الميليشيات العراقية تتجه للإثراء والسياسة... الانتخابات وتجربتي مثالا

قبل أشهر من الانتخابات، أجبرت الميليشيات عناصرها على التسجيل للتصويت، وألزمتهم بضمان تسجيل أفراد عائلاتهم. ومن امتنع كان عرضة للطرد

Axel Rangel García

الميليشيات العراقية تتجه للإثراء والسياسة... الانتخابات وتجربتي مثالا

تكشف نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق عن تحول في طبيعة التهديد الذي تمثله الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بعدما عززت حضورها داخل البرلمان بشكل ملحوظ. غير أن هذا التقدم الانتخابي لا يعكس دعما شعبيا حقيقيا، إذ إن فئات كثيرة من العراقيين الشيعة يبغضون هذه الميليشيات، منذ أن قمعت بعنف "انتفاضة تشرين" عام 2019 دفاعا عن نظام فاسد ومنبوذ، ما أسفر عن مقتل نحو 800 متظاهر وناشط، معظمهم من الشيعة. فكيف يمكن تفسير هذا النجاح الانتخابي إذن؟

تُظهر تجربتي الشخصية خلال 903 أيام من الأسر على يد واحدة من كبرى الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، وهي "كتائب حزب الله"، طبيعة الأولويات المتغيرة لهذه الجماعات. فقد انتقلت من رفع شعار "المقاومة" إلى السعي وراء الإثراء الذاتي والاستحواذ على النفوذ السياسي. لم تكن عملية اختطافي سوى جريمة محضة لا تمت بصلة إلى "مقاومة" إسرائيل. ولم يدرك الخاطفون هويتي الإسرائيلية إلا بعد مرور شهر على احتجازي، عندما تمكنوا من الوصول إلى محتوى هاتفي. ومع ذلك، لم يتبدل هدفهم الأساسي بعد اكتشاف جنسيتي الثانية، بل ظل منصبا على المطالبة بفدية مالية خيالية بلغت في بدايتها 600 مليون دولار.

وقد خُصص جانب من الأموال الطائلة التي راكمتها هذه الميليشيات عبر نهب خزائن الدولة وابتزاز المواطنين، لتمويل حملة غير مسبوقة لشراء أصوات الناخبين.

 أ ب
مؤديون لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يحتفلون في ساحة التحرير في بغداد في 12 نوفمبر بعد ظهور تقدم لائحته في الانتخابات البرلمانية

أدركت هذه الجماعات الموالية لإيران أهمية الفوز بأكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان. فكلما اتسعت كتلتها داخل المجلس، زادت الوزارات والمشاريع التي تُمنح لها، ما يعزز قدرتها على استنزاف موارد الدولة ويرسخ نفوذها في توجيه السياسة العامة للعراق، ولا سيما بما ينسجم مع الأهداف الإقليمية الإيرانية.

في المرحلة الراهنة، ترى طهران أن أهمية هذه الميليشيات تكمن في أدوار أخرى، إذ تفضل أن تنشط في تهريب الدولارات عبر الحدود إلى إيران، ونقل النفط وسلع أخرى لدعم الاقتصاد الإيراني المتعثر

إن تغليب هذه الجماعات للسيطرة السياسية والنهب على "المقاومة" يعكس مسار تحولها منذ إنشائها على يد إيران لمواجهة الاحتلال الأميركي. ففي عام 2014، انضم عشرات الآلاف من العراقيين إلى صفوفها لصد هجوم تنظيم "داعش". وبعد انتهاء القتال، جرى تنظيم هذه الفصائل تحت مظلة "الحشد الشعبي" الذي بلغ تعداده نحو 60 ألف مقاتل. كثير من هؤلاء عاد إلى منزله بعد هزيمة التنظيم، غير أن أعداد الميليشيات تضخمت لاحقا حتى قاربت 250 ألف عنصر، معظمهم من رجال لم يتجهوا إلى الخطوط الأمامية حين كان ثلث البلاد تحت سيطرة "داعش"، بل التحقوا بعد زوال التهديد سعيا وراء رواتب مضمونة.

