منتدى الاستثمار السعودي- الأميركي يعيد رسم خريطة التكنولوجيا

تحالف استراتيجي

غايتي- أف ب
غايتي- أف ب
الرئيس التنفيذي لشركة "تيسلا" إيلون ماسك (يسار)، يتحدث مع الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" جنسن هوانغ، خلال منتدى الاستثمار السعودي – الأميركي في مركز كينيدي بواشنطن، 19 نوفمبر 2025

منتدى الاستثمار السعودي- الأميركي يعيد رسم خريطة التكنولوجيا

انعقد منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي في مركز كينيدي للفنون في واشنطن بوصفه الحدث الاقتصادي الأبرز في زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للعاصمة الأميركية، في مشهد يعيد رسم خريطة الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن في عصر تتقاطع فيه الثورة الصناعية الرابعة مع الذكاء الاصطناعي والطاقة المتقدمة والصناعات عالية التقنية.

وقد اكتسب المنتدى زخما استثنائيا بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى جانب نخبة من أكبر قادة الشركات الأميركية، من بينهم إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لـ"تسلا" وxAI، وجنسن هوانغ الرئيس التنفيذي لـ"إنفيديا" بالإضافة إلى قيادات رفيعة من شركات "شيفرون"، "بوينغ"، "غوغل"، "آي بي إم"، "كوالكوم"، "أدوبي"، "سيلزفورس"، "لوكهيد مارتن"، "بلاكستون" و"فايزر" وغيرها من عمالقة "وول ستريت" ووادي السيليكون.

من الجانب السعودي شارك وزير الاتصالات وتقنية المعلومات عبدالله السواحة، وعدد من قيادات صندوق الاستثمارات العامة، إلى جانب رؤساء شركات مثل "أرامكو"و"هيومين" و"داتافولت"، في رسالة سياسية واقتصادية واضحة مفادها أن الرياض لم تحضر إلى واشنطن لتبادل التصريحات، بل لتقديم مشروع استثماري وتقني متكامل يترجم نفوذ المملكة المتصاعد في الاقتصاد العالمي.

ويعد هذا المنتدى ثاني لقاء استثماري ضخم بين البلدين خلال أقل من ستة أشهر بعد منتدى الرياض في مايو/أيار الماضي، الذي شهد إطلاق شركة الذكاء الاصطناعي السعودية "هيومين" وإعلان صفقتها التاريخية مع "إنفيديا" لتوريد 18 ألف شريحة من معالجات Blackwell GB300 وبناء مراكز بيانات بقدرة حوسبية تصل إلى 500 ميغاواط، في خطوة دفعت المملكة إلى مقدمة السباق العالمي في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة.

مسار متسارع

وجاء منتدى واشنطن ليشكل امتدادا لهذا المسار المتسارع، إذ أعلنت الرياض وواشنطن حزمة جديدة من الصفقات والاستثمارات تقدر بنحو 267 – 270 مليار دولار، ضمن ارتباطات استثمارية إجمالية بين الجانبين تقترب من 575 مليار دولار، مع تعهد سعودي برفع حجم الاستثمارات داخل الاقتصاد الأميركي إلى تريليون دولار خلال السنوات المقبلة — في مؤشر الى تحول التحالف الاقتصادي بين البلدين من مستوى التعاون التقليدي إلى شراكة صناعية – تكنولوجية عميقة تعيد تعريف النفوذ الجيوسياسي للطرفين على مستوى العالم.

وفي قلب المشهد، كانت الجلسة الحوارية التي جمعت إيلون ماسك وجنسن هوانغ بقيادة الوزير عبد الله السواحة هي اللحظة الأكثر جذبا للأضواء، إذ بدت كأنها تعلن العنوان الحقيقي للمؤتمر بعيدا من البروتوكولات الرسمية. وتحول النقاش بين اثنين من أبرز عقول التكنولوجيا في العالم إلى استعراض عميق لمستقبل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة ومصانع البيانات، وكشف عن ملامح الاقتصاد القادم أكثر مما فعلت بيانات الاستثمار نفسها.

