الموت كحرفة في "لا بريد إلى غزة" لمحمد جبعيتي

الغوص في الأسئلة الوجودية

غلاف رواية "لا بريد إلى غزة" لمحمد جبعيتي

الموت كحرفة في "لا بريد إلى غزة" لمحمد جبعيتي

يتعامل الكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي (من مواليد طولكرم، 1993) مع الحكاية بوصفها مساحة للتأمل في الإنسان، ويرى في اللغة أداة لاكتشاف العوالم الداخلية بقدر ما هي وسيلة لتوثيق الملموس. يحمل في كتابته أثر المكان بكل ما فيه من نبض وحصار، فيمتزج في نصوصه الحس الإبداعي بالوعي التاريخي والاجتماعي.

تدور أحداث روايته الجديدة، "لا بريد إلى غزة"، الصادرة عن "دار الآداب" في بيروت (2025)، حول الشاب الغزي جلال مطر، الذي يعيش مفارقة حياتية حادة بين شغفه برياضة الباركور وعمله حفارا للقبور، المهنة التي ورثها عن والده. نتعرف من خلاله الى غزة قبل أن تبتلعها الحروب المدمرة، حيث تختلط الحياة اليومية بظل الموت الثقيل.

جلال، الذي بدأ طفلا يرافق والده إلى المقبرة، تعلم أن ينظر إلى العالم من زاوية غير مألوفة، فيصف طفولته قائلا: "بينما كان الآباء الآخرون يأخذون أبناءهم إلى السوق أو شاطئ البحر، حرص والدي على أن أواظب على الذهاب إلى المقبرة. إنها المهنة التي أكلنا منها خبزنا المشبع برائحة الموت".

يتابع: "صرت عندما أقابل الناس أنظر إليهم على أنهم مشاريع موتى، ومثلما يقيس الخياط أجساد الزبائن بعينيه ليفصل لهم الملابس الملائمة، تخيلت مقاسات القبر المناسب لكل واحد منهم".

يوجز المشهد السابق طبيعة السرد الذي يوازن بين القسوة والحنين، إذ تتحول المقبرة من فضاء للفقد إلى مساحة للتأمل في المعنى الأعمق للحياة والموت.

تبدو "لا بريد إلى غزة" في بنيتها وأجوائها امتدادا لمسار بدأه الكاتب في عمله الروائي، "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور"، غير أن موضوعها يذهب في اتجاه آخر، ففي عمله السابق، قدم شخصية تعمل في مطبخ مطعم، تعيش عزلة داخلية وسط زحام يومي، وتغرق في تأملات فلسفية مستوحاة من قراءة شوبنهاور، حيث يهيمن البعد الفردي والتأمل المجرد، مع حضور للمكان كإطار مادي محدود المساحة، ويغدو المطبخ مسرحا للأفكار والمفارقات الوجودية. أما في "لا بريد إلى غزة"، فيتسع فضاء السرد ليشمل مدينة كاملة، محاطة بحدود مادية ومعنوية، ويصبح البطل جزءا من شبكة علاقات عائلية ومجتمعية، يتنقل بين القفز فوق السطوح وحفر القبور، في مواجهة مباشرة مع الموت والحرية.

البنية الرمزية في العمل الثاني أكثر التصاقا بالبيئة الفلسطينية، إذ تخرج الرموز من رحم التجربة المحلية

من الناحية اللغوية، يحافظ الكاتب في العملين على نفس تصويري حاد وقدرة على إدخال القارئ في عمق المشهد، مع اختلاف في الإيقاع. فـ"غاسل صحون يقرأ شوبنهاور"، تميل إلى جمل قصيرة وإيقاع أقرب إلى المونولوغ المتواصل، بينما في "لا بريد إلى غزة"، يتنوع الإيقاع بين المقاطع السريعة والمشاهد الوصفية المطولة، بما يتناسب مع اتساع رقعة الأحداث. كما أن البنية الرمزية في العمل الثاني أكثر التصاقا بالبيئة الفلسطينية، إذ تخرج الرموز من رحم التجربة المحلية: القبر، الباركور، المطر، الأخ الغائب. في المقابل، يستعير العمل الأول رموزه من مرجعيات فلسفية وأدبية عالمية.

تكشف المقارنة بين العملين عن الانخراط المباشر للكاتب في الواقع الجمعي، مع احتفاظه بالقدرة على الغوص في الأسئلة الوجودية.

محمد جبعيتي وغلاف روايته "لا بريد في غزة"

بوابة النص

يحمل عنوان "لا بريد إلى غزة" دلالة رمزية تتجاوز الإشارة المباشرة إلى انقطاع المراسلات، مما يفتح الباب أمام جملة من المعاني المرتبطة بالعزلة والانفصال عن العالم. فالبريد، في دلالته الأولى، وسيلة للتواصل وتبادل الكلام والذكريات، وحين ينقطع، يتحول الأمر إلى إعلان صريح أن الرسائل تبقى حبيسة الصدور. هذا الانقطاع يفهم في معناه المادي ويمتد إلى البعد النفسي، إذ يجد الغزي نفسه محاطا بجدار من الصمت الإجباري، عاجزا عن تمرير صوته إلى خارج حدود الحصار.

