واشنطن - في أرشيف الديبلوماسية الدولية، تُختَزَل مسارات التحالفات الكبرى في لحظات رمزية تتجاوز نطاق التفاوض التقليدي. وفي يوم الأربعاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، كان مركز جون كينيدي للفنون الأدائية في واشنطن العاصمة، شاهدا على إحدى هذه اللحظات الفاصلة، إذ استضاف "منتدى الاستثمار الأميركي السعودي" تحت شعار "قيادة من أجل النمو: عقد من الشراكة، قرن من الفرص". لم يكن الحدث تجميعا اعتياديا للصفقات؛ بل كان بمثابة تدشين معلن لعقد شراكة جديد، يتجاوز الصيغة التقليدية التي حكمت العلاقة لعقود، والمتمثلة في معادلة "النفط مقابل الأمن الإقليمي"، لتبدأ عصرا من "التكنولوجيا ورأس المال مقابل المستقبل المشترك".
وقد تجلت هذه النقلة الاستراتيجية بوضوح تام منذ اللحظات الأولى، وتجسدت رمزيتها السياسية في مشهد استثنائي حينما دخل الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، قاعة المنتدى بصحبة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. هذا الدخول المشترك لم يكن مجرد لفتة عابرة، بل كان رمزا سياسيا مكثفا يؤكد الإرادة العليا لمأسسة الشراكة، وإرساء قواعدها على أساس رؤية مشتركة للمصالح الاقتصادية المتداخلة والطموحات الجيوسياسية المتبادلة.
في ظل التحولات العالمية المتسارعة التي تتسم بضبابية التحالفات، كان هذا المشهد يمثل رسالة طمأنة وتأكيد أن الشراكة بين الرياض وواشنطن تظل مرتكزا استراتيجيا عابرا للتحديات. فالمملكة، التي كانت تُعد لزمن طويل مورِّدا للطاقة، تحولت لتصبح مستثمرا عالميا وشريكا استراتيجيا للولايات المتحدة في صناعاتها الأكثر حيوية وحداثة، ما يمشير إلى تحولها من مستهلك للأمن إلى شريك في بناء الاستقرار العالمي عبر أدوات الاقتصاد والتكنولوجيا.
خريطة طريق جيوسياسية-اقتصادية للتكامل
إذا كان التاريخ الاقتصادي يُكتَب بالأرقام، فإن منتدى 2025 قد خط تاريخ الشراكة الثنائية بـ"التريليونات". لقد تجاوزت قيمة الاتفاقيات الموقَعة خلال يوم واحد حاجز 270 مليار دولار. هذه الصفقات شملت عشرات الشركات الكبرى في قطاعات الدفاع، والتصنيع المتقدم، والطاقة، والرعاية الصحية، والتقنية الخضراء. لكن الأهم، كان إعلان التعهد السعودي بزيادة استثماراتها الإجمالية في الولايات المتحدة إلى تريليون دولار على مدى السنوات المقبلة، وهو ما يمثل قفزة هائلة من الالتزامات السابقة. هذا الالتزام الهائل ليس مجرد "وعد"، بل هو خريطة طريق استراتيجية ملزمة للتكامل الهيكلي بين الاقتصادين، وتوجيه رأس المال السيادي السعودي نحو دعم سلاسل الإمداد الغربية الحيوية، خصوصا في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والمعادن الحرجة، والدفاع.




