنية والمؤيدة لـ"انتفاضة تشرين" 2019، ستضيف زخما للقوى "المناهضة" لمطالب إقليم كردستان.

قوى الإطار نفسها مشتتة إلى تيارات شبه متساوية من حيث القوى البرلمانية

استراتيجية تفاوض

في حديث مطول مع "المجلة"، يشرح مصدر سياسي كردي ما يعتبره رؤية أولية للتعامل مع التوازنات السياسية التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية الجديدة، مبنية على أساس التمركز في خانة "الثلث المعطل"، إلى حين الحصول على توافقيات واضحة وناجزة. ويضيف: "قبل أربع سنوات، وبينما كان التحالف الثلاثي الذي ضم التيار الصدري وحزب (تقدم) بقيادة الرئيس الأسبق للبرلمان محمد الحلبوسي و(الحزب الديمقراطي الكردستاني" يشكل كتلة تضم أكثر من نصف مقاعد البرلمان، فإن الأحزاب المقربة من إيران، والداعمة لفصائل "الحشد الشعبي)، دفعت المحكمة الاتحادية لإصدار قراءة تقول إن انتخاب رئيس الجمهورية يتم فقط بحضور ثلثي أعضاء البرلمان، وتاليا منحتهم أداة منع تشكيل أية حكومة عراقية جديدة، ولو بوجود تلك الأغلبية (النصف+1)، ما أفشل التحالف الثلاثي وأخرج التيار الصدري من العملية السياسية. اليوم يمكن استخدام نفس الآلية ضد القوى التي اجترحت ذلك العرف. فحسب أرقام الكتل والتحالفات الأولية، ستستطيع المظلة الضامة لأحزاب (الإطار التنسيقي) مع حزب (تقدم) و(الاتحاد الوطني الكردستاني) تشكيل الأغلبية البسيطة ضمن البرلمان، لكنها لن تكون كافية لتشكيل نسبة الثلثين، وتاليا انتخاب رئيس للجمهورية وفتح المجال أمام تشكيل الحكومة الجديدة".

ستستطيع المظلة الضامة لأحزاب "الإطار التنسيقي" مع حزب "تقدم" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" تشكيل الأغلبية البسيطة ضمن البرلمان، لكنها لن تكون كافية لتشكيل نسبة الثلثين

يضيف المصدر في حديثه مع "المجلة" متابعا: "لن يحدث ذلك، لأن هناك الكتل البرلمانية الأخرى، غير المتوافقة مع هذا التحالف غير المعلن، ولن تمنح هذا التحالف القدرة على عقد جلسة انتخاب الرئيس، وتاليا إعاقة تشكل مؤسسة السلطة الجديدة في البلاد. ففي الفضاء الشيعي ثمة كتلة رئيس الوزراء الحالي وتستحوذ على 46 مقعدا، وثمة (الحزب الديمقراطي الكردستاني) ويملك 27 مقعدا، وكتلتا (الحسم) و(العزم) السنيتان المناهضتان لكتلة الحلبوسي، وتستحوذان على 35 مقعدا، الذين يشكلون معا قرابة 120 مقعدا، أي أكثر من ثلث مجموع مقاعد البرلمان (329 مقعدا)، وتاليا امتلاك القدرة على دفع ذلك التحالف للتفاوض معهم طويلا، وعلى أصغر التفاصيل. لكن تلك القدرة تتوقف على عاملين حاسمين، الأول هو عدم قدرة الكتلة المركزية على تفتيت كتلة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، عبر شراء الولاءات والإغراء بالمناصب، مثلما فعلت مع كتلة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي عام 2010. الشرط الآخر هو عدم ممارسة ضغوط هائلة على الكتل السنية المعارضة للحلبوسي بغية دفعها للتخلي عن (الحزب الديمقراطي الكردستاني) ورئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. لكن، وفي جميع هذه الاحتمالات، فإن الخيارات هي إما تشكيل حكومة بقيادة التحالف المقرب من إيران، وقليلة التعاون في الملفات العالقة مع كردستان، وتاليا مواجهة العراق لظرف سياسي ومالي وأمني صعب للغاية. أو امتداد المفاوضات لعدة أشهر، وتاليا إمكانية إعادة الانتخابات مرة أخرى، مع عودة التيار الصدري للمشهد السياسي".

تغيرات في المناطق المتنازع عليها

إلى جانب المنافسة/المزاحمة السياسية الكبرى التي خاضتها أحزاب كردستان ضد نظيرتها المركزية، فإن منافسة أخرى كانت تخاض في مختلف "المناطق المتنازع عليها" بين الإقليم والحكومة الاتحادية، والتي تضم حسب الدستور العراقي محافظة كركوك وأجزاء من محافظات صلاح الدين وديالى ونينوى (الموصل).

أ ف ب
عناصر من "الحشد الشعبي" العراقي في بغداد اثناء جنازة المرافق السابق للامين العام لـ"حزب الله" حسين خليل المعروف باسم "ابو علي" الذي قتل بضربة جوية اسرائيلية في ايران في 21 يونيو

حاورت "المجلة" المرشح الفائز عن قائمة "هويتنا أولا"، كلدو رمزي أوغنا، وسألته عما تغير سياسيا في تلك المناطق حسب رأيه، فقال: "ثمة الكثير من التغيرات السياسية الواضحة حسب نتائج الانتخابات. ففي مختلف هذه المناطق، تقدم (الحزب الديمقراطي الكردستاني) والقوى السنية (الأصيلة شعبيا)، في وقت تراجعت فيه القوى المؤيدة لـ(الحشد الشعبي). فقائمة مثل (الهوية الوطنية)، والتي كانت تعتمد على كافة أشكال الدعم المالي والدعائي وحتى الأمني المقدمة من فصائل (الحشد) المنتشرة بكثافة في كافة المناطق المتنازع عليها، لم تحصل إلا على مقعد واحد. وفي وقت كانت مقاعد (الكوتة المسيحية) قبل الآن محسومة سلفا لصالح (تيار بابليون) المدعوم من فصائل (الحشد) والذي كان يحصل على أصوات مختلف المنخرطين في فصائل (الحشد) وعائلاتهم، فإنه لم يحصل إلا على مقعدين من أصل خمسة مقاعد. إذ شهدت منطقة سهل نينوى استياء واسعا من هذا التيار بسبب تغيير قيادة اللواء 13 التابع له".

يتابع المرشح الفائز حديثه مع "المجلة"، مضيفا: "في كركوك أخدت المعركة الانتخابية شكل الصراع القومي بوضوح، إذ شهدت كثافة في التصويت لصالح (الاتحاد الوطني الكردستاني)، وتراجعت وتشتتت أصوات الكتل التركمانية والمعتمدة على النفَس السني لا القومي العربي، واستطاع المرشح عن (الكوتة المسيحية) عماد يوخنا من الحصول على أكثر من 17 ألف صوت، في مواجهة المرشح المدعوم من فصائل (الحشد الشعبي). فهذه الانتخابات في المناطق المتنازع عليها أظهرت قدرة القواعد الاجتماعية على فرز وإنجاح مرشحين من بيئتهم المحلية وحسب مصالح القواعد الاجتماعية، وليس مرشحين مدعومين من فصائل (الحشد الشعبي) وقوى السلطة. وهي قوى ستسعى خلال هذه التشكيلة البرلمانية لتغيير قانون الانتخابات الحالي، لأنه غير عادل أبدا، ولإقرار قانون يناهض خطاب الكراهية وحماية حقوق المكونات، حتى لا تصبح هذه المناطق الغنية لغويا وثقافيا ودينيا بؤرة لصراع الخطابات السياسية".

font change