 أ ف ب
رئيس الوزراء العراقي الاسبق نوري المالكي وزعيم تنظيم "عصائب اهل الحق" قيس الخزعلي بعد ادلائهما بصوتيهما في مركز اقتراع في بغداد في 11 نوفمبر

كما تبدلت عقلية القيادات. فبعد انقضاء زمن الصراع الأيديولوجي مع الولايات المتحدة أو "داعش"، اعتاد قادة الميليشيات وأقاربهم حياة بذخ، محاطين بمواكب من السيارات ذات النوافذ المظللة و"حمايات" من الأتباع المتملقين. كانت جميع المركبات التي نُقلت بها بين ثلاثة مواقع مختلفة خلال فترة احتجازي جديدة ومجهزة بمقاعد جلدية فاخرة، وكانت المقرات تضم شاشات تلفاز كبيرة. أما الموقع الأخير فكان يحتوي حتى على حوض جاكوزي ــ ولم يكن بالطبع مخصصا لي.
أصبحت المكاتب الاقتصادية التابعة للميليشيات محور نشاطها الأساسي. فهي تستخلص أموال "الخوة" من الشركات الشرعية، وتفرض "اتاوات" غير قانونية في نقاط التفتيش، وتستولي على العقارات بالترهيب، وتنشئ شركات خاصة بها، وتستأثر بالعقود الحكومية الممنوحة لها.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، في ظل حكومة محمد شياع السوداني، ترسخت هذه الأولويات الجديدة. فقد واجه المحور الموالي لإيران سلسلة من الانتكاسات نتيجة اختراق استخباري عميق من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، ما جعل خطر التصفية الجسدية لقادة الميليشيات أكثر وضوحا. وفي الوقت ذاته، فتحت الأبواب أمام هذه الجماعات لنهب خزائن الدولة على نطاق غير مسبوق، ما عزز رغبتها في تجنب الصدام مع واشنطن وتل أبيب حفاظا على الثروات التي راكمتها.
أما إيران، المثقلة بوطأة العقوبات الدولية المتصاعدة، فبدت كأنها تفضل تقليص حضور شعار "المقاومة" في أجندة هذه الجماعات. وتشير تقارير إلى أن النظام الإيراني حث هذه الميليشيات على عدم الانخراط في حرب الأيام الاثني عشر على إيران، وعلى تجنب استفزاز الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أن دور الميليشيات العراقية في إرسال مقاتلين إلى سوريا تحت القيادة الإيرانية انتهى مع انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وهذا الحدث التاريخي أدى أيضا إلى تراجع دورها في تهريب الأسلحة إلى سوريا و"حزب الله" اللبناني، عقب انهيار الجسر البري الذي كانت طهران تتباهى به والذي كان يصل بين طهران وبيروت.
وفي المرحلة الراهنة، ترى طهران أن أهمية هذه الميليشيات تكمن في أدوار أخرى، إذ تفضل أن تنشط في تهريب الدولارات عبر الحدود إلى إيران، ونقل النفط وسلع أخرى لدعم الاقتصاد الإيراني المتعثر، إضافة إلى ضمان بقاء نظام موال لها في بغداد من خلال التلاعب بالعملية الانتخابية.

قادة هذه الجماعات، بعدما راكموا ثروات طائلة، أصبحوا أقل استعدادا للشهادة، ما يجعلهم أكثر ميلا لاحترام الخطوط الحمراء الصارمة التي ترسمها الولايات المتحدة وغيرها من القوى

قبل أشهر من الانتخابات، أجبرت الميليشيات عناصرها على التسجيل للتصويت، وألزمتهم بضمان تسجيل أفراد عائلاتهم. ومن امتنع كان عرضة للطرد. ومع اقتراب موعد الاقتراع، فُرض على العناصر إحضار بطاقات الهوية الانتخابية الخاصة بأقاربهم وأصدقائهم للتصويت لصالح الأحزاب التابعة للميليشيات، ومن رفض واجه الفصل أو حتى السجن. وبهذه الطريقة، شكّل نحو 250 ألف عنصر من أفراد الميليشيات، إلى جانب أقاربهم، القاعدة الأساسية لدعم الأحزاب المسلحة.
وفي المرحلة الأخيرة، استخدمت الميليشيات والأحزاب الحاكمة الأخرى المليارات التي استولت عليها من المال العام لشراء الأصوات. فقد حطمت المبالغ التي أُنفقت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة جميع الأرقام القياسية، وبلغت مليارات الدولارات الأميركية. ومن أبرز مظاهر هذا الإنفاق تعيين أفراد بصفة مراقبين انتخابيين من قبل الأحزاب. لكن الواقع أن هؤلاء وُعدوا برواتب مقابل منح أصواتهم وأصوات عائلاتهم وأصدقائهم. وتشير التقديرات إلى أن عددهم بلغ نحو مليوني شخص، فيما بلغ مجموع الأصوات نحو 12 مليون صوت فقط، أي بمعدل مراقب واحد لكل ستة ناخبين، ونحو 50 مراقبا في كل واحد من محطات الاقتراع البالغ عددها 40,819 مركزا في أنحاء العراق.
يحدد القانون العراقي عدد المراقبين الذين يمكن لكل حزب تعيينهم بناء على عدد مراكز الاقتراع في الدائرة الانتخابية، وقد بلغ عدد هؤلاء نحو 500 ألف مراقب. غير أن المقلق أن الأحزاب الحاكمة لجأت إلى ما يُعرف رسميا بالمنظمات غير الحكومية لتوظيف مراقبين إضافيين باسم هذه الكيانات، ما أضاف قرابة 1.5 مليون مراقب آخر. وإلى جانب ذلك، استعانت هذه الأحزاب بآلاف الركائز، أي الشخصيات البارزة المعروفة في المجتمعات المحلية، لحشد أصوات دوائرهم الاجتماعية.

