قمة "المنامة 2025"... من التحالف إلى "التكتل التفاوضي"

ترمب ودول مجلس التعاون الخليجي وإعادة هندسة العلاقات

أ.ف.ب/ المجلة
أ.ف.ب/ المجلة

قمة "المنامة 2025"... من التحالف إلى "التكتل التفاوضي"

لا يمكن النظر إلى الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب (2017-2021) بكونها مجرد تحولٍ في مسار السياسة الخارجية الأميركية، بل كانت بمثابة تحوّل جيوسياسي عميق أعاد تقييم بنية التحالفات الدولية، وترك أثرا واضحا في أكثر مناطق العالم حساسية، وعلى رأسها منطقة الخليج.

لقد مثّلت قطيعة ضرورية مع بعض التقاليد الدبلوماسية التي أرستها واشنطن، والتي كانت تستند إلى توازن المصالح وشبكة معقدة من الالتزامات. في المقابل، قدّمت إدارة ترمب توليفة سياسية تقوم على معايير مختلفة ترتكز على: توثيق العلاقات الشخصية، والبرغماتية التجارية الواضحة، وإعادة صياغة التحالفات من منظور "الصفقة" المباشرة التي يُقاس نجاحها بميزان الربح والخسارة.

لقد هيمنت لغة المصالح المباشرة على خطاب الدبلوماسية، وحلّت العلاقات الشخصية مع القادة محل بعض القنوات البيروقراطية، بينما تصدّرت عقيدة "أميركا أولا" المشهد لتفرض واقعا جديدا على الحلفاء والخصوم على حد سواء.

لم يكن هذا التحول مجرد تغيير في الأسلوب، بل كان تغييرا جوهريا في الفلسفة التي تحكم علاقة أميركا بالعالم، وتحديدا مع حلفائها في الخليج. فنظرة ترمب إلى المنطقة لم تعد تعتبرها فقط حليفاً استراتيجياً لضمان أمن الطاقة العالمي، بل شريكا تجاريا واستراتيجيا عليه أن يتحمّل جزءا أكبر من التكاليف الأمنية المتبادلة. وقد جاءت مخرجات القمة الخليجية السادسة والأربعين في المنامة في ديسمبر/كانون الأول 2025، لتؤكد استيعاب الخليج لهذا الدرس، حيث لم تعد دول المجلس تكتفي برد الفعل، بل بادرت- عبر الدعوة لإنشاء دروع دفاعية مشتركة وتعزيز تكتلها الاقتصادي- برسم معالم استراتيجيتها الجماعية للتعامل مع هذا الواقع.

لم تكن قمة الرياض مجرد حدث بروتوكولي، بل كانت احتفالية ضخمة بالصفقات، أُعلن فيها عن اتفاقيات استثمارية وعسكرية بمليارات الدولارات

من خلال ستة محاور رئيسة مترابطة، أعادت إدارة ترمب في فترتها الأولى هندسة التحالفات والمصالح والأولويات في الخليج العربي. يقوم هذا المقال باستكشاف تلك المحاور بالتفصيل، ثم استشراف مستقبل هذه العلاقات في ظل ولايته الثانية التي بدأت في يناير/كانون الثاني 2025، وفي مشهد جيوسياسي متغير أصبحت فيه دول الخليج العربي فاعلا أكثر استقلالية.

دبلوماسية الصفقات وتجاوز المؤسسات بين 2017 و2021

كانت السمة الأبرز لسياسة ترمب الخارجية هي تفضيله المطلق للعلاقات الشخصية على القنوات المؤسسية، مدفوعا بنظرته كرجل أعمال وبشكوكه العميقة تجاه ما يعتبره "الدولة العميقة" وعملياتها البيروقراطية المعقّدة. نظر ترمب إلى العلاقات الدولية بمنظور الصفقات الثنائية، حيث تتفوق الثقة الشخصية والتفاهمات المباشرة بين صناع القرار على البروتوكولات المعقدة.

الجلسة الافتتاحية للقمة الخليجية السادسة والأربعين في البحرين

وقد وجد هذا المنهج أرضا خصبة في الخليج العربي، حيث طبيعة الحكم تتيح اتخاذ قرارات حاسمة على أعلى المستويات. لقد حوّل هذا النهج التحالفات الاستراتيجية إلى ما يشبه "الصفقات التجارية"، حيث أصبحت لغة الأرقام والاستثمارات ومبيعات الأسلحة مقياسا واضحا لقوة العلاقة.