الاستعداد لتزويد السعودية هذه التقنيات مؤشر جيوسياسي يماثل—وربما يفوق—الموافقة على بيع مقاتلات مثل F-35

تحدث ماسك عن عالم يعاد تشكيله بفعل الروبوتات والأتمتة، عالم قد تصبح فيه النقود أقل مركزية مع انتقال القيمة إلى الإنتاج الآلي والذكاء الاصطناعي. وفي المقابل ركز هوانغ على دور المملكة المتصاعد كمحور للطاقة والبيانات معا، مؤكدا أن التعاون القائم مع شركة "هيومين" لا يقتصر على توريد شرائح "إنفيديا"، بل يتجه نحو بناء بنية تحتية سيادية للذكاء الاصطناعي في المنطقة — بنية قادرة على تمكين الصناعات، وتمويل البحث العلمي، وتغيير موازين القوى التقنية عالميا.

في هذا المعنى، بدا منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي في واشنطن أبعد بكثير من مجرد منصة لتوقيع الصفقات، إذ جاء باعتباره الحلقة الثانية في مسار استراتيجي طويل بدأ من الرياض ويهدف إلى وضع المملكة في مركز خريطة اقتصاد الذكاء الاصطناعي إقليميا وعالميا، ليس كمستهلك للتكنولوجيا، بل كصانع لشروطها المستقبلية.

وقد شهد المنتدى واحدة من أهم لحظات التحول في مسار التعاون التقني بين البلدين خلال العقود الأخيرة. فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بحجم الصفقات المعلنة أو المستويات القياسية لحجم الاستثمارات المتبادلة، بل بالرسائل السياسية العميقة التي حملها المؤتمر، وبما مثله من إعادة ضبط لمعادلة النفوذ التكنولوجي بين الرياض وواشنطن.

مرونة غير مسبوقة

وبحسب تقرير "بلومبيرغ" أبدت الولايات المتحدة "مرونة غير مسبوقة" تجاه تصدير التقنيات الحساسة ذات الطابع الأمني، وهو تطور لا يمكن عزله عن التحولات الاستراتيجية الكبرى التي تشهدها العلاقات بين البلدين. ورغم أن هذه المرونة لم تترجم بالكامل إلى موافقات رسمية نهائية حتى الآن، فإنها تعد "أول إشارة علنية" إلى استعداد واشنطن لإعادة النظر في القيود المفروضة منذ سنوات على توريد "الرقائق المتقدمة ومسرعات الحوسبة" إلى دول المنطقة.

ومن منظور استراتيجي، فإن مجرد فتح الباب للنقاش حول "توريد شرائح إنفيديا الأكثر تطورا" إلى السعودية عبر شركة "هيومين" يعكس إدراكا أميركيا متناميا بأن المملكة أصبحت "لاعبا رئيسا لا يمكن تجاوزه" في سباق البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. كما يشير إلى أن استبعاد الرياض من هذا السباق لم يعد خيارا واقعيا بالنسبة للولايات المتحدة، لأن ترك فراغ في هذا المجال قد يسهم في "توجه السعودية نحو قوى أخرى في آسيا أو أوروبا" للحصول على هذه التقنيات، وهو ما لا ترغب واشنطن في السماح به.

أما الرسالة الأعمق في هذا الانفتاح، فتتمثل في أن الولايات المتحدة تتعامل مع تصدير هذه الرقائق إلى المملكة باعتباره اختبارا لمتانة التحالف السياسي والاقتصادي بين البلدين. فشرائح "إنفيديا" المتقدمة تعد جزءا من أسرار التفوق العلمي الأميركي ويتم التعامل معها بحساسية تماثل التعامل مع منظومات التسليح العالية التطور.

تحول مؤتمر الاستثمار السعودي–الأميركي إلى أكثر من فعالية اقتصادية، ليصبح محطة فارقة في إعادة تعريف موقع السعودية داخل اقتصاد الذكاء العالمي

وبذلك يصبح الاستعداد لتزويد السعودية هذه التقنيات مؤشرا جيوسياسيا يماثل—وربما يفوق—الموافقة على بيع مقاتلات مثل F-35 إذ إن الطائرات تغير ميزان القوة العسكري في الأجواء، بينما الرقائق المتقدمة تغير ميزان القوة الاقتصادي والمعرفي عالميا، وهو المستوى الأكثر تأثيرا في النظام الدولي الحديث.

