صعوبات استئناف التعليم في غزة تهدد جيلا كاملا بالأمية

أطفال مضطرون للعمل ومدارس تحولت إلى مراكز إيواء

AP Photo/Abdel Kareem Hana
AP Photo/Abdel Kareem Hana
تلاميذ في طابور الصباح بمدرسة أُقيمت على الشاطئ في خان يونس، 12 نوفمبر 2025

صعوبات استئناف التعليم في غزة تهدد جيلا كاملا بالأمية

بعدما توقفت الحرب في غزة، أفاق الناس على حروب صغيرة تتعلق بحاضرهم ومستقبلهم، من ضمنها تبعات توقف عملية تعليم طلاب المدارس والجامعات لأكثر من عامين، وهو ما يقلق سكان القطاع، ويضعهم أمام صورة قاتمة لمستقبل أبنائهم. هناك محاولات خجولة من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، لاسترجاع ما تبقى من صوت الحياة عبر استئناف التعليم، لكن ذلك الجهد لم يؤت ثماره بعد، ويبقى الأهالي في حالة حيرة، عاجزين عن تقديم بديل لأطفالهم، يعوضهم عما يفقدونه في مرحلة شديدة الحساسية من أعمارهم، مدركين أن عودة المدارس ليست خيارا فحسب، بل طوق نجاة لأبناء حرِموا من مقاعد الدراسة وأخرجوا من سياق حياتهم الطبيعي.

تقدم الإحصاءات حول التعليم في غزة صورة قاتمة، فأكثر من 95٪ من مرافق التعليم في غزة تضررت أو دُمرت بشكل كبير، بحسب تقرير لمنظمة "يونيسيف". ووفقا لتقييم Global Education Cluster نقله "مركز الميزان لحقوق الإنسان"، فإن 241 مدرسة حكومية تعرضت لأضرار شديدة، و111 مدرسة دمرت كلية، بالإضافة إلى عشرات المدارس المدارة من وكالة الأونروا، مما ينعكس على نحو 700 ألف في القطاع.

ويعوق الدمار الواسع والنزوح عودة العملية التعليمية للتعلم، خاصة أن عددا كبيرا من المدارس المتبقية يستخدم ملاجئ للنازحين، مما يحد من قدرتها على استقبال الطلاب.

بين الخيمة والفصل

ومع دخول فصل الشتاء في غزة، تبدو الخيام خيارات مؤلمة ومحدودة. فهناك عائلات كثيرة نازحة تفضل الإيواء داخل الفصول المدرسية، لأن الخيام لا تقيهم الرياح والعواصف المطرية، أو لأنها مهترئة أو غالية الثمن. هذا الواقع يطرح سؤالا بسيطا: أين سيتعلم طلاب غزة الذين يدخلون عامهم الثالث دون أي تعليم منتظم. وهو ما ينذر بمشكلة يجمع الخبراء على أنها ليست مؤقتة، بل هي أزمة جيل كامل مهدد بالتخلف الأكاديمي.

عائلات كثيرة نازحة تفضل الإيواء داخل الفصول المدرسية، لأن الخيام لا تقيهم الرياح والعواصف المطرية، أو لأنها مهترئة أو غالية الثمن

خالد إسليم، 47 عاما، أب لطالب في الصف السابع، يقول للمجلة: "أخاف من مستقبل مظلم ينتظر ابني، فهذه ثالث سنة يمضيها دون تعليم. لا أريد أن يظل طفلي بائع بسطة، أريده أن يجلس على مقعد الدراسة". بالنسبة إلى إسليم، فإن عودة التعليم ليست رفاهية، بل شرط لاستئناف الحياة.

Omar AL-QATTAA / AFP
معلّم يقدّم درسًا في مدرسة مؤقتة داخل مسجد السيد هاشم في غزة، 11 نوفمبر 2025

لاحظ إسليم تغيرا في سلوك ابنه: "صار ضعيف التركيز، أطلب منه أشياء كثيرة في يوميات الحياة لكنه لا يستطيع تنفيذها، مع أنه كان متفوقا قبل الحرب"، مما يجعل الإشكالية تتجاوز فقدان المقعد الدراسي أو تحصيل الدرجات العلمية، إلى فقدان الثقة بالنفس وبالمستقبل.