وكان اختياره الرياض كأول وجهة خارجية له في مايو/أيار 2017 بمثابة الإعلان الصريح عن هذه العقيدة، فقد كانت الزيارة تهدف إلى طمأنة حلفاء الخليج، وتحذير إيران، وفي الوقت نفسه إحداث قطيعة واضحة مع فتور العلاقات الذي ساد فترة رئاسة أوباما، خصوصا بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني الذي كان مصدر قلق رئيس لدول المنطقة.

لم تكن قمة الرياض مجرد حدث بروتوكولي، بل كانت احتفالية ضخمة بالصفقات، أُعلن فيها عن اتفاقيات استثمارية وعسكرية بمليارات الدولارات. كانت رسالة ترمب للداخل الأميركي هي الأهم: تُقاس العلاقة الآن بالوظائف وحجم المنفعة الاقتصادية المباشرة للولايات المتحدة.

وقد تعزز هذا النهج الشخصي بالزيارات المتكررة من دائرته المقربة، وعلى رأسهم صهره ومستشاره جاريد كوشنر، الذي بنى خطوط اتصال مباشرة ومؤثرة مع صناع القرار في الرياض وأبوظبي. هذا الأسلوب، ورغم أنه تجاوز القنوات الرسمية في وزارة الخارجية، إلا أنه منح قادة الخليج قناة مباشرة وغير مسبوقة إلى رأس هرم السلطة في واشنطن.

وقد تجلى أثر هذا المنهج في الكثير من المواقف التي فضّل فيها ترمب الاعتماد على تفاهماته المباشرة مع القادة، ليكشف عن جوهر عقيدته بشكل قاطع: التحالفات لا تُبنى على فلسفة سياسية مشتركة بقدر ما تُبنى على مصالح مادية متبادلة وقابلة للقياس.

تُعد "اتفاقيات أبراهام"، التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، الإنجاز الدبلوماسي الأبرز والأكثر ديمومة لإدارة ترمب الأولى

المواجهة مع إيران كحجر زاوية

شكلت سياسة "الضغوط القصوى" ضد إيران العمود الفقري لاستراتيجية ترمب في الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى. كان قراره بالانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي الإيراني في مايو/أيار 2018 هو الخطوة الأكثر حسما.

فمن وجهة نظره، كان الاتفاق معيبا بشكل جوهري، ليس فقط لفشله في معالجة برنامج إيران للصواريخ الباليستية، بل أيضا بسبب "بنود انقضاء الصلاحية". كما رأى أن الاتفاق أتاح لإيران تعزيز نفوذها الإقليمي.

لذلك، كانت استراتيجيته متعددة الأبعاد ومصممة لشل النظام الإيراني عبر فرض حزمة عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، وحملة عزلة دبلوماسية، وتهديد عسكري مباشر وصل ذروته باغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020.

هذه السياسة المتشددة تجاه إيران لم تكن مجرد موقف أميركي، بل شكلت نقطة "تقارب استراتيجي" مع دول الخليج وإسرائيل. لقد أوجد ترمب "عدوا مشتركا" واضحا، مما سرّع بشكل هائل من وتيرة التقارب الأمني والاستخباراتي الذي كان يجري بهدوء خلف الكواليس.

أصبحت المواجهة مع إيران هي البوصلة التي توجه التحالفات، حيث نظرت تلك الأطراف إلى طهران بعين الريبة بسبب سياساتها التوسعية. وبناء على تبني إدارة ترمب الكامل لهذه القناعة، أرسلت رسالة واضحة بأنها تقف بحزم إلى جانب حلفائها. هذا التوافق في تحديد التهديد الأكبر أدى إلى تهميش الأولويات التقليدية، وهو التحول الذي مهد الطريق مباشرة لـ"اتفاقيات أبراهام"، حيث تفوقت المخاوف الأمنية المشتركة على الاعتبارات السياسية التاريخية.

"اتفاقيات أبراهام" وهندسة السلام الجديد

تُعد "اتفاقيات أبراهام"، التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، الإنجاز الدبلوماسي الأبرز والأكثر ديمومة لإدارة ترمب الأولى. لم تكن هذه الاتفاقيات مجرد سلسلة معاهدات، بل كانت تتويجا لاستراتيجية إقليمية، وإيذانا بولادة نظام جيوسياسي جديد.

ويكمن جوهر هذا التحول في إحداث قطيعة تاريخية مع عقود من الدبلوماسية العربية عبر فصل مسار إقامة العلاقات مع إسرائيل عن مسار القضية الفلسطينية. فبينما كان الإجماع العربي، الذي تبلور في مبادرة السلام العربية عام 2002، يربط أي تطبيع بمبدأ "الأرض مقابل السلام"، قدّمت اتفاقيات أبراهام نموذجا بديلا هو "السلام مقابل الازدهار والأمن"، حيث يقوم التطبيع على المصالح المشتركة المباشرة، معتبرا أن التعاون الاقتصادي والأمني يمكن أن يخلق واقعا جديدا يسبق الحلول السياسية التقليدية.