ولعل اختيار الكاتب لهذه الصيغة يمنح العنوان قوة استباقية، إذ يهيئ القارئ لمناخ من الانقطاع والحجب، ويوحي بأن ما سيأتي من أحداث يجري في فضاء مغلق، لا تصل إليه الأخبار إلا كأصداء بعيدة. منذ اللحظة الأولى، يصبح العنوان نافذة إلى ثيمات أكبر، مثل فقدان الاعتراف بالوجود الإنساني، وتحول المكان إلى جزيرة معزولة داخل عالم متحرك.

تضع الرواية بطلها، جلال مطر، في مواجهة مفارقة لافتة، فهو شاب غزي مهووس برياضة الباركور، يقفز بين السطوح باحثا عن لحظة حرية في فضاء مكتظ بالبنايات، وفي الوقت نفسه وارث مهنة أبيه، حفار القبور. وتمثل هذه المفارقة أكثر من مجرد تباين بين هواية وعمل، فهي انقسام وجودي بين حركتين متعاكستين: القفز إلى الأعلى بحثا عن أفق، والحفر في الأرض نحو الأعماق لاستقبال الموتى، فالجسد نفسه الذي يختبر خفة الهواء يختبر أيضا ثقل التراب.

عبر هذه الثنائية، يطرح النص أسئلة حول معنى الحرية في مكان محاصر، وحول قدرة الفرد على التوفيق بين اندفاعه نحو الحياة وبين الإرث الذي يضعه وجها لوجه مع الموت.

Mohammed ABED / AFP
رجال يبيعون ذرة مشوية عند الغروب، في غزة

ترسم الرواية صورة مكثفة للحياة الغزية قبل الكارثة الكبرى، حيث يعيش جلال بين أزقة ضيقة وأسواق صغيرة، يشارك في طقوس العائلة، يشم رائحة الفلافل من المطعم القريب، ويشاهد الجيران أمام بيوتهم في صباحات المطر. تتصاعد الأحداث عبر محطات شخصية وعائلية، تتخللها قصص حب وأحلام صغيرة، في مواجهة حصار خانق يجعل كل يوم امتحانا للبقاء.

تنفتح الرواية على مساحة من الخيال الممزوج بالذاكرة الشعبية، إذ تحضر الكوابيس كجزء من النسيج السردي، ويظهر الموتى في الحلم كأنهم على قيد الحياة: جلال يرى أخاه أحمد في القبر، يسمع صوته، يلمس وجهه، ثم يتبدد المشهد إلى صورة جمجمة صامتة. هذه الانتقالات بين الحلم واليقظة، تذكر ببنية الواقعية السحرية، حيث يمكن الحدث العجائبي أن يتعايش مع اليومي دون أن يبدو غريبا.

هذه الانتقالات بين الحلم واليقظة تذكر ببنية الواقعية السحرية، حيث يمكن الحدث العجائبي أن يتعايش مع اليومي دون أن يبدو غريبا

كما تستدعي الرواية أساطير المقبرة، مثل الثعابين التي تعيش في جماجم الموتى وتدل على سوء الخاتمة، والغولة التي تلتهم الأطفال الذين لا يسمعون كلام والديهم. تمنح هذه العناصر النص طابعا أسطوريا، وتؤكد أن الحكاية في غزة محاطة دوما بهالة من الميثولوجيا المحلية. بينما يشكل الموت مهنة متوارثة، أكثر من كونه لحظة طارئة.

Mahmud HAMS / AFP
شاطئ مزدحم في غزة، في يوم صيفي حار

تأخذ العائلة في الرواية حيزا مؤثرا في مسار البطل، لا كمجرد خلفية للأحداث. فالأب حاضر بجسده الغائب بروحه، يورث جلال مهنة الحفر كإرث ثقيل يلازمه، بينما تمثل الأم الحنان المكابر، امرأة تحاول حفظ البيت متماسكا رغم الفقد، أما أحمد، الأخ الغائب منذ البداية، فيتحول إلى ظل طويل يمتد في الذاكرة، وتصبح ذكراه مرآة لفهم معنى الفقد.

يحمل كل فرد في هذه العائلة جرحه الخاص، ومع ذلك تبقى العلاقات بينهم مشدودة بخيوط غير مرئية من الولاء والصمت، مما يمنح السرد عمقا إنسانيا، ويجعل القارئ يرى أن الحصار يجمع بين كونه جدارا ماديا وشبكة من القيود التي تحكم الروابط الأسرية نفسها.

المكان بوصفه شخصية

تتعامل الرواية مع غزة كأنها شخصية لها مزاجها وذاكرتها: الأزقة الضيقة، سطوح المنازل، شاطئ البحر، سوق السمك، والمقبرة الكبرى، كلها ملامح لشخصية المكان. يصف الكاتب هذه المواقع بأسلوب يتجاوز الوصف الفوتوغرافي، ويمنحها بعدا شعوريا، إذ تتحول السطوح إلى مسرح لمغامرات الباركور، والمقبرة إلى مسرح للبوح، والسوق إلى مركز لاختلاط الحكايات، حتى رائحة اليود والملح من البحر تدخل النص لتؤكد حضور المكان كشخصية حية. يجعل هذا التصوير غزة فضاء نابضا، يتنفس مع الشخصيات ويتألم معها، ويتحول إلى عنصر فاعل في تشكيل الأحداث: "كانت واحدة من اللحظات القليلة التي يمكن أن يشعر فيها الغزيون بالسعادة، حين يجلسون على شاطئ البحر، يأكلون ويتحدثون، متشبثين بالحياة المتأرجحة بين حربين".

يتشكل الزمن في الرواية من طبقات متداخلة، إذ يتنقل السرد بين الحاضر الذي يعيشه جلال، والماضي الذي يستدعيه عبر ذكريات الطفولة والمراهقة. يصبح الاسترجاع، أو الخطف إلى الخلف، وسيلة لإبراز الفارق بين غزة التي كانت قبل اشتداد الحصار، وغزة التي أغلقت عليها الأبواب، يتسم الحاضر بالتوتر والترقب، حيث كل لحظة يمكن أن تنقلب إلى كارثة، بينما الماضي، رغم قسوته، أرحب في الذاكرة، وربما أكثر دفئا، لأنه يحمل ملامح طفولة لم تكتمل.

تقدم الرواية الموت في مستويين متوازيين، فهناك الموت الفردي، المتمثل في جنازات يعرفها جلال شخصيا، موت الجيران والأقارب، والموت الذي يمر أمامه كحدث يومي. وهناك الموت الجماعي، المتمثل في القصف والدمار الشامل، المهدد في أي لحظة. وتكشف هذه الثنائية أن الموت في غزة يشكل حدثا متصلا بالبنية اليومية للوجود، حيث يرى القارئ، عبر عيني جلال، كيف يتشكل وعي الإنسان في بيئة يعيش فيها على حافة الفقد الدائم.

في مرآة السرد

تضم الرواية مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تمنح النص تنوعا في الأصوات والزوايا، هناك الأصدقاء الذين يشاركون جلال مغامرات الباركور، رجال الحارة الذين يجلسون أمام المحلات يتابعون أخبار الحرب، ونساء الجيران اللواتي يتبادلن القصص عن الغائبين. هذه الشخصيات ليست عابرة، إذ يشكل حضورها فسيفساء للمجتمع الغزي، حيث يتجاور المرح مع الفقد، والحياة اليومية مع الخطر.

تلتقط الرواية نبض المكان والإنسان في لحظة تاريخية مشحونة، من خلال شخصية تحمل مفارقات الحياة والموت في جسد واحد

تمزج لغة الرواية بين البساطة المشهدية والشحنة الشعرية، فالحوار يأتي سلسا وطبيعيا، ويعكس لهجة الشخصيات وحياتها اليومية، بينما يميل الوصف إلى تكثيف الصورة وإعطائها بعدا تأمليا. قد تكون الجملة قصيرة وصادمة في مشهد الموت، وقد تتمدد لتصبح مشهدا تصويريا في لحظات الهدوء، كما يستخدم الكاتب الصور الحسية بكثافة، فيصف الروائح والأصوات والملمس، مما يمنح القارئ شعورا بالانغماس في المكان والزمان.

Eyad BABA / AFP
نازحون يفرون جنوبا عبر الطريق الساحلي قرب مخيم النصيرات

الرموز في الرواية متجذرة في البيئة المحلية، ومع ذلك تحمل دلالات إنسانية عامة، فالقبر يرمز إلى الحتمية والقدر الذي لا مفر منه، بينما القفز فوق السطوح يشير إلى محاولة تجاوز القيود والسعي نحو فضاء مفتوح، أما المطر فيعكس تطهير الذاكرة وإعادة الولادة في وسط الخراب. تنبع هذه الرموز من داخل التجربة السردية، وتتكرر بطرق مختلفة تمنحها أبعادا جديدة مع تقدم الأحداث.

تعتمد الرواية على بنية سردية تتناوب فيها المقاطع الواقعية الصلبة مع لحظات من الخيال والحلم، يتم الانتقال بين المستويين بسلاسة، مما يعكس طبيعة وعي الشخصية الرئيسة التي ترى العالم من خلال مزيج من الملموس والمتخيل. كما تلتقط الرواية نبض المكان والإنسان في لحظة تاريخية مشحونة، من خلال شخصية تحمل مفارقات الحياة والموت في جسد واحد، حيث يقدم الكاتب نصا يتجاوز حدود التوثيق ليصبح تأملا في معنى الوجود وسط العزلة والحصار.

font change