يشكل أبو الطيب المتنبي أحد أعمدة الشعر العربي، إذ أطلق تجربة فريدة تتسع على آفاق واسعة من الحكمة والمغامرة والتأمل الوجودي. تتجلى في قصيدته روح جموح متصاعد، يستمد حضوره من ثقة متفردة ورؤية تمتد لتشمل الإنسان وتجربته في كل زمان ومكان. يجمع شعره بين بريق الفروسية ورهافة التأمل، ويتقاطع صوت الذات مع حركة العالم في نسيج لغوي متين، يمزج بين الصلابة والدقة والرهافة والإيحاء. وتمتد قدرته الاستثنائية على صوغ المعنى في صور مشتعلة، مما أرسى نموذجا للشاعر الذي يقيم داخل اللغة مجده الفكري والروحي، حاملا صوته إلى ما وراء حدود عصره.
تنبه النقد العربي والعالمي إلى هذه الخصائص منذ القرون الأولى حتى العصر الحديث، فركز على قدرة المتنبي على الجمع بين الفكر العميق والخيال الواسع، وأشاد بابتكاره الأسلوبي وتجربته الذاتية التي تتخطى المألوف. حيث تناول النقاد التراثيون مثل المعري والواحدي وابن جني شعره من زاوية البلاغة والمعنى، فيما ركز المفكرون والباحثون الحديثون على صوغ المتنبي للعلاقة بين الفرد والوجود، وقدرته على تحويل اللغة إلى وعاء للفكر والفلسفة.
ينظر إلى شعره كمختبر متجدد للأفكار، وميدان مفتوح لتجربة اللغة والصورة، مما جعله مرجعا مركزيا لكل دراسة تهدف إلى فهم بنية الشعر العربي وإمكاناته الإبداعية، وقدرته على احتضان الفكر والخيال في انسجام يثير دهشة القارئ في كل عصر.
يقدم الناقد الإماراتي علي بن تميم في كتابه الجديد "عيون العجائب– في ما أورده أبو الطيب من اختراعات وغرائب"، الصادر عن "مركز أبوظبي للغة العربية" (2025)، عملا نقديا ينهض من صميم التجربة الشعرية العربية، وينطلق من معين المتنبي الذي لا يزال منذ قرون يفيض طاقة ومعنى، حيث يتعامل المؤلف مع المتنبي من موقع المتأمل في جوهر اللغة، فيرصد نقاط التكوين الأولى التي صاغت حضوره، ويرى في شعره فضاء مفعما بالحكمة، وممتلئا بصور تفتح العين على عوالم لا تنتهي.