Reuters
يجيب جينسن هوانج، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" على أسئلة وسائل الإعلام في مؤتمر صحفي في تايبيه، تايوان

وعلى المستوى التقني البحت، أكدت شراكات "أدوبي" و"كوالكوم" الأمر الذي أصبح حقيقة ثابتة، فالسوق السعودية لم تعد مجرد مستهلك للتكنولوجيا، بل شريكة في تطويرها وصناعتها ودمج نموذج اللغة العربي "علام" في تطبيقات "أدوبي" للمحتوى الإبداعي يمنح اللغة العربية حضورا تقنيا غير مسبوق داخل منظومات الذكاء الاصطناعي العالمية، ويمثل تحولا تاريخيا في بنية المحتوى الرقمي.

أما التعاون مع "كوالكوم" عبر شرائح AI200 و AI250 ومركز الأبحاث المشترك في الرياض، فيشير إلى انتقال السعودية إلى مستوى جديد من القدرة الحاسوبية والتحول المعرفي، لأن الحديث هنا لا يقتصر على نقل التكنولوجيا بل يمتد إلى نقل المعرفة وتوطينها وهو الخط الأحمر الذي ظل الغرب مترددا أمام تجاوزه في تعامله مع الشرق الأوسط لعقود طويلة.

مصانع الذكاء

وفي السياق نفسه، حملت قيادة السعودية جولة تمويل بقيمة 900 مليون دولار في شركة Luma AI رسالتين واضحتي، أن المملكة لم تعد تنتظر المستقبل، بل تستثمر في الشركات التي تصنعه، وأن توجهها التقني يتجه نحو الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط القادر على فهم الصوت والصورة والفيديو والعالم الثلاثي الأبعاد، وليس النصوص فقط. وهو المجال المرشح ليكون العمود الفقري للذكاء الاصطناعي خلال العقد المقبل، مع تأثيرات ضخمة في الأمن والدفاع، والإعلام، والصناعة، والخدمات الحكومية.

غير أن التطور الأكثر أهمية وإثارة كان دمج شركة xAI التابعة لإيلون ماسك في خريطة الذكاء الاصطناعي السعودية. فالتحالف الجديد يذهب إلى ما هو أبعد من مجرد توفير تقنيات أو نماذج لغوية، إذ يتضمن بناء شبكة من مراكز البيانات العملاقة، تبدأ بمنشأة تتجاوز قدرتها 500 ميغاواط— وهو رقم يكفي لتشغيل منظومات حوسبة قادرة على تدريب نماذج ذكاء اصطناعي بمستويات تنافس أكبر اللاعبين العالميين.

هذا يعني أن السعودية لا تستعد لاستخدام الذكاء الاصطناعي فحسب، بل لبناء مصانع الذكاء نفسها، وهي النقلة الاستراتيجية التي تنتقل بها المملكة من خانة مستهلك التكنولوجيا إلى خانة صانع البنية التحتية التي يقوم عليها الذكاء العالمي.

ولا تقتصر الشراكة مع xAI على البنية التحتية، بل تمتد إلى الطبقة التشغيلية للتطبيقات. فقد أعلنت الشركة نشر نموذج "غروك" على مستوى المملكة بالكامل، ليصبح جزءا من طبقة الذكاء الوطنية الموحدة— منظومة ذكاء اصطناعي قادرة على دعم المؤسسات الحكومية والخاصة في التحليل واتخاذ القرار وإدارة العمليات التشغيلية. كما سيدمج "غروك" داخل منصة "هيومين" لتشكيل شبكة من وكلاء الذكاء الاصطناعي شبه الذاتيين القادرين على العمل داخل قطاعات الدولة والاقتصاد والقطاع الخاص وتقديم خدمات متطورة للمواطنين والمقيمين.

بدأت وسائل الإعلام الأميركية الحديث عن مناخ سياسي أكثر انفتاحا تجاه السماح بإرسال أول دفعات الرقائق المتقدمة إلى المملكة

وبهذه التطورات مجتمعة، تحول مؤتمر الاستثمار السعودي–الأميركي إلى أكثر من فعالية اقتصادية، ليصبح محطة فارقة في إعادة تعريف موقع السعودية داخل اقتصاد الذكاء العالمي كدولة لا تكتفي بالحضور في المستقبل، بل تعمل على تصميمه وبناء بنيته التحتية وصوغ قواعده.