رويترز
هادي العامري زعيم "منظمة بدر" في تجمع انتخابي في الاول من نوفمبر في مدينة الحلة العراقية

وقد أثمرت هذه المليارات المنفقة. إذ أسفرت الانتخابات البرلمانية عن ارتفاع كبير في عدد مقاعد الميليشيات، وهو ما يُعد من النجاحات النادرة لإيران خلال العامين الماضيين. ومع ذلك، لا يُتوقع أن يترجم هذا النجاح إلى تهديد عسكري مباشر من قبل هذه الجماعات، التي باتت أقل استعدادا لخوض أعمال مقاومة مكلفة، رغم استمرارها في الترويج لخطاب المحور وتلهف عناصر وقادة الفصائل لنيل "الشهادة". وتجربتي الشخصية خير دليل: فقد طالبت "كتائب حزب الله" بفدية مقابل الإفراج عني لأكثر من عامين، لكن عندما هدّد مارك سافايا، المبعوث الأميركي الخاص للعراق حاليا، بأنه إذا لم يُطلق سراحي خلال أسبوع فإن الرئيس دونالد ترمب سيأمر بتنفيذ ضربات تستهدف قيادة الميليشيا، أُفرج عني من دون أي مقابل.
إن أي استراتيجية للتعامل مع هذه الجماعات المسلحة ينبغي أن تراعي التحولات التي طرأت على دورها وأولوياتها. فمكمن الخطر لم يعد في قدراتها القتالية بقدر ما يكمن في استيلائها على مفاصل الدولة العراقية ونهبها الثروات العامة لصالحها وصالح طهران، وسحقها المعارضة الداخلية، وتحويل القرار السيادي العراقي إلى أداة بيد النظام الإيراني. ويجب أن تنطلق هذه الاستراتيجية من إدراك أن قادة هذه الجماعات، بعدما راكموا ثروات طائلة، أصبحوا أقل استعدادا للشهادة، ما يجعلهم أكثر ميلا لاحترام الخطوط الحمراء الصارمة التي ترسمها الولايات المتحدة وغيرها من القوى.

قد يبدو العراق بلدا هامشيا في نظر صناع القرار في واشنطن، لكنه في الحقيقة يُعد من أهم شرايين الحياة للنظام الإيراني الذي يرزح تحت وطأة العقوبات والضعف

قد يبدو العراق بلدا هامشيا في نظر صناع القرار في واشنطن، لكنه في الحقيقة يُعد من أهم شرايين الحياة للنظام الإيراني الذي يرزح تحت وطأة العقوبات وقلة شعبيته الداخلية. وهو أيضا وطن لأكثر من 46 مليون نسمة يستحقون أفضل من هذا النظام الذي يعد واحدا من أكثر الأنظمة السياسية فسادا في العالم، تديره أحزاب مفترسة تنهب خزينة الدولة وتبتز المواطنين. وقد أثبتت هذه الأحزاب عجزها عن تقديم أبسط الخدمات، من كهرباء ومياه نظيفة ومستشفيات وشبكات صرف صحي. وبدلا من الفوز في الانتخابات بناء على سجل من تقديم الخدمات أو برامج سياسية واضحة، اعتمدت هذه الأحزاب الطفيلية في السابق على التحريض الطائفي لدفع الناس إلى صناديق الاقتراع. أما اليوم، وبعد أن فقد هذا الخطاب فاعليته، فقد لجأت إلى شراء الأصوات بالجملة عبر المليارات المنهوبة من المال العام، فيما تُحوّل الفائض إلى جيوبها الخاصة وخزينة النظام الإيراني المترنح.

font change

مقالات ذات صلة