لم تكن هذه الاتفاقيات وليدة عملية تفاوضية تقليدية، بل كانت النتيجة المباشرة لتشكيل المحور الإقليمي المناهض لإيران. لقد تمكّنت إدارة ترمب من إقناع الدول الموقّعة بأن التعاون المفتوح مع إسرائيل سيمنحها مزايا استراتيجية كبرى، لا سيما في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والأمن السيبراني، والتعاون الاستخباراتي.

لم يتخلَّ ترمب عن طرح نفسه كضامن للأمن، لكنه أعاد صياغة تصوره، خالقا حالة من "الغموض الاستراتيجي" البنّاء الذي دفع دول الخليج نحو سياسات تهدف إلى تنويع مصادر أمنها

وكان دور فريق ترمب، بقيادة جاريد كوشنر، محوريا في هندسة هذه الصفقات عبر استخدام النفوذ الأميركي وتقديم حوافز ملموسة ومصممة لكل دولة على حدة، كصفقة مقاتلات "إف-35" لدولة الإمارات العربية المتحدة. وبهذا، لم تكن "اتفاقيات أبراهام" مجرد سلام بين دول، بل إعادة هيكلة للنظام الإقليمي برمته، قائمة على برغماتية المصالح في مواجهة التهديدات المشتركة، وهو ما أدى بالضرورة إلى تهميش مركزية القضية الفلسطينية في الدبلوماسية الإقليمية.

ورغم ذلك، فإن هذا النموذج واجه حدوده عند اللاعب المحوري في المنطقة، المملكة العربية السعودية. ففي حين قبلت الإمارات والبحرين بالنموذج البديل، تتمسك السعودية بموقفها الثابت والمعلن، والذي تم تجديده مرارا، بأن أي اتفاق يجب أن يمر عبر مسار واضح يفضي إلى قيام دولة فلسطينية. هذا الموقف لا ينبع فقط من الالتزام التاريخي بالقضية، بل أيضا من وعي الرياض بمكانتها كقائدة للعالمين العربي والإسلامي ومسؤوليتها التي تفرضها هذه المكانة.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع بعض قادة الخليج خلال اجتماع حضره مع دول مجلس التعاون الخليجي الست في الرياض في 14 مايو 2025.

ولهذا السبب، وحتى إدارة ترمب البرغماتية أدركت أن ثمن الاتفاق مع السعودية أعلى وأكثر تعقيدا، ولذلك لم تمارس عليها ضغوطا بنفس المستوى، مدركة أن التعاون الاستراتيجي القائم مع الرياض في ملفات أخرى كانت له الأولوية.

الالتزام الأمني كشراكة تعاقدية

ترجمت إدارة ترمب شعار "أميركا أولا" إلى مطالبة صريحة للحلفاء بتحمل أعبائهم المالية مقابل أمنهم، محاولة تغيير طبيعة التحالف الأمني بشكل جذري، من شراكة استراتيجية تقليدية إلى علاقة تعاقدية واضحة تُعتبر فيها الحماية الأميركية "خدمة" متبادلة لها التزاماتها. كان خطاب ترمب المتكرر حول "الحلفاء" جزءا لا يتجزأ من عقيدته، وتجسد في ضغوطه المستمرة لزيادة الإنفاق الدفاعي وشراء الأسلحة الأميركية كشرط أساسي لاستمرار الحماية.

وقد بلغ هذا النهج ذروته بعد الهجمات على منشآت النفط في بقيق وخريص عام 2019. فرغم اتهام إيران، كان رد فعل ترمب العسكري مدروسا، حيث ربط أي تحرك بطلب وتوجيه سعودي، في استجابة فُسرت على أنها تردد في تطبيق الضمانات الأمنية التقليدية. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة "حافز استراتيجي"، حيث أدرك صناع القرار في الخليج أن الاعتماد المفرط على المظلة الأمنية الأميركية لم يعد خيارا مضمونا.