Reuters
يتحدث الرئيس التنفيذي لشركة "تيسلا" إيلون ماسك، أثناء جلوسه مع وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات السعودي عبد الله السواحه

قال إيلون ماسك في البيان إن مستقبل الذكاء الاصطناعي لن يصنع عبر معادلة واحدة، بل عبر دمج قدرات حوسبة هائلة منخفضة التكلفة مع أكثر النماذج تطورا وجرأة، مؤكدا أن قدرة شركة "هيومين" على بناء هذا النوع من البنية التحتية داخل السعودية تمثل نقطة انعطاف حقيقية، وتضع المملكة في موقع يتيح لها التحرك بسرعة أكبر من غالبية الدول المتقدمة نحو هذا المستقبل.


وأضاف ماسك أن هذه الشراكة تمثل أول تجربة في التاريخ لنشر نموذج ذكاء اصطناعي على مستوى دولة كاملة، مشيرا إلى أن السعودية أصبحت رسميا ساحة اختبار عالمية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، حيث ستختبر قدرات النماذج في قطاعات متعددة — من الحكومة والخدمات إلى الصحة والاقتصاد والتقنية — وهو ما يصعب تنفيذه في دول أخرى بسبب قيود تشريعية أو تباطؤ في قرارات الاستثمارات الضخمة.

الحدود القصوى

ويقوم هذا التعاون على جمع خبرة xAI في بناء نماذج الذكاء الاصطناعي الحدودية — أي النماذج التي تلامس حدود القدرة القصوى للآلات — مع قدرة "هيومين" على تصميم وتشغيل بنية حوسبية سيادية منخفضة التكلفة وأداء عالمي، قائمة على طاقة رخيصة ومراكز بيانات عملاقة. وبهذا يتحول موقع السعودية من دولة تستورد التكنولوجيا إلى دولة تصنع وتشغل البنية التحتية التي ستقوم عليها الأجيال المقبلة من نماذج الذكاء الاصطناعي، مبكرا وقبل كثير من القوى الاقتصادية التقليدية.

ويكشف هذا التطور عن لحظة مفصلية في الاستراتيجيا السعودية: فالذكاء الاصطناعي لم يعد مشروعا اقتصاديا أو قطاعا تنمويا جديدا فحسب، بل مكون سيادي يقف في المكانة نفسها التي تقف فيها الطاقة والدفاع.
والرسالة التي خرجت من المؤتمر كانت أكثر وضوحا من أي إعلان رسمي، فالرياض لا تريد أن تكون مركزا لتشغيل الذكاء الاصطناعي فحسب — بل مركز لإنتاجه.

وللمرة الأولى، بدا أن الشركات الأميركية — من "إنفيديا" إلى xAI إلى "أدوبي" و"كوالكوم" — مستعدة للتعامل مع هذا التحول الجديد، ربما إدراكا منها أن السباق العالمي على الذكاء الاصطناعي لم يعد يحتمل المنافسة الانفرادية، وأن الدول التي تجمع القدرة المالية، والطاقة الضخمة المنخفضة التكلفة، وبيئة البناء السريع ستكون الشريك الأكثر قيمة. وهذه العناصر تتوفر في السعودية بدرجة أعلى من أي سوق أخرى.

تتسارع المشاريع السعودية في مجال الذكاء الاصطناعي بوتيرة غير مسبوقة، مدفوعة برؤية تستهدف بناء بنية تحتية حوسبية عملاقة تجعل المملكة مركزا عالميا للطاقة الرقمية. فقد بدأت السعودية تشييد مراكز بيانات فائقة الضخامة بقدرات تبدأ من 500 ميغاواط وتخطط للوصول إلى عدة جيغاواط بحلول 2034–2035، وهي مستويات لا تصل إليها إلا حفنة من الدول المتقدمة تقنيا.

يمثل توافر الطاقة الرخيصة والمستقرة داخل المملكة عاملا استراتيجيا يسمح بتشغيل هذه البنية بكفاءة اقتصادية عالية، مقارنة بالدول التي ترتفع فيها أسعار الكهرباء أو تعاني من محدودية شبكات الإمداد. ومع هذا التمركز في الطاقة، تتجه الأنظار نحو السعودية بوصفها المكان المثالي لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة.

لا يقتصر هذا التحول على مكاسب المملكة أو الشركات الأميركية وحدها، بل يرسم معادلة استراتيجية متبادلة المصالح.