تنحصر أحلام الغزيين في أطر ضيقة، فبعد أن كانت حياة تعليمية مستقرة قبل الحرب، صارت أحلامهم أن يتعلم الأبناء ولو في خيمة. يعلّق إسليم: "كابوس كبير ألا أرى ابني يتعلم، وفي حين كنت أشجعه قبل الحرب على تطوير مهاراته في كرة القدم، صرت اليوم أبحث عن أي وسيلة لتلقيه التعليم ولو داخل خيمة".

مهارات أساسية

في غزة، أطفال بلغوا السابعة دون أن يعرفوا أساسيات مثل الجمع والطرح، أو كتابة أسمائهم، نتيجة غياب الجلوس على مقاعد الدراسة، وهو ما يهدد الجيل الجديد بالضعف التعليمي وصعوبات التعلم والإدراك المستقبلي. وعلى الرغم من انطلاق بعض المبادرات التعليمية داخل الخيام، التي تنفذ بجهد شخصي من معلمين أو جمعيات، إلا أنها لا تستوعب سوى قلة من الطلاب، مما يترك الكثيرين دون فرصة حقيقية للعودة إلى مسار تعليمي منظم.

REUTERS
طفلة فلسطينية نازحة تجلس الى جدار مدرسة متضررة لجأت إليها خلال وقف إطلاق النار، غزة، 11 نوفمبر 2025

توضح أمينة الشيخ خليل، 37 عاما، وهي نازحة تعيش داخل صف مدرسي في مدرسة بلقيس بمنطقة تل الهوا غرب مدينة غزة، أن التعليم هو حلمها وحلم ابنتها. هي لم تكمل دراستها الجامعية بسبب الزواج ومسؤوليات الحياة، وتصر على أن تتعلم ابنتها: "الحرب سرقت مني أحلامي، لكني لا أقبل أن تسلب ابنتي فرصة التعليم".

حتى لو اضطرت للجلوس في خيمة، تاركة مكانها داخل الإيواء في الفصل الدراسي، فإنها تفعل ذلك من أجل تعليم ابنتها، هكذا توضح الأم، وتعترف بمخاوفها العديدة، من ركام البيوت المدمّرة، والأجسام غير المنفجرة، وسوء النظافة، لكنها تصر: "لا بد أن يعود التعليم. إنه التحدي الأكبر كي نشعر أن حياتنا بدأت تتحرك".

كنت أشجع ابني قبل الحرب على تطوير مهاراته في كرة القدم، صرت اليوم أبحث عن أي وسيلة لتلقيه التعليم ولو داخل خيمة

خالد إسليم

أمينة ليست الوحيدة التي تنتظر خطة واضحة من وزارة التربية: "نسمع عن تسجيل للطلاب، لكن عندما نذهب للتسجيل لا نجد لجانا". يزيد قلقها خيار التعليم الإلكتروني الذي ترفضه بالكامل: "التعليم الالكتروني لا يطور الطالب، إنه مضيعة للوقت".

ترى الأم أن عودة عجلة التعليم ستبدد هواجس كثيرة تعتري الأهالي في غزة حول مستقبل أطفالهم "مجرد محاولة استئناف التعليم، يجعلنا نشعر بالفعل بأن الحرب صفحة بائسة طويت من حياتنا".

AP Photo/Jehand Alshrafi
طلاب ثانويون يعودون إلى صفوفهم بعد أسابيع من إعلان وقف إطلاق النار، مدرسة كاميليا في غزة، 12 نوفمبر 2025

عمل أم تعليم

يخبرنا الطالب خليل اليازوري، 15 عاما، الذي رقّته وزارة التربية والتعليم الفلسطينية إلى الصف العاشر لكنه لم يتعلم منذ الصف السابع، بأن منزله دمر خلال الحرب وقتل والده. يعيش هو وأمه وإخوته في خيمة شمال غزة. يقول بصوت يملؤه الحزن: "أريد أن أعود إلى الدراسة كأي طالب في العالم… أريد أن أصبح أستاذا جامعيا".