ورغم ذلك، لم يتخلَّ ترمب عن طرح نفسه كضامن للأمن، لكنه أعاد صياغة تصوره، خالقا حالة من "الغموض الاستراتيجي" البنّاء الذي دفع دول الخليج، ربما عن غير قصد، نحو سياسات خارجية أوضح وأكثر استقلالية تهدف إلى تنويع مصادر أمنها. ولعل النقاشات الجادة التي شهدتها قمة المنامة الأخيرة حول إنشاء "قبة صاروخية مشتركة" ونظام دفاعي موحد، تمثل التجسيد العملي لهذا النضج، إذ تنتقل دول الخليج من مرحلة شراء الحماية الفردية إلى مرحلة بناء منظومة الردع الذاتي الجماعي. ولا أدلّ على هذا التحول من الاتفاق الأمني الذي عقدته السعودية مع باكستان في سبتمبر/أيلول 2025، والذي يُعتبر مثالا واضحا على البحث عن بدائل استراتيجية لتقليل الاعتماد على حليف واحد.

قد يختفي أسلوب ترمب المباشر لاحقا، لكن جوهر "العلاقة التعاقدية" من المرجح أن يبقى لأنه يعكس تحولا أعمق في المصالح الأميركية.

عقيدة الطاقة والمصلحة المزدوجة

فرضت سياسة ترمب في مجال الطاقة علاقة مزدوجة غير مسبوقة مع دول الخليج. فمن ناحية، حولت ثورة النفط الصخري الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط في العالم، مما أدى إلى تحقيق "استقلالية نسبية في مجال الطاقة". هذا التحول جعل واشنطن منافسا مباشرا لدول الخليج على الحصص السوقية.

ومن ناحية أخرى، ورغم هذا الوضع التنافسي، لم يتردد ترمب في التدخل شخصيا في قرارات "أوبك بلس" بما يخدم مصالحه. وتجلى ذلك بوضوح في ربيع 2020، عندما أدت حرب الأسعار بين السعودية وروسيا بالتزامن مع جائحة "كوفيد-19" إلى انهيار تاريخي في أسعار النفط، هدد بإفلاس صناعة النفط الصخري الأميركية.

في تلك اللحظة الحرجة، مارس ترمب ضغوطا دبلوماسية هائلة على الرياض وموسكو. وقد نجح تدخله في فرض اتفاق تاريخي لخفض الإنتاج أنقذ المنتجين الأميركيين. كشفت هذه الحادثة عن الطبيعة البرغماتية البحتة لسياسته، حيث تصرفت واشنطن كمنافس ومنسق في آنٍ واحد، في علاقة محكومة بعقيدة الهيمنة الأميركية على سوق الطاقة.

العلاقات في الولاية الثانية وما بعدها (2025 -)

إن فهم الديناميكيات التي أرساها ترمب في ولايته الأولى ضروري ليس فقط كتحليل تاريخي، بل كمدخل أساسي لقراءة الحاضر واستشراف المستقبل. فمع عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، نشهد بالفعل نسخة مكثفة وأكثر جرأة من نهج ولايته الأولى، فهو الآن رئيس في ولايته الثانية، متحرر من قيود السعي لإعادة انتخابه.

فعلى سبيل المثال، عندما كرر اختياره للرياض كأول وجهة لزياراته الخارجية في مايو 2025، عقد فيها قمة كان الاقتصاد ومشاريع "رؤية 2030" العملاقة هما موضوعاها الرئيسان، مما يؤكد استمرارية دبلوماسية الصفقات التي تجد في التحول السعودي أرضية خصبة.

كما أن سياسة "الضغوط القصوى" تجاه إيران عادت بالفعل إلى الواجهة. باختصار، تُثبت ولايته الثانية أنها استمرار للولاية الأولى، ولكن بوتيرة متسارعة، مع اعتماد أكبر على الدائرة المخلصة من المستشارين.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال القمة العربية الإسلامية الأميركية في مركز الملك عبد العزيز للمؤتمرات في الرياض في 21 مايو 2017.

على المدى الطويل، يبدو جليا أن العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها، فقد أحدثت فترة ترمب الأولى تحولا هيكليا ونفسيا، حيث تغيرت طبيعة الثقة في صورة الحليف الذي يمكن التنبؤ بتصرفاته. فعوامل استراتيجية أميركية أعمق، كالاكتفاء الذاتي من الطاقة والتركيز المحوري على منافسة الصين، ستظل تدفع الإدارات الأميركية المستقبلية لمطالبة حلفاء الخليج بتحمل مسؤوليات أكبر تجاه الأمن الإقليمي.

قد يختفي أسلوب ترمب المباشر لاحقا، لكن جوهر "العلاقة التعاقدية" من المرجح أن يبقى لأنه يعكس تحولا أعمق في المصالح الأميركية.

لقد استوعبت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، هذا الواقع الجديد وتكيفت معه استباقيا، عبر تنويع السياسة الخارجية، وتعميق الشراكات الاقتصادية مع قوى عالمية كالصين، والحفاظ على حوار برغماتي مع روسيا، وتعزيز الاعتماد على القدرات الذاتية. لم يعد الهدف هو الاعتماد الكلي على الحليف الأميركي، بل بناء سياسة خارجية مرنة تهدف إلى "إدارة العلاقات" مع أقطاب متعددة، وليس فقط "الحفاظ على تحالف" مع قطب واحد.

قمة المنامة 2025... من التحالف إلى "التكتل التفاوضي"

في هذا السياق، شكلت القمة الخليجية السادسة والأربعون التي استضافتها مملكة البحرين في ديسمبر/كانون الأول 2025 نقطة ارتكاز محورية في إعادة تعريف العلاقة مع إدارة ترمب. فلم تكن هذه القمة مجرد لقاء بروتوكولي، بل كانت بمثابة تدشين لـ"الكتلة الخليجية الموحدة" التي تفاوض واشنطن من منطلق القوة والتكامل، لا من منطلق الحاجة والتبعية.

من منظور خليجي، سيكون عام 2028 عاما للتحضير لمرحلة ما بعد ترمب. فبعد ثماني سنوات- متقطعة- من السياسة الخارجية التي تمحورت حول شخص الرئيس، ستواجه المنطقة حالة جديدة من عدم اليقين

لقد بعث "إعلان المنامة" برسائل بالغة الدلالة لواشنطن، أبرزها التأكيد على أن أمن دول المجلس "كلٌ لا يتجزأ"، وأن أي اعتداء على إحدى الدول هو اعتداء على الجميع. لكن الأهم من الشعار السياسي هو الخطوات الإجرائية التي رافقته، وتحديدا التوافق على تسريع مشاريع التكامل الاقتصادي والسوق المشتركة، والتوجه نحو بناء منظومة دفاعية موحدة ضد التهديدات الصاروخية.

هذه الإجراءات تعني عمليا أن الخليج قرر مواجهة ضغوط "الصفقات الفردية" التي قد يمارسها ترمب عبر التمترس خلف "المصالح الجماعية". كما أظهرت القمة توازنا دقيقا في السياسة الخارجية، فبينما أكد القادة على الشراكات الاستراتيجية الدولية، جددوا التزامهم بحل الدولتين ودعم غزة ورفض تهجير الفلسطينيين، مما يضع خطوطا حمراء واضحة أمام أي محاولات أميركية لتجاوز الثوابت السياسية للمنطقة مقابل التطبيع الاقتصادي.

ماذا بعد؟

بعد ثلاث سنوات من الآن، ومع اقتراب نهاية الولاية الثانية للرئيس ترمب في عام 2028، من المتوقع أن تكون العلاقات الأميركية-الخليجية قد وصلت إلى حالة من "البرغماتية المتبادلة"، تصبح فيها الصفقات الاقتصادية والاستثمارات المباشرة هي اللغة التي تحكم التحالف الاستراتيجي.

ستكون عقيدة "أميركا أولا" قد تركت أثرا عميقا، يتمثل في توقع واشنطن المستمر بأن يقوم حلفاؤها بتمويل جزء كبير من تكاليف الأمن الإقليمي. وفي الوقت نفسه، سيتصاعد التحدي الأكبر المتمثل في المنافسة الأميركية-الصينية. وبحلول عام 2028، من المرجح أن تزيد واشنطن من محاولات الضغط على دول الخليج للحد من علاقاتها التكنولوجية والاقتصادية مع بكين، مما يضع هذه الدول في موقف استراتيجي حرج يتطلب منها موازنة دقيقة بين شريكها الأمني التقليدي وأكبر شركائها التجاريين.

من منظور خليجي، سيكون عام 2028 عاما للتحضير لمرحلة ما بعد ترمب. فبعد ثماني سنوات- متقطعة- من السياسة الخارجية التي تمحورت حول شخص الرئيس، ستواجه المنطقة حالة جديدة من عدم اليقين.

ونتيجة لذلك، ستكون دول الخليج قد رسخت بالفعل سياساتها الخارجية القائمة على "الاستقلالية الاستراتيجية". وهذا يعني تعميق الشراكات مع قوى عالمية متعددة، وتعزيز القدرات الدفاعية الذاتية، والاستعداد للتعامل مع أي إدارة أميركية مستقبلية من منطلق إدارة المصالح المشتركة، وليس الاعتماد الكامل، وهي بذلك تكون قد استوعبت الدرس الأهم من حقبة ترمب بضرورة امتلاك زمام المبادرة في عالم متغير.

font change