في الوقت ذاته، بدأت وسائل الإعلام الأميركية الحديث عن مناخ سياسي أكثر انفتاحا تجاه السماح بإرسال أول دفعات الرقائق المتقدمة إلى المملكة. وهكذا يكتمل مثلث الذكاء الاصطناعي: الطاقة الوفيرة، ومراكز البيانات العملاقة، والرقائق العالية الأداء. ومع نضوج هذا المثلث، تنتقل السعودية من مرحلة استخدام الذكاء الاصطناعي محليا إلى مرحلة تصدير القوة الحوسبية للعالم — كما صدرت النفط لعقود، لكنها اليوم تصدر القدرة الرقمية.

Reuters

لم تعد المملكة تبني مراكز بيانات لخدماتها المحلية فقط، بل تخلق بنية حوسبية يمكن أي شركة عالمية استخدامها لشراء ساعات تدريب وتشغيل نماذجها مباشرة داخل السعودية، بدلا من إنفاق مليارات الدولارات على إنشاء بنية مشابهة داخل بلدانها. وبمرور الوقت، ستتمكن السعودية من تقديم منصات تدريب للنماذج العملاقة، وتشغيل خدمات الاستدلال والتحليل على نطاق عالمي، واستضافة بيانات شركات ودول، وإطلاق سحابة تمثل مصدرا جديدا للتصدير الرقمي.

معادلة استراتيجية

لا يقتصر هذا التحول على مكاسب المملكة أو الشركات الأميركية وحدها، بل يرسم معادلة استراتيجية متبادلة المصالح. فالسعودية تحصل على التكنولوجيا المتقدمة اللازمة لبناء طبقة ذكاء وطنية وتطوير اقتصادها الرقمي وخلق وظائف عالية المهارة. وفي المقابل، تعزز الولايات المتحدة وجودها التقني في المنطقة عبر شراكة مع دولة مستقرة ماليا وقادرة على الاستثمار السريع في توسع الذكاء الاصطناعي.

وفي الوقت نفسه، تراهن واشنطن على هذه الشراكات لإبعاد النفوذ التقني الصيني عن الشرق الأوسط، في إطار المنافسة العالمية على التكنولوجيا. فالولايات المتحدة ترى أن نماذج التكنولوجيا الصينية تعتمد على بنية رقابية تهدد الخصوصية والسيادة الرقمية، وتسعى إلى بناء تحالفات تقنية دولية شبيهة بتحالفات الأمن التقليدية—هذه المرة لحماية الفضاء الرقمي من التوسع الصيني.

تجسد قصة التعاون بين السعودية وإيلون ماسك مثالا عمليا لهذا التحول. فالمملكة تحتاج نماذج ذكاء متقدمة مثل Grok لتسريع تطوير بنيتها الرقمية، بينما يحتاج ماسك بيئة توفر طاقة رخيصة ومراكز بيانات تبنى بسرعة هائلة لتشغيل نماذجه بكفاءة على نطاق لا يمكن تحقيقه داخل الولايات المتحدة.

توفر السعودية الأرض والطاقة والبنية التحتية، بينما يقدم ماسك نماذج ذكاء ترفع الإنتاجية وتدعم الخدمات وتحفز التحول نحو اقتصاد رقمي متكامل على أساس مصلحة مشتركة وصياغة جديدة لقواعد التكنولوجيا العالمية.

بهذا الحجم من التحولات، لم يعد التعاون التقني بين الرياض وواشنطن مجرد امتداد للعلاقات الاقتصادية التقليدية، بل تحول إلى إطار استراتيجي يعيد رسم الخريطة التكنولوجية العالمية. فالسعودية لم تعد تبني منظومة ذكاء اصطناعي وطنية فقط، بل تشيد مصنع الذكاء الذي سيخدم المنطقة والعالم. والولايات المتحدة لم تعد تكتفي ببيع التكنولوجيا، بل تعمل على بناء شراكات توازن القوة التقنية في مواجهة صعود الصين.

إنها لحظة انتقالية كبرى، تنتقل فيها السعودية والولايات المتحدة من مجرد المشاركة في سباق الذكاء الاصطناعي إلى القيادة المشتركة لمسار المستقبل الرقمي العالمي.

font change

مقالات ذات صلة