يصف خليل يومه حاليا: "أقف كل يوم في طابور التكية والمياه العذبة، وبقية الوقت أعمل لإعالة عائلتي".

انقطع اليازوري عن التعليم بفعل الحرب، يخبرنا: "حصلت على بعض المال من عملي خلال الحرب، لكني كنت أشعر دوما بأن قلبي ثقيل، كنت قلقا لأنني في مكان يجعلني أتوه عن المكان الذي كنت أتخيله لنفسي".

طرق تعليمية بديلة

كان المعلم أمجد الهندي، 44 عاما، يدرّس اللغة العربية في مدرسة حليمة السعدية الإعدادية، شمال قطاع غزة، يقول إن عودة التعليم تمثل "إنقاذا للطلاب من التشرد والضياع". المدرسة، في نظره، تمنح الإنسان القدرة على مواجهة صعوبات الحياة: "الطالب دون مدرسة مثل شجرة بلا ساق، وطلاب غزة في خطر حقيقي".

يشكو أيضا من فقد المعلمين الأكفاء: "كثير من المعلمين الذين نحتاجهم قتلوا خلال الحرب، ولا برامج تدريب بديلة لتعويض غيابهم".

AP Photo/Abdel Kareem Hana
مشهد لمدرسة تحيط بها مبان مدمرة جراء العمليات الإسرائيلية في خان يونس، 12 نوفمبر 2025

 

يرى الهندي أن استئناف التعليم ليس مسألة تلقي الدروس العلمية فحسب، بل يجب أن تتضمن علاجا نفسيا: "الطلاب بحاجة إلى رعاية خاصة لأن ما رأوه في الحرب جعل منهم أشباحا على مقعد الدراسة، فباتت سلوكياتهم عنيفة، والخوف واضح في كل مناحي حياتهم". لذلك يدعو إلى أن تكون العودة مدعومة بأنشطة ترفيهية وجلسات حديث ذاتي، حتى تبدأ أرواح الأطفال المكسورة بالتعافي.

الطلاب بحاجة إلى رعاية خاصة لأنه ما رأوه في الحرب جعل منهم أشباحا على مقعد الدراسة، فباتت سلوكياتهم عنيفة، والخوف واضح في كل مناحي حياتهم 

أمجد الهندي

يعلق في ذاكرة سكان غزة الجمعية مشهد لامع، برز في فيديو قبل الحرب، لما يقارب ألف طالبة من مدرسة إعدادية شمال قطاع غزة. وقفت الطالبات في صفوف منتظمة بعد الطابور الصباحي، حيين العلم الفلسطيني، وأنشدن السلام الوطني الفلسطيني، ومن ثم رقصن على أنغام أغنية "بلدي غزة" بكل انطلاق وحيوية. اختفى ذلك المشهد الآن، وبات مجرد ذكرى موجعة.

AP Photo/Abdel Kareem Hana
تحرير العويني، 33 عاما، تحمل شهادات ابنتها قبل الحرب داخل صف تحوّل إلى مسكن لعائلتها في خان يونس، 12 نوفمبر 2025

يضيف الهندي: "اشتقت إلى صوت جرس المدرسة وصياح الطلاب وأصواتهم المفعمة بالحياة، الحرب قضت على ذلك كله... أشعر الآن بارتباك وأنا أتخيل أمامي طفلا يبكي على زميل له فقده على مقعد الدراسة، أو آخر يتذكر مشهدا قاسيا عالقا في ذاكرته".

يكمل: "ما حدث في حق التعليم في غزة كارثة، وإننا نحتاج إلى وقت طويل كي نتعافى مما حل بنا، فالأمر لا يقتصر على عودة طالب إلى مقعد دراسي".

يتجاوز الواقع التعليمي في غزة بعد الحرب الجانب الأكاديمي البحت، فهناك جيل بأكمله يواجه تهديد الأمية، ومواجهة الحياة دون مهارات وأدوات. إنه ليس مجرد جيل متأخر دراسيا، بل هو جيل قد يكون عاجزا عن أبسط المهارات مثل القراءة والكتابة.

font change