شبانة محمود... الجرأة في اختراق الملفات الشائكة

ترسيخ القيم المحافظة من منظور يسار الوسط

إدوارد رامون
إدوارد رامون

شبانة محمود... الجرأة في اختراق الملفات الشائكة

مع بروز قضية الهجرة غير الشرعية كإحدى أبرز القضايا التي تواجه حكومة رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر، أثار تعيين شبانة محمود في منصب وزيرة الداخلية آمالا في أن تتمكن إدارتها أخيرا من معالجة هذه القضية الشائكة وإحكام السيطرة عليها.

وقد وصل عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون إلى المملكة المتحدة من فرنسا هذا العام إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، إذ تُقدّر أعداد من قاموا بتلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر حتى الوقت الحالي بأكثر من 30 ألف شخص. وبالنظر إلى أن عدد المقيمين غير الشرعيين في بريطانيا يُقدّر بأكثر من 100 ألف شخص، باتت هذه القضية مثار جدل بين مختلف الأحزاب السياسية.

وكانت هذه القضية عاملا مهماً في صعود حزب "الإصلاح" اليميني المتشدد بزعامة السياسي المعارض نايجل فاراج، الذي برز مؤخرا كأقوى منافس لحزب "العمال" الحاكم بزعامة ستارمر.

ولهذا السبب، عندما اضطر ستارمر إلى إجراء تعديل وزاري عقب استقالة نائبة رئيس الوزراء أنغيلا راينر بسبب قضية ضريبية مثيرة للجدل، انتهز الفرصة لتعيين شبانة محمود وزيرة للداخلية، على أمل أن تتمكن من السيطرة على واحدة من أكثر القضايا إثارة للانقسام في السياسة البريطانية اليوم.

يُعرف عن شبانة محمود أسلوبها الحازم وساعات عملها الطويلة التي تمتد إلى 16 ساعة يوميا، وهي واحدة من أكثر وزراء الحكومة فعالية. شغلت منصب وزيرة العدل لأكثر من عام، اتخذت خلاله قرارا مثيرا بإطلاق سراح بعض السجناء مبكرا لتخفيف الضغط على السجون، وها هي اليوم المسؤولة الأولى عن الشرطة والهجرة وأجهزة الأمن.

في مهمة أخلاقية

وقد تجلى صعودها كلاعبة رئيسة في حكومة ستارمر من خلال النهج الصارم الذي تبنته لإعادة صياغة سياسة بريطانيا تجاه الهجرة، حيث طرحت سلسلة من الإجراءات القوية الرامية إلى ضبط هذا الملف المثير للانقسام. ومن بين التدابير التي أعلنتها، سيتعين على من يُمنحون حق اللجوء في بريطانيا الانتظار 20 عاما قبل التقدم بطلب للإقامة الدائمة. كما ستخضع أوضاع اللاجئين لمراجعات دورية، بحيث يُطلب من الذين تُعتبر بلدانهم آمنة العودة إليها.

الهدف من هذه التغييرات هو جعل بريطانيا أقل جاذبية للمهاجرين غير الشرعيين، بما يؤدي إلى تقليص عمليات العبور عبر القوارب الصغيرة وخفض طلبات اللجوء.

وفي مقابلة مع "هيئة الإذاعة البريطانية" حول أجندتها الإصلاحية الجريئة في ملف الهجرة، لم تُبد محمود أي اعتذار عن هذه الإجراءات، محذرة من أن القضية "تمزق البلاد"، مؤكدة أنها تعتبر مواجهة الهجرة غير الشرعية "مهمة أخلاقية".

إن استعداد محمود لوضع سمعتها السياسية على المحك في قضية شديدة الحساسية يعكس نهج هذه المحامية السابقة البالغة من العمر 44 عاما، التي لا تتردد في مواجهة الملفات الشائكة، حتى إن بعض المراقبين يرون أن مواقفها الصلبة تقرّبها من فاراج أكثر مما تقرّبها من زملائها في حزب "العمال".

إيماني هو محور حياتي، وهو الدافع وراء انخراطي في الخدمة العامة، كما أنه يوجه طريقة عيشي ونظرتي إلى الحياة

وفيما يتعلق بالإشكالية المعقّدة المتعلقة بالهوية الجندرية والجنس البيولوجي، أعربت محمود عن وجهة نظرها بقولها: "أؤمن بأهمية الاعتراف بالجنس البيولوجي الذي يعد سمة ثابتة وجوهرية تُشكّل إدراك الغالبية العظمى من النساء لوجودهنّ في هذا العالم". كما وجّهت انتقادات لحزبها لفشله في التصدي لعصابات الاستغلال الجنسي المتهمة بارتكاب اعتداءات جنسية ضد نساء بريطانيات، وتفكّر في تقليص عضوية بريطانيا في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان المثيرة للجدل، التي كثيرا ما تعرقل سياسات الحكومة البريطانية بشأن قضايا الهجرة. وهي، على حدّ تعبيرها، "محافظة اجتماعيا وليس بالمعنى الحزبي".

أثارت تصريحات محمود الأخيرة جدلا إضافيا بعد اقتراحها تعليق منح التأشيرات لمواطني الدول التي ترفض التعاون في إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى بلدانهم. وتعهدت بالمضي قدما في تطبيق عقوبات التأشيرات- التي قد تشمل مواطني الهند وباكستان ونيجيريا- وذلك في أعقاب اجتماعها الأسبوع الماضي في لندن مع كريستي نويم، المسؤولة المتشددة في إدارة الأمن الداخلي خلال فترة حكم الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

رويترز
وزيرة الداخلية البريطانية شبانة محمود تصل إلى مبنى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لإجراء مقابلة تلفزيونية قبل نشر بيان سياسة اللجوء الجديد، في لندن، بريطانيا، 16 نوفمبر 2025.

وأكدت محمود أن المهاجرين الذين قدموا إلى بريطانيا بشكل قانوني، كما فعل والداها القادمان من باكستان، يشعرون بنفس مستوى الاستياء تجاه أولئك الذين يصلون على نحو غير قانوني. وتُعتبر ديانتها الإسلامية عاملا داعما لعزمها في معالجة أزمة الهجرة، ولا سيما أن نسبة كبيرة من المهاجرين يتشاركون معها في الانتماء الديني نفسه. وفي تصريحات لصحيفة "التايمز"، أوضحت: "إيماني هو محور حياتي، وهو الدافع وراء انخراطي في الخدمة العامة، كما أنه يوجه طريقة عيشي ونظرتي إلى الحياة".

وقد حظيت محمود بإشادة من موريس غلاسمان، مؤسس "تيار العمال الأزرق" الذي يسعى إلى ترسيخ القيم المحافظة من منظور يسار الوسط، إذ رأى فيها "شخصية صادقة بعيدة عن التكلف، وهي ميزة نادرة في حزب العمال". وفي السياق ذاته، كتب مايكل غوف، الوزير المحافظ السابق ورئيس تحرير مجلة "سبيكتاتور"، مقالا أثنى فيه على مؤهلاتها السياسية، مشبّهاً إياها بما تمتعت به مارغريت تاتشر ذات يوم من "حزم وصلابة"، وهي التي تعترف محمود نفسها بأنها إحدى أبرز مصادر إلهامها. وإذ كانت تاتشر أول امرأة تتولى قيادة حزب "المحافظين" قبل نصف قرن، فإن إرثها يثير لدى البعض قناعة بأن محمود قد تسير على النهج ذاته في المستقبل القريب.

إذ كانت تاتشر أول امرأة تتولى قيادة حزب "المحافظين" قبل نصف قرن، فإن إرثها يثير لدى البعض قناعة بأن محمود قد تسير على النهج ذاته في المستقبل القريب

دراستها في أكسفورد ومسيرتها السياسية

نشأت شبانة محمود في برمنغهام، حيث وُلدت لأبوين ينحدران من إقليم كشمير الخاضع للإدارة الباكستانية، وقضت طفولتها متنقلة بين مسقط رأسها (برمنغهام) والمملكة العربية السعودية. فقد انتقلت العائلة، ومعها شبانة وشقيقها التوأم، إلى مدينة الطائف، حيث عمل والدها مهندسا مدنيا، وكانت الأسرة تقوم بزيارات منتظمة إلى المواقع الدينية في مكة المكرمة والمدينة المنورة. وبعد سبع سنوات، عادت العائلة إلى برمنغهام، حيث واصل والدها عمله كمهندس بدوام كامل، وافتتح متجرا صغيرا، ثم أصبح لاحقا رئيسا للفرع المحلي لحزب "العمال".

أتمت محمود دراستها الثانوية في مدرسة للبنات قبل أن تلتحق بكلية لنكولن في جامعة أكسفورد لدراسة القانون. وخلال سنواتها الجامعية، انتخبت رئيسة لاتحاد الطلبة، وحظيت بدعم واسع شمل رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك، الذي كان يكبرها بعام دراسي. وبعد تخرجها، انتقلت إلى لندن لممارسة المحاماة، حيث تخصصت في قضايا التأمين المهني طوال معظم عقد العشرينات من عمرها.

أ.ف.ب
عائلة مهاجرة تنتظر الصعود على متن قارب مهربين في محاولة للوصل إلى بريطانيا، في 27 سبتمبر 2025

وفي عام 2010، وهي في التاسعة والعشرين، فازت بمقعدها النيابي عن دائرة برمنغهام ليديوود، أحد معاقل حزب "العمال"، محققة فوزا مريحا بفارق تجاوز 9 في المئة في أول انتخابات تخوضها. وتعزز هذا التفوق في الانتخابات المبكرة عام 2017، حيث ارتفعت نسبة الأصوات التي حصلت عليها إلى 82.7 في المئة، لتصبح بذلك واحدة من أوائل النساء المسلمات اللواتي يدخلن البرلمان البريطاني.

شغلت محمود عددا من المناصب في حكومة الظل خلال قيادة إد ميليباند لحزب "العمال"، بينها وزيرة الظل لشؤون السجون والتعليم العالي، ثم وزيرة الظل للشؤون المالية في وزارة الخزانة، ما أتاح لها توسيع خبرتها السياسية والاقتصادية. وغالبا ما صنفت ضمن "تيار العمال الأزرق" المحافظ اجتماعيا. وعندما تولى جيريمي كوربن قيادة الحزب عام 2015، فضلت العودة إلى مقاعد البرلمان الخلفية، رافضة عرضا بالانضمام إلى حكومة الظل بقولها عبارتها الشهيرة: "سأكون تعيسة وسأجعلك تعيسا أيضا".

وفي عام 2010، وهي في التاسعة والعشرين، فازت بمقعدها النيابي عن دائرة برمنغهام ليديوود، أحد معاقل حزب "العمال"، محققة فوزا مريحا بفارق تجاوز 9 في المئة في أول انتخابات تخوضها

وبرغم ذلك، حافظت خلال فترة قيادة كوربن على حضورها السياسي من خلال عضويتها في اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب "العمال"، وشغلها منصب نائبة رئيس منتدى السياسات الوطني. ومع تولي كير ستارمر زعامة الحزب، عادت بقوة إلى الواجهة، إذ عينت منسقة للحملة الانتخابية الوطنية وتولت الإعداد للانتخابات العامة المقبلة. وبعد فترة وجيزة من تعيينها وزيرة للعدل، كلفت بمتابعة تطوير تقرير شامل عن واقع السجون المتهالكة في البلاد، الذي كان وزير العدل الأسبق ديفيد غوك قد أعده، وكشف أن السجون تعمل بأقصى طاقتها الاستيعابية، فكان السبب وراء اتخاذ قرار مثير للجدل بالإفراج المبكر عن أكثر من 1000 سجين لتخفيف الضغط. واضطرت وزارة العدل لاحقا للاعتذار بعدما تبين أن 37 سجينا قد أطلق سراحهم عن طريق الخطأ.

أبدت موقفا صريحا تجاه سياسة حزب "العمال" فيما يتعلق بغزة، إذ حذّرت رئيس الوزراء من أن "المسلمين البريطانيين يعانون من ألم عميق"، وأن على الحكومة العمل على استعادة ثقتهم. كما شوهدت وهي تشارك في مسيرات التضامن مع فلسطين حاملة لافتات تنادي بـ"تحرير فلسطين"، وامتنعت عن التصويت على قرار حظر منظمة "أكشن من أجل فلسطين" الذي تقدمت به سابقتها في وزارة الداخلية، إيفيت كوبر، في وقت سابق من هذا الصيف.

رويترز
شبانة محمود خلال لقاء مع بي بي سي في لندن، بريطانيا، 16 نوفمبر 2025

وقد دانت شبانة محمود هجمات "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ كتبت في رسالة إلى ناخبيها بتاريخ 12 أكتوبر: "أدين دون تحفظ الأفعال الوحشية التي ارتكبتها (حماس) واستهدفت المدنيين الإسرائيليين الأبرياء. يجب إعادة المختطفين فورا... هذه الفظائع ارتكبتها جماعة إرهابية لا تؤمن بالسلام، وهي قد أضرت بالقضية العادلة لتحرير فلسطين وإقامة دولتها التي دعمتها طوال حياتي".

في فبراير/شباط 2024، أوضحت شبانة محمود خلال مقابلة مع إذاعة "بي بي سي-4" رؤيتها المتوازنة للصراع، قائلة: "الحل القائم على دولة واحدة لا يضمن أمن الإسرائيليين، بل سيحكم عليهم بالعيش في خوف دائم على سلامتهم. ومن الظلم تبني موقف يعترف بحق تقرير المصير للشعب الإسرائيلي بينما يحرم الشعب الفلسطيني من هذا الحق نفسه".

ويُعد الاحترام الذي تحظى به محمود عبر الطيف السياسي البريطاني دليلا على مكانتها السياسية الفريدة، إذ بدأ يُنظر إليها منذ تعيينها وزيرة للداخلية- رغم الظروف السياسية المتوترة- كمرشحة محتملة لخلافة كير ستارمر في قيادة حزب "العمال"، بل وحتى كمرشحة محتملة لمنصب رئاسة الوزراء في المستقبل